الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
40- ومن الرد على البكري ومن الرد على الأخنائي ومن الرد على أهل المنطق. القواعد 536-548‏
تاريخ النشر: ٠٣ / صفر / ١٤٣٤
التحميل: 2520
مرات الإستماع: 2944

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله-:

"والأمور التي تُفعل عند زيارة القبور مراتب:

أبعدها عن الشرع أن تسأل الميت حاجة أو تستغيث به؛ وهو من جنس عبادة الأصنام.

الثاني: أن يظن أن الدعاء عند قبره مُستجاب، أو أفضل من الدعاء في المساجد؛ فيقصد زيارته لذلك أو للصلاة عنده، أو لأجل طلب حوائجه منه، فهذا أيضًا من المُنكرات باتفاق الأئمة.

الثالث: أن يسأل صاحب القبر أن يدعو الله له، وهذا بدعة باتفاق المسلمين".

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكما مضى من أن هذه الرسالة الرد على البكري التي هي كتاب: "الاستغاثة"، ومضى الكلام على هذا الكتاب، وأن ذلك مما يتصل بالقبور والأعمال التي يقوم بها القبوريون من الاستغاثة بالأموات ودعاءهم، وكذا تكلم على التوسل.

فهنا يقول: الأمور التي تُفعل عند زيارة القبور، يقصد المُنكرة، وإلا فإن الأمور المشروعة هي الزيارة الشرعية للقبر، وقول ما جاء عن النبي ﷺ: السلام عليكم دار قوم مؤمنين[1]، وكذلك الدعاء لهؤلاء المقبورين يدعو لهم لا بأس بذلك.

لكن هذه الأمور المُنكرة يقول: هي على مراتب، الأول والأبعد عن الشر أن تسأل الميت حاجة أو أن تستغيث به وهو من جنس عبادة الأصنام، يعني: أن يتوجه إلى المقبورين بالدعاء وطلب الحاجات؛ فهذا هو الشرك الأكبر، كأن يقول: أغثني، عافني، ونحو ذلك مما يفعله القبوريون إذا جاءوا إلى هذه الأضرحة، وما يُسمى بالعتبات، ونحو ذلك، فيسألونهم الحاجات؛ سواء كان ذلك بطريق الدعاء باللسان، أو كان ذلك باللسان الآخر وهو الكتابة، فيكتبون الأوراق، ثم يجعلونها في محل في هذا القبر، إما في ما يكون عليه من سياج ونحوه، أو يدخلونها في صندوق يوضع لهذا الغرض، أو يلقونها عند الضريح، وهذا أمر معلوم لا يخفى، ولما فُتحت الحُجرة النبوية في المرة الأولى لما كان ذلك في عهد الإمام عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كان مما ذكر القائد في ذلك اليوم والأمير وهو سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود في رسالة له معروفة يرد فيها على نائب الدولة العثمانية في بغداد فيقول: "لما فتحنا الحُجرة النبوية وجدنا فيها من الشرك الأكبر من دعاء غير الله "[2]، يعني: وجدوا رسائل مكتوبة من قِبل بعض الخلفاء العثمانيين، رسالة من سليم الثاني يقول: غلبنا عُباد الصليب، نستغيث بك يا رسول الله، انصرنا عليهم، ونحو ذلك، وضعت هذه الأوراق في الحُجرة النبوية، فهذا للأسف قد ذاع وشاع وانتشر.

وسيأتي في الرسالة الأخرى في الرد على الإخنائي أن الإخنائي قامت قيامته حينما أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مثل هذه المعاني، وإن كان رده كان على فُتيا كتبها شيخ الإسلام كما سيأتي قبل ذلك بمدة طويلة حينما سُأل عن مسألة الترخص برُخص السفر لمن قصد القبور وشد الرحال إليها، وأن هذا السفر غير مشروع فهل يُترخص له بالقصر ونحو ذلك أو لا؟

فالمقصود أن الإخنائي كما سيأتي قامت قيامته وشنع على شيخ الإسلام، وذكر أنه يُعادي الأنبياء والأولياء، ويُنكر يعني هذه الممارسات والأعمال عند قبورهم، وهذا الرجل كان بمنزلة كما يقال: قاضي القُضاة في زمانه، يعني: رئيس القُضاة، ويقول مثل هذا الكلام وفي كلامه من الشرك والقبورية الشيء الكثير، فالشاهد هنا هذا هو أعظم ما يُفعل عند القبور أن يُدعى هؤلاء الأموات من دون الله -تبارك وتعالى-.

الثاني: أن يظن أن الدعاء عند قبره مُستجاب، أو أفضل من الدعاء في المساجد، فيقصد زيارته لذلك أو للصلاة عنده، أو لأجل طلب حوائجه منه؛ فهذا أيضًا من المُنكرات، هذه الجملة: "أو طلب حوائجه منه" الواقع أنها تُلحق بالنوع الأول، لكن النوع الثاني هو أن يعتقد أن لهذه البُقعة مزية خاصة يُستجاب فيها الدعاء ويُستحب فيها الصلاة ونحو ذلك، ومن ثَم فإن هؤلاء يقومون بألوان العبادات عند القبور، فمن ذلك مثلاً: أنهم يعتكفون الاعتكاف الذي يكون في المساجد، يعتكفون عند القبور، ويكون لهم في ذلك من النذور وما إلى هذا، هذا يكون نذر أن يعتكف يومًا وليلة عند هذا القبر، وكذلك يصلون عندها اعتقادًا شرف وفضل ومزية لهذه البُقعة؛ فهذا مُنكر.

وذكر شيخ الإسلام وابن القيم بأن هؤلاء قد يُستجاب لأحدهم حينما يدعو عند القبر لسبب أو لآخر، إما لما قام في قلبه من حضور القلب وما إلى ذلك عند الدعاء، واستجماع أوصاف الدعاء المطلوبة، أو وقت إجابة، أو نحو هذا؛ فتُستجب الدعوة فيظن أن ذلك لكونه عند هذه البُقعة فيُفتن.

وقد يُستجاب لأحدهم فتنة له، فيكون ذلك سببًا لتمسكه بهذا الاعتقاد الفاسد، ومثل هذه القضايا يتناقلها الناس، وتشيع عندهم، فيتحدثون أن فلانًا قد دعا أو أنه هو عن نفسه دعا في ذلك المكان فاُستجيب له فيتهافت الناس، وهذا غير صحيح، ولهذا لا ينبغي تخصيص بُقعة حتى غير القبور يُدعى عندها ما لم يرد ذلك في الشرع، يعني: حتى بالتجارب بعض الناس قد يقول أنا جربت أدعو في المكان الفلاني ويُستجاب الدعاء، وتُنشر في رسائل الجوال، فهذا غير صحيح، ولا يصح نشره.

ويُلحق بذلك أيضًا ما يُقال: بأنه أدعية مُجربة لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فما ورد في الكتاب والسنة غُنية عن مثل هذه الأدعية، وللأسف الناس سِراع إلى مثل هذه الأمور، فيزهدون بالمأثور، ويتشبثون ويتعلقون بهذه الأمور التي لا أصل لها.

فالحاصل هنا اعتقاد فضل البُقعة، هو ما يدعو الميت، ولكنه يعتقد هذه البُقعة لها قُدسية، لها مزية؛ فيدعو الله يتحرى الدعاء عندها، ولهذا أنا أقول: إذا جاء الإنسان إلى المقبرة، أو قبر النبي ﷺ فإنه لا يتحرى الدعاء لنفسه قطعًا للذريعة، وسدًا لهذا الباب، حتى لو قال: أنا خطر لي الدعاء أنا فقط سلمت على النبي ﷺ ودعوت له، أو زرت القبر الفلاني ودعوت لصاحبه، فخطر لي أن أدعو لنفسي، نقول: لا يشتغل بالدعاء لنفسه في المقابر، كما لا يقرأ القرآن في المقبرة، وكذلك لا يُصلي في المقبرة، ولو كان لا يقصد الصلاة إلى القبور قطعًا للذريعة وسدًا لهذا الباب، ومن ثَم يُقال: بأن الإنسان يُسلم عند القبور كما جاء عن النبي ﷺ وله أن يدعو للميت، يدعو للميت لأن الميت بحاجة إلى الدعاء، ولكنه لا يتحرى الدعاء لنفسه في هذا المقام، المقابر ليست محلاً ليتحرى الإنسان الدعاء لنفسه عندها، سواء اعتقد فضل البُقعة أو لم يعتقد ذلك سدًا للذريعة، واحترازًا لجانب التوحيد، فهذا فيما يتعلق بالدعاء.

أما إذا دعا اعتقادًا لفضل هذه البقعة فهذا من المُنكرات بلا شك، وقد يُفضي ذلك إلى الغلو، لكن مثل هذا لا يُقال أنه شرك، ولا يقال: إن هذا الإنسان أشرك؛ ولكنه خالف العمل المشروع، وفعله هذا من المُنكرات.

الثالث: أن يسأل صاحب القبر أن يدعو الله له، وهذا بدعة باتفاق المسلمين، ما الفرق بينه وبين الأول؟

الأول: أن يتوجه إلى صاحب القبر يا بدوي أغثني، يا حُسين أغثني، فهذا هو الشرك الأكبر الذي له قرنان يُخرج من الملة.

النوع الثاني: الذي ذكره هنا أن يدعو الله يا رب، ويتحرى البُقعة.

النوع الثالث: أن يتوجه إلى صاحب القبر متوسلاً به إلى الله، كأن يقول: يا فلان اشفع لي عند الله، يا فلان أتوسل بك أن تدعو لي، أو أن تشفع لي، أو نحو ذلك عند الله -تبارك وتعالى-، هو يسأل الله، يقول: اللهم إني أتوسل إليك بفلان، هذا الذي يُسمى بالتوسل البدعي، التوسل على أنواع؛ منه ما هو مشروع، ومنه ما هو ممنوع، المشروع كما هو معلوم أن يتوسل الإنسان إلى الله بعمله الصالح مثلاً، أن يتوسل بدعاء أحد من الأحياء كالنبي ﷺ يستغيثون به، فلما توفي النبي ﷺ قال عمر: "اللهم إنا كُنا نستسقي بنبيك فتسقينا، وإنا نستسقي بعم نبيك العباس فاسقنا"[3]، فهذا توسل مشروع.

التوسل الممنوع: أن يتوسل بالأموات هو لا يدعو الميت أن يقضي له الحاجات يقول: انصرني اغفر لي، يقول: لا، هذا عند الله ، نحن لا نتوجه إلى غير الله، لكن ماذا يُريد؟ يقول: اللهم إني أتوسل إليك بفلان، أو يقول: يا فلان اشفع لي عند الله، أتوسل بك أن تشفع لي عند الله، أن يحصل لي كذا من الله، أن يغفر الله لي، أن يُعافيني من كذا، هو يطلب من الله يقول النفع والضُر كله بيد الله، ولا يجوز دعاء غير الله هو يقول هذا، ويأتي بالآيات الواردة في هذا الباب، وماذا تفعل أنت؟ قال: أنا فقط أتوسل بهذا الميت عند الله من أجل أن الله يغفر، ويرحم، أو يُعافي، أو نحو ذلك لمكانة هذا عند الله، يعني كما لو خاطب الحي وقال: ادعوا لي، لكن هذا ميت، هو بمنأى عنه، والأموات على الراجح لا يسمعون: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]، وهم في شُغل عن هذا الذي يدعوهم، فما الفرق بين هذا وبين فعل المُشركين الذين يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]؟

فيه فرق، فالمشركون كانوا يتقربون إليهم بالعبادة، ويقولون: هؤلاء شُفعاؤنا عند الله، يتقربون إليهم يعبدونهم، لماذا تعبدون هذه الأصنام؟ لماذا تعبدون الملائكة؟ لماذا تعبدون الجن؟ حتى قول المشركين: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، مثل هذا وجهوا إليهم الاستعاذة، فيذبحون للجن، يتقربون إليهم، يذبحون للأصنام، يُقربون القُربات لهذه الأصنام، فهذا شرك أكبر، ولو قالوا: هؤلاء نعبدهم ليقربونا إلى الله زُلفى، هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

الثاني: يختلف الثاني يقول: العبادة لا تكون إلا الله، ولا يجوز أن يُصرف شيء من العبادة إلا لله، لا يُذبح إلا لله، لا يدعا إلا الله، لا ينفع إلا الله، لا يضر إلا الله، لا يُصلى إلا لله، كل هذه الأشياء، ولا يُستغاث إلا بالله، هو يقول لك هذا، يقول: لا يجوز أن تقول: يا عيدروس أغثني، يا حُسين أغثني، يقول: ما يجوز هذا شرك أكبر، طيب أنت ماذا تفعل؟

قال: أنا أقول: يا فلان أتوسل بك إلى الله أن يغفر لي، أن يرحمني، أن يُعافيني، يعني الله وليس الميت، هذا توسل بدعي، اللهم إني أتوسل إليك بفلان، هذا لا يجوز بدعي، لماذا هو من قبيل البدعي؟

أولاً: هذا الميت بمنأى عنه ولا يسمعه.

الأمر الثاني: أن هذا لا يشرع.

الأمر الثالث: أن هذا من ذرائع الشرك من ذرائع الشرك، لكن هل هو شرك مُخرج من الملة؟ الجواب: لا، لكنه بدعي.

فهنا يقول: الثالث: أن يسأل صاحب القبر أن يدعو الله له، لاحظ هو لا يطلب من صاحب القبر أن يُعافيه أن يرزقه، لا، يقول: ادع الله لي أن يُغنيني أن يُعافيني أن يرزقني أن يغفر لي؛ لأنه يعتقد أن النفع والضُر بيد الله، فهذا لا يجوز، فهو من ذرائع الشرك، يقول: وهذا بدعة باتفاق المسلمين.

الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- بعض من تكلم فيه واتهمه أنه يُكفر المسلمين، وأنه، وأنه، وذكروا مثل هذه المسألة، فبين أن مثل هذا النوع من التوسل البدعي أنه لا يقول به؛ نحن قلنا: إنه بدعة، ولا يجوز، ولكن يقول: لا أُكفر من وقع في ذلك، بخلاف من توجه إلى صاحب القبر يدعوه من دون الله، عرفنا الفرق بين هذه الأمور الثلاثة، هذا بالنسبة للتوجه إليهم بالسؤال والدعاء.

يبقى أشياء ما قصدها شيخ الإسلام وإلا هي من جُملة المنكرات: الطواف بالقبر، الذبح له، النذر، وما إلى ذلك من اعتكاف، وألوان العبادات فهذا كله من الشرك، لكن هنا يتحدث عن مسألة السؤال والدعاء أنه على أنواع ثلاثة.

"أما كون النبي ﷺ يشعر بالسلام عليه فهذا حق، وهو يقتضي أن حاله بعد موته أكمل من حاله قبل مولده، وهذا لا ريب فيه".

كون النبي ﷺ يشعر بالسلام عليه هذا ثبت أنه يُبلغ السلام -عليه الصلاة والسلام-، بل جاء في بعض الأحاديث ما هو صريح بأنه يُبلغ أن فلان بن فلان قد صلى عليك الساعة، وهذا ثابت فمثل هذا؛ لكن النبي ﷺ في حياته البرزخية ليست كالحياة في الدنيا، ولا يُقال: إنه حي كحياته في الدنيا -عليه الصلاة والسلام-، وإنما هي حياة برزخية غيبية، يقول: فهذا حق، وهو يقتضي أن حاله بعد موته أكمل من حاله قبل مولده، وهذا لا ريب فيه، أكمل من حاله قبل مولده، حال النبي ﷺ قبل مولده هل كان يشعر بهذا؟ لم يُنقل أنه كان يشعر بشيء من ذلك، لكن ما قال شيخ الإسلام أن حاله بعد موته أكمل من حاله قبل موته؛ لأن الإنسان في الحياة له ثلاثة أحوال:

الحال الأولى: في الدنيا فذلك يكون حياة للجسد والروح تعمره والشعور والإحساس يكون على الجسد والروح تبع، يعني: الروح يقع لها لذة وألم لكن القدر الأكبر على الجسد في الدنيا الإحساس والألم والراحة والتعب، يقع على البدن أكثر من وقوعه على الروح، والروح تبع، إذا مات الإنسان كما يقول ابن القيم -رحمه الله- فإن الألم واللذة والنعيم والعذاب يقع على الروح والبدن تبع له[4]، وفي الحياة الآخرة يعني بعد البعث والنشور يكون على حال سواء، وهذا كمال النعيم أو العذاب، يقع على الروح والبدن على حد سواء، هذا هو الكمال، ومثل هذا إما يكون في الآخرة في الجنة أو في النار، لكن مثلاً: أرواح الشهداء: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، النبي ﷺ أخبر أنهم في حواصل جوف طير خُضر تسرح في أنهار الجنة[5]، وكذلك صح أن أرواح المؤمنين أيضًا نسمة المؤمن كذلك تعلق بشجر الجنة[6]، فهذا لكن الأجسام تكون تبعًا، لكن نعيم هؤلاء الذين استشهدوا كنعيمهم في الجنة بعد البعث والنشور ودخول الجنة؟

الجواب: لا، ذاك أكمل، وهكذا ما يحصل للمؤمن في القبر حينما يُفتح له نافذة لمقعدة في الجنة فيقال هذا منزلك فيأتي من روحها إلى آخره، هو يجد هذا، ويقول: ربي أقم الساعة، والآخر -نسأل الله العافية- يأتيه من حر النار إلى آخره، ويقول: ربي لا تُقم الساعة[7].

فحال هذا المؤمن ليست كحاله بعد البعث والنشور ودخول الجنة من ناحية النعيم، وقل مثل ذلك في حال الكافر، فحال النبي ﷺ في الحياة البرزخية هذا أمر غيبي لا يقال: إنه كما كان في الحياة الدنيا، ولا يقال أيضًا: إنه كما يكون في منزلته في الجنة بعد البعث والنشور ودخول الجنة، يقول ابن القيم -رحمه الله-:

لكن أرواح الذين استشهدوا في جوف طير أخضر الريان[8]

فيتنعمون، ولكن ليس كالنعيم الذي يكون لهم في الجنة.

"وليحذر العبد مسالك أهل الظلم والجهل الذين يسلكون مسالك العلماء، تسمع من أحدهم جعجعة ولا ترى طحنًا، فترى أحدهم أنه في أعلى الدرجات، وإنما هو يعلم ظاهرًا من الحياة الدنيا، ولم يحم حول العلم الموروث عن سيد ولد آدم -عليه الصلاة والسلام-، وقد تعدى على الأعراض والأموال بكثرة القيل والقال".

الله المستعان، هذه عبرة، هذه عبرة أن يحذر مسالك أهل الظلم والجهل، الظلم يعني البغي على الناس العدوان عليهم، لسانه لا يفتر من ذكرهم والوقيعة بهم، والجهل، والجهل يصدق أيضًا على العدوان ويصدق على قلة العلم.

الذين يسلكون مسالك العلماء يعني يتزيون بزيهم، وبمظهرهم، فالصورة والبزة بزة عالم في مظهره وصورته الظاهرة؛ لكن في المخبر ليس كذلك، تسمع من أحدهم جعجعة ولا ترى طحنًا، كلام كثير وجدل كثير واشتغال بما لا يعني، وعلم فيه خلط كثير سواء كان ذلك من العلوم الكلامية الفلسفية وما إلى ذلك، مع قلة العلم الصحيح الموروث من مشكاة النبوة، فهذا هو العلم الذي عليه المعول.

يقول: فترى أحدهم أنه في أعلى الدرجات، وإنما هو يعلم ظاهرًا من الحياة الدنيا ولم يحم حول العلم الموروث عن سيد ولد آدم، فقد تعدى على الأعراض إلى آخره، هذا يصدق على كثيرين وصنوف من الناس الذين ليست علومهم بتلك المراتب العالية حقًا، الموروثة من مشكاة النبوة، فيصدق على كل من تشبع بما ليس فيه، وتزيى بزي العلماء وهو خالي الوفاض، ويصدق أيضا ًعلى كل من كانت له بزة ظاهرة ولرُبما رُتب دينية، ونحو ذلك من ولايات في رئاسات شرعية كالقضاء، وغيره، ولكنه ليس عنده من العلم الموروث عن النبي ﷺ شيء يُذكر، وقد يكون هذا ممن يُشار إليه بالبنان باعتبار أنه حصّل علومًا ومعارف ونحو ذلك يظن أنه قد استغنى بهذه العلوم والعقليات عما جاء به الرسول ﷺ وهو ممن يعلم ظاهرًا من الحياة الدنيا مع غفلته وجهله بما جاء به الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فهو يعلم الأمور الدنيوية عارف به، مُعرض عن العلم الصحيح، لا يرفع بذلك رأسًا، ولا يسأل عمّا يحتاج إليه أو يتعلم ما هو بصدده؛ لأنه يرى أن هذه الأشياء لا قيمة لها ولا عبرة بها وأنها ليست هي العلم الذي ينبغي أن تُعقد عليه، والله المستعان.

فهؤلاء كما ذكر النبي ﷺ يقال للرجل: ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان[9]، قد يكون عند هذا الإنسان أشياء من المعارف والاكتشافات والاختراعات وأمور كثيرة وهو لا يُحسن يقرأ الفاتحة، قد لا يُحسن يُصلي، وقد لا يُصلي أصلاً، ولا يُحسن يتوضأ، فما يعرف هذه الأمور الأساسية من الدين، فمثل هذا لا قيمة له، ولا خير فيه، ولا في علمه، -نسأل الله العافية-، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الروم:7]، وكل ما كان العلم مُقتبسًا من مشكاة النبوة كان ذلك أعظم وأنفع وأرفع، وشرف العلم بشرف المعلوم، والإنسان يشرُف بقدر ما يحمل من العلم الصحيح والعمل مع النية؛ هذا الذي عليه المعول، وإلا ما عدا ذلك فالعلم وحده لا يكفي، والعمل وحده لا يكفي، والنية وحدها لا تكفي، النية لا بد لها من عمل، والعمل إن لم يكن معه نية صحيحة أو العلم معه نية صحيحة لا ينفع، وقد لا يزيده ذلك من الله إلا بُعدًا، نسأل الله العافية.

"والمأمور به أمران: عمل باطن وهو إخلاص الدين لله، وعمل ظاهر وهو ما شرعه الله لنا من واجب ومُستحب، وخلق كثير يعبدون غير الله، وخلق كثير يبتدعون عبادة لم يأذن بها الله، وكثير من الناس عملهم ليس خالصًا لله ولا موافقًا لشريعة الله؛ مُبتدعة ضُلال يُشرعون دينًا لم يأذن به الله".

يعني الآن هذا كله يدور على شروط قبول الأعمال: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فالمطلوب هو عمل باطن الذي هو الإخلاص؛ أن يتوجه إلى الله -تبارك وتعالى- مُخلصًا له الدين، لا يلتفت إلى ما لا يجوز الالتفات إليه من المقاصد الفاسدة: من الرياء، والسُمعة، فضلاً عن الشرك الأكبر.

وأما العمل الظاهر فهو أن يكون موافقًا لما جاء به الرسول ﷺ وبناء على ذلك فالناس على مراتب:

  • منهم من عنده إخلاص وصدق، ولكن ليس عند عمل موافق للمشروع، ما عنده عمل صحيح، بِدع ومُخالفات.
  • ومن الناس من يكون عنده عمل موافق للمشروع، وعناية بلزوم السنة ظاهرًا، ولكنه في الباطن تتقلب عليه نيته، فهو يلتفت هنا وهناك، ينتظر من الناس الثناء والمدح والإطراء والتعظيم وما أشبه ذلك، فهذا العمل لا ينفع.
  • ومن الناس من يكون فاقدًا للأمرين، -نسأل الله العافية- لا عمل موافق، ولا نية صحيحة، فهذه ظُلمات بعضها فوق بعض، ظُلمة العمل الظاهر، مع ظُلمة القصد الفاسد في الباطن.
  • وأعلى المراتب هو أن يكون الإنسان على نية صحيحة مع عمل صحيح، والإنسان عليه أن يُفتش دائمًا، وأن يُحاسب نفسه، فإن النية تتقلب لا أقول في كل دقيقة إنما في كل لحظة فيما هو أقل من طرف العين، حركة طرف العين حينما تطرف، والله المستعان.
"والعلم شيئان: إما نقل مُصدق، وإما بحث مُحقق، وما سوى ذلك فهذيان مزوق".

هذا ذكره أيضًا، وتكلمنا عليه في شرح مُقدمة أصول التفسير، يعني: هذا العمل إما نقل مُصدق ثابت من كلام الله أو كلام رسوله ﷺ، أما النقل الذي لا يُمكن أن يُتحقق منه كالمنقول عن بني إسرائيل مثلاً فمثل هذا ليس من هذا القبيل، يعني: ليس من العلم الذي يُعتمد عليه ويُبنى عليه الاعتقاد والتصور والحكم والعمل، هذا النقل المُصدق، طيب هل العلم نقل مُصدق فقط يعني موقوف كل العلم وكل أنواع العلم على النقل فقط؟

لا، هناك أشياء ترجع إلى النظر الصحيح، ولذلك تجد شيخ الإسلام أطال في الكلام كما مضى في التعليق على ما نُقل هنا في هذا الكتاب عنه من كتاب "درأ تعارض العقل والنقل" وأن العقل الصحيح لا يُعارض النقل الصحيح الصريح، لا تعارض بينهما، وذكر أيضًا أن كل ما ثبت في السنة لا يُعارض العقل، بل ذكر أن كل ما نُقل عن الصحابة وصح عنهم فإنه لا يُعارض العقل الصحيح بحال من الأحوال، فهذا الدليل من النظر صحيح مُعتبر إذا كان النظر هذا صحيح، ولذلك يُقال: الدليل النقلي يعني من الكتاب أو السُنة، والإجماع يرجع إليهما وهو دليل نقلي، أو من العقل، مثلاً الدليل العقلي والقياس على خلاف بين أهل العلم والأقرب أنه مُركب من الدليل النقلي والنظر الصحيح، يعني العقلي فهو مُركب من الدليلين القياس، فهذا القياس إذا استوفى شروطه فإنه يكون مقبولاً.

وقل مثل ذلك في الأدلة العقلية التي تُذكر سواء فيما ورد فيه أدلة نقلية ونحو نقول مثلاً: نستدل على علو الله بالنقل القرآن والسنة والإجماع، وكذلك نستدل عليه بالعقل، وكذلك نستدل عليه بالفطرة الصحيحة التي لم تتدنس، فصار النقل الكتاب والسنة والإجماع هذه أدلة أصلية، والعقل والفطرة أدلة مُكملة، يعني أدلة ثانوية مُكملة، ومن ثم فإن العلم الذي عليه المعول هو إما نقل مُصدق، وإما بحث مُحقق، يعني يقوم على أُسس صحيحة، سواء كان ذلك في الأمور العقلية أو الأمور التجريبية، يعني الأشياء التي قد ثبتت بالتجربة، أو عُرفت من طريق العقل، فالتجربة المُستمرة هي طريق من طُرق المعرفة والعلم والاكتشاف فهذا لا إشكال فيه تجريبيات، وكذلك ما كان مأخوذًا عن طريق الحِس، فإن هذه الأمور المحسوسة لا تُنكر، وكذلك أيضًا ما يُسمى بالوجدانيات؛ يعني ما يجده الإنسان في خاصة نفسه أو ما يجده عموم الناس، ما يجده في خاصة نفسه مثل: الجوع والعطش هو يعرف أنه عطشان أو جائع، وكذلك ما يجده الناس في نفوسهم؛ فهذا كله من العلم، ما يجدونه يعني مُشتركًا بينهم يتفقون على أن هذا كذلك.

فالحاصل: إما نقل مُصدق، وإما بحث مُحقق، ومن ثم يُقال هذه الأشياء التي يذكرها بعض الناس الآن يقولون مثلاً: هذا السِوار الذي يوضع باليد ويدّعون أنه مثلاً يُفيد في إعادة الترتيب والتوازن في مثلاً كهرباء الجسم مثلاً أو ذبذبات أو يقولون: إنه يُفيد في علاج الروماتزم والآلام ونحو ذلك، نقول: العلم إما نقل مُصدق، وإما بحث مُحقق، فمن أين لنا أن هذا يُفيد في هذه الأشياء؟ ما عندنا نقل، وليس عندنا أيضًا ما يُثبت ذلك من جهة العلم التجريبي، لو سألنا أهل العلم وأهل الاختصاص قالوا: ما في أي شيء في هذا إطلاقًا، فيبقى أن هذا من جُملة كما قال شيخ الإسلام: وما سوى ذلك فهذيان مزوق، هذيان مزوق.

ومثل الذين يقولون حتى في الأسماء الحُسنى وخواص الأسماء الحُسنى، هذا الاسم علاج لكذا، وهذا الاسم علاج لكذا، ما عندنا نقل، وليس عندنا شيء من التجربة حتى يقال: إن هذا من باب الطب، والطب مبناه على التجارب، ما في، فما الذي يُثبت؟

وقل مثل ذلك في استعمال المادة الفلانية لعلاج ذلك، ليس عندنا نقل، وليس عندنا تجربة؛ فهذا كله من قبيل الهذيان المزوق، وكثير مما يذكره أصحاب ما يُسمى بالتأثير، وكذلك البرمجة العصبية ونحو ذلك هو من قبيل الهذيان المزوق، وخيالات لا حقيقة لها، وأصحاب الاختصاص يُنكرون هذا، هذا الأمر كنا نعرفه منذ ظهرت، ولم يتغير شيء إلى الآن، ورأيت قبل نحو شهر رجلاً يُعتبر رئيسا أو له مرتبة على مستوى الدول العربية في البرمجة العصبية، فذكرت له رأيي في البرمجة، وأن هذا دجل مزوق، وأن هذا الكلام منه صحيح يعرفه العجائز، ومنه باطل لا يُدرك بعضه كثير من هؤلاء، وإنما هو كسب للمال، واستغفال لكثير من المساكين، فقال: نعم صحيح، هذا رئيس المُدربين وله رتبة مثل هذه، نيست ما كانت هذه المرتبة، وقال: وكبيرهم الذي علمهم السحر رجل غربي الذي يُعتبر رقم واحد في هذا، يقول: جلسنا معه جلسات كثيرة ودخل في الإسلام، يقول: الرجل رجع عن هذه، وأعلن رجوعه عنها، الذي ألف فيها الكتب، لكن بعد سنين بعد سنوات أُنفقت أموال، وحُصلت ملايين من هؤلاء البائسين، كأني أراهم في صالات وفي قاعات في فنادق يرجون أنهم يحصلون من هذا شيئًا من العافية والشفاء، أو العلم، والعقل، وترتيب الأذهان والأفكار وما إلى ذلك، وكنت أعجب وأتأمل في حالهم، وأقول في نفسي: هذا الذي يفتخر أنه أنفق ثمانين ألف ريال على هذه الدورات يعني حضورًا، كنت أقول في نفسي: عرفته قبلها وعرفته الآن بعد ما أنفق ما تغيرًا في شيء إطلاقًا، ما رأيت أي شيء، لا قليل ولا كثير، ما رأيت عليه زيادة لا في عقل، ولا في علم، ولا في عمل ولا في تعامل هو فلان، ولولا أنه يُخبر بهذا أنه حضر، وأنه أنفق، وأنه كذا ما علمت أصلاً أنه حضر؛ لأني لم أر فرقًا يُذكر.

يحتاج أن نذكر هذا الكلام لأنه لا زال تخرج أشياء جديدة بأسماء جديدة الآن وأشياء وثنيات، الناس يسألون عنها يقولون: ما حكمها؟ وهذه أشياء مُجربة، وهذه أشياء صحيحة، وهذه أشياء كذا.

قال -رحمه الله-:

"ومن الرد على الإخنائي".

هذا الرد على الإخنائي هي جاءت بهذا العنوان: "الرد على الإخنائي قاضي المالكية، واستحباب زيارة خير البرية، الزيارة الشرعية لا البدعية".

وأيضًا تُعرف بـ"الإخنائية" يعني شيخ الإسلام ذكرها في عدد من كتبه حتى في أواخر رسائله في السجن حينما كان يكتب على الفحم، ومُنعت منه، أُخرجت كُتبه، وأُخرجت أوراقه، والأقلام وكل شيء بسبب هذه المُشكلة الإخنائية، هذا الإخنائي فصار يكتب على الفحم، فكان الذي كتبه -رحمه الله- من ضمن الأشياء الأخيرة وهي موجودة ضمن "مجموع الفتاوى" بعض الرسائل أحيانًا نصف ورقة، يذكر فيها ما وقع خبرًا في السجن سجن القلعة الذي مات فيه، يعني هذه في آخر حياته كتبها في سجن القلعة، كان يذكر أحيانًا يقول: وأن الله قدر من الخير أمورًا لم تخطر على البال، وكان هذا السجن خير، فكان يذكر هذه الأشياء، ويقول: بأن الله قد أظهر وأخرج الكُتب التي كانوا لا يريدون خروجها ككتاب الإخنائية، أو الرد على الإخنائي، فخرجت من السجن هم ما كانوا يريدون خروجها بل كان أحد أهم الأسباب في سجنه بل السبب هو هذه المسألة، وأُخرجت منه الأوراق، والكُتب نحو ستين مُجلدًا، إضافة إلى أوراق مُبعثرة أُخرجت مع الأقلام من أجل أن لا يكتب ردًا على الإخنائي، فهذه شيخ الإسلام يُسميها: "الإخنائية".

وهذا كان له سبب على كل حال خلاصته وحاصله: أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان قد أفتى قديمًا يعني فُتيا في مسألة الترخص برُخص السفر في الأسفار غير المشروعة، الذين يشدون الرحال من أجل القبور هل يجوز لهم أن يترخصوا برُخص السفر؟

فذكر شيخ الإسلام القولين في المسألة الذي هو: هل يترخص إذا كان سفر معصية أو لا؟ يعني: هل الجهة مُنفكة أن السفر يُترخص فيه بغض النظر عن هذا السفر هل هو مشروع أو مُباح أو مُحرم؛ لأن الرُخص تتعلق بالسفر.

الآخرون قالوا: لا، سفر المعصية لا يترخص؛ لأن ذلك يكون من قبيل الإعانة له على معصيته، فالحاصل أن هذه فُتيا كانت لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وهي فُتيا قديمة كانت سنة سبعمائة وعشرة، وشيخ الإسلام -رحمه الله- دخل السجن عدة مرات، وآخر مرة هي هذه سجن القلعة بدمشق الذي مات فيه، ومعروف أن شيخ الإسلام توفي سنة سبعمائة وثمان وعشرين، فالُفتيا كانت سبعمائة وعشرة، ولهذا شيخ الإسلام -رحمه الله- وهو يقول: أخرجوا فُتيا منذ بضعة عشرة سنة أخرجوها يقول في مثل هذا الوقت، يعني: لغرض عندهم، فهذا قاضي الشافعية في بلاد الشام في دمشق أخرج هذه الفُتيا، وكانت الشام تابعة لمصر، وكان في ذلك الوقت الملك الناصر هو الذي يحكم مصر، فجاء قاضي الشافعية هذا وأخرج هذه الفُتيا القديمة في مسألة الترخص، وكتب إلى الملك الناصر أن شيخ الإسلام يُحرم زيارة قبور الأولياء والأنبياء، وذكر أشياء، شيخ الإسلام لم يتكلم على هذه المسألة، وما كانت الفُتيا أصلاً في هذا، فجمع الملك الناصر القضاة، اجتمع لهذا نحو أحد عشر قاضيًا برئاسة الإخنائي تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى الإخنائي المصري المالكي، هذا ولد سنة ستمائة وثمان وخمسين، وتوفي سنة سبعمائة وخمسين، نسبة إلى إخنا قُرب الإسكندرية، فهذا كان قاضي المالكية فترأس هذا المجلس الذي عُقد لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومُناقشة هذه الفُتيا، فالحاصل أنهم كتبوا بحبسه، فصدر الأمر من الملك الناصر الذي كان يُحب هذا الإخنائي، ويُقربه؛ حتى كان يقول: إن الموكب إذا غبت عنه -يعني انشغل بمجلس القضاء عن هذا الموكب موكب الملك الناصر-، ليس له مزية إن لم تكن فيه، فأنت الذي تُجمل الموكب.

فالحاصل أن الملك الناصر كتب إلى نائبه في دمشق واعتقلوا شيخ الإسلام وأدخلوه في سجن القلعة، فقام الإخنائي هذا يرد على شيخ الإسلام، ونسب إليه أشياء ما قالها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وأظهر فيها من الجهالات ما الله به عليم، شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: جاءتني هذه الرسالة فيها تضليل وحتى إنه إن لم يكن كفره فهو أوشك أن يُكفره، لكن جهّله، وضلّله، ورماه بالعظائم، وأن هذه ليست أول شذوذاته، وأنه قد قال قبلها كذا، وقال قبلها كذا، فيقول شيخ الإسلام: جاءني بعض الإخوان والمُحبين والتلاميذ وأصروا وألحوا وعزموا عليّ أن أكتب ردًا عليها، فشيخ الإسلام اشتغل وهو في السجن بالرد على هذا الإخنائي، فكتب هذه الرسالة، الإخنائي علِم أن شيخ الإسلام يرد عليه، فكان سيرد عليه وهو يعلم أنها تُدمر كل شيء بأمر ربها، فإذا جاءه رد شيخ الإسلام معنى ذلك أنه سيكون في حال لا يُحسد عليها، فكلم الملك الناصر، قال: الرجل الآن يكتب رد، فأمر الملك الناصر بإخراج كل الأوراق والكتب التي عنده، شيخ الإسلام كان كتبها انتهى فأُخرجت مع ما أُخرج فوضعت في مكتبة يُقال لها: المكتبة العدلية، ووضعت فيها فخرجت للناس، فأظهرها الله ، وكُتب لها تلخيص من بعض تلامذته، وهو التلخيص هذا أيضًا موجود في مجموع الفتاوى، تلخيص لهذه في ورقات قليل، وإلا هي كتاب يعني أكثر من مائتي صفحة، طُبع عدة طبعات، وفي بعض الطبعات المُحققة في مُجلد، هذه كتبها في الرد على هذا الإخنائي.

وتكلم فيها على هذا الرجل وأنه أحق بالتعزير، لا بكلام بطريق يصلح لأهل العلم، وكان شيخ الإسلام في غاية الإنصاف معه أيضًا، يقول: الرجل فيه دين، رسالته تدل على أنه فيه دين لكن فيه جهل عظيم، ومُغالطة، وسوء فهم، وقلة علم، وكذا، والإخنائي لجأ إلى شيخ الإسلام -رحمه الله- في بعض الأوقات مع أنه كان يُعاديه.

"فمسجد الرسول ﷺ نفسه يُشرع إتيانه، سواء كان القبر هناك أو لم يكن، وكل ما يُشرع في غيره من العبادات فإنه مشروع فيه، وسواء تعلق بالرسول: كالصلاة والسلام عليه".

الكلام الآن زيارة مسجد النبي ﷺ فلا مُلازمة بين شد الرحل للقبر، وشد الرحل إلى المسجد، فيُشد الرحل إلى المسجد: لا تُشد إلا إلى ثلاثة مساجد[10]، فيقول: أنا ما أُنكر شد الرحل إلى المسجد، أما الزيارة فإذا جاء إلى المدينة شد الرحل للمسجد، يزور قبر النبي ﷺ.

قال:

"كالصلاة والسلام عليه وسؤال الله له الوسيلة، والثناء عليه، والمحبة والتعظيم والتوقير وغير ذلك من حقوقه ﷺ، أو لم يتعلق بالرسول: كالصلاة والاعتكاف مع أنه لابد في ذلك من ذكر الرسول بالشهادة له والسلام عليه، وكذلك الصلاة عليه، وهذه العبادات وغيرها وحقوقه وغير حقوقه هي مشروعة في جميع المساجد، وإن لم يكن هناك قبره، بل في جميع البقاع إلا ما استثناه الشرع".

لأن هذا الرجل تكلم على شيخ الإسلام أنه يُزري بالأنبياء والأولياء، ويحتقرهم، وأنه لا يُقيم لهم حرمة، وأنه يستخف بهم، وأن هذا قريب من الكفر، أو أنه كفر، وكلام كثير، فشيخ الإسلام يقول: لم يكن شيء من هذا، وهذا تجني، ولم أتطرق لهذه القضايا، ولي رسائل، وشيخ الإسلام له عدة رسائل في مسألة شد الرحال إلى القبور، وفتاوى مُتعددة في هذا الموضوع، فيقول: كتاباتي موجودة، ورسائلي موجودة، وتطرقت إلى هذا الموضوع وبينت الزيارة الشرعية، وأنا أُجل الأنبياء والأولياء والصالحين، ولا أنكر زيارة القبور الزيارة الشرعية.

"من قامت عليه الحُجة من أهل البدع استحق العقوبة، وإلا كانت أعماله البدعية المنهي عنها باطلة لا ثواب فيها، وكانت مُنقصة له خافضة له مُسقطة لحرمته ودرجته، فإن هذا حكم أهل الضلال وجزاؤهم، والله حكم عدل، لا يظلم مثقال ذرة، وهو عليم حكيم".

من قامت عليه الحجة من أهل البدع استحق العقوبة، يعني: الآن عندنا رجل من أهل البدع قامت عليه الحجة وآخر لم تقم عليه الحُجة، فالذي يستحق العقوبة من قامت عليه الحُجة، أما الآخر الذي لم تقم عليه الحُجة فحكمه أن أعماله هذه البدعية باطلة، وأن مرتبته ناقصة بحسب ما عنده من البدع والانحرافات، لكنه لا يُعاقب قبل إقامة الحُجة، وهذا إنما يكون فيما يتطلب أو يتوقف على إقامة الحُجة، فإن هذه الأمور تختلف فهناك أشياء لا تحتاج إلى إقامة حُجة؛ لأنها من الوضوح بمكا،ن فمثل هذا مُباشرة يُعاقب من فعلها، بصرف النظر عن الأمثلة، يعني الآن الأشياء التي لا تحتاج إلى إقامة حجة في مسألة المنكرات والمُكفرات ونحو هذا، رجل يسب الله هذا يحتاج إقامة حُجة!، رجل يُمزق المصحف ويعرف أنه مصحف ويطأه بقدمه ويضعه في أماكن غير لائقة، هذا يحتاج إلى إقامة حُجة؟!

هذا لا يحتاج إلى إقامة حُجة، يسخر ويستهزأ بالرسول ﷺ ويرسم كاركتير وأشياء واستهزاء واستخفاف واضح؛ هذا ما يحتاج إلى إقامة حجة.

هناك أشياء قد تلتبس، قد تخفى على بعض الناس؛ فهنا يحتاج إلى إقامة الحُجة، وهذا التفصيل ذكره أهل العلم، الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمة الله عليه- ذكر هذه الأحوال.

"ولما كانت حاجة الناس إلى الرسول والإيمان به وطاعته ومحبته وموالاته وتعظيمه وتعزيره وتوقيره عامة في كل زمان ومكان كان ما يؤمر به من حقوقه عامًا لا يختص بغيره، فمن خص قبره بشيء".

يعني لا يختص بغيره ما يقصد لا يختص بغيره من الناس، وإنما يقصد لا يختص بغيره من المُتعلقات والأمور كالقبر مثلاً أن هذا لا يكون إلا عند قبره مثلاً، حقوق النبي ﷺ يُصلى عليه ويُسلم عليه من أي مكان، يُدعى له في أي مكان، فحقوقه عامه ﷺ وتوقيره مطلوب من قِبل الجميع، فهذا لا يختص بأمر آخر كالقبر مثلاً، فليس هناك أشياء لا تؤدى إلا عند القبر حتى السلام عليه من أي مكان، الصلاة عليه في أي مكان، فليس هناك شيء يختص بقبره -عليه الصلاة والسلام- مثلاً.

"فمن خص قبره بشيء من الحقوق كان جاهلاً بقدر الرسول ﷺ وقدر ما أمر الله به من حقوقه، وكل من اشتغل بما أمر الله به من طاعته شغله ذلك عمّا نهى عنه من البِدع المُتعلقة بقبره وقبر غيره، ومن اشتغل بالبدع المنهي عنها ترك ما أمر به الرسول من حقه؛ فطاعته هي مناط الساعة والنجاة".

هو هذا؛ لأن النفس هذه إذا شُغلت بالطاعة كان ذلك استغراقًا للأنفاس والأوقات والجوارح بالطاعات فصرفه ذلك عن المعصية، من اشتغل بالمعصية أو بالبدعة كان ذلك من قبيل استغراق الأنفاس والجوارح والأوقات بالعمل غير المشروع الذي لا يُحبه الله؛ فيكون انصرافًا ولابد عن العمل المشروع، ولذلك العلماء تكلموا كالشاطبي في "الاعتصام" بأن هذا الذي يشتغل بهذه البدع فإن ذلك يكون على حساب السُنن[11]، ونقل الآثار الكثيرة عن السلف في هذا المعنى؛ أن انتشار البدع يكون على حساب السُنن، وكلما ظهرت بدعة جديدة خفت مكان هذه البدعة من السُنة مثلها، وهكذا، فهذا أمر معلوم.

وابن جرير -رحمه الله- وإن كان هذا المعنى فيه نظر، -والله أعلم-، ابن جرير يُفسر قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فيقول: "إن اشتغاله بالصلاة اشتغال عن الفحشاء والمنكر في هذا الوقت"، هو مشغول بالصلاة فهي تنهى بهذا الاعتبار عن الفحشاء والمنكر، لا أن الصلاة تُمده بقوة يدفع بها نوازع الشر، ووساوس الشيطان وخطراته، ودواعي المعصية"[12]، ابن جرير يرى هذا، لكن الذي عليه كثير من المُحققين وهو الراجح أن هذا ليس هو المقصود، فهذا أحد المعاني الداخلة تحتها، والمعنى أكبر من هذا، وهو أن الإنسان الذي يُقيمها كما أمر الله يكون لها أثر ولا بد على هذا المُصلي، فيكون ذلك دفعًا لدواعي الشر في داخل النفس، وأيضًا ما يُلقيه الشيطان من الوساوس، وتزيين المنكر، والفاحشة، تؤثر فيه هذه الصلاة هذا التأثير.

هذا مُفيد جدًا بحيث إن الإنسان الذي يقول أنا كيف أتخلص من الاشتغال بالوساوس؟ كيف أتخلص من الاشتغال بالنوع المعين من المعاصي ... الخ؟

نقول: أشغل هذه الجوارح بطاعة الله فهذه النفس إن تُركت خالية فارغة فهنا يتسلل إليها الشيطان، وتتحرك فيها دواعي الشر، اشغل نفسك بالمعروف وبالطاعة.

"وقد أمرنا الله بالإيمان بالأنبياء وما جاءوا به، وفرض علينا طاعة الرسول الذي بُعث إلينا ومحبته وتعزيره وتوقيره والتسليم لحكمه، وأمرنا أيضًا أن لا نعبد إلا الله وحده ولا نُشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا، وفرق بين حقه الذي يختص به الذي لا يشركه فيه لا ملك ولا نبي، وبين الحق الذي أوجبه علينا لملائكته وأنبياءه عمومًا، ولمحمد خاتم الرسل وخير مُرسل الذي جاءه بالوحي خصوصًا؛ فإن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فاصطفى من الملائكة جبريل، ومن البشر محمد، وأخبر أن هذا القرآن نزل به هذا الرسول إلى هذا الرسول مُبلغًا عن الله".

الكلام واضح لا يحتاج إلى تعليق.

"وسائر الأنبياء علينا أن نؤمن بهم مُجملاً، وأما محمد ﷺ فعلينا أن نُطيعه في كل ما أوجبه وأمر به، وأن نُصدقه في كل ما أخبر به، وغيره من الأنبياء -عليهم السلام- علينا أن نؤمن بأن كل ما أخبروا به عن الله فهو حق، وأن طاعتهم فرض على من أُرسلوا إليهم، ومحمد أمرنا بما أمرتنا به الرسل من الدين العام، مثل: عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان بالملائكة والنبيين، وجُمل الشرائع، مثلما ذكره في سورة الأنعام، وسُبحان؛ بل وعامة".

سورة الأنعام وسورة الإسراء المقصود بذلك الوصايا في سورة الإسراء: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، فهذه الأمور مما اتفقت عليه الشرائع وهي سورة مكية، وكذلك سورة الأنعام سورة مكية، يقول تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، إلى آخره الوصايا التي في سورة الأنعام، فهذا مما اتفقت عليه الشرائع.

"مثلما ذكره في سورة الأنعام، وسُبحان؛ بل وعامة السور المكية، فإن ذلك مما اتفق عليه الرُسل، ولكن بعض الأمور التي يقع في مثلها النسخ، وخص الله محمدًا بأفضل الشرائع والمناهج".

يعني هذه الأمور الكُلية لا يقع فيها النسخ، الأصول التي اتفق عليها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مثل الإحسان والعدل، وكذلك أيضًا يعني إطعام الطعام، وحُسن الخُلق، والإيمان بالله -تبارك وتعالى-، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، كل هذه الأشياء هذه لا تُنسخ، ولا يتطرق إليها النسخ، ولكن النسخ يكون في أمور أخرى من التفاصيل.

وهنا يقول: بأن سائر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- عندنا الإيمان المُجمل، والإيمان المُفصل، الإيمان المُجمل بالأنبياء، والإيمان بالمُجمل بالكُتب، والإيمان المُجمل بالشرائع التي تضمنتها تلك الكُتب، فيكفي الإنسان أن يؤمن بأن الله قد أرسل رُسلاً إلى قومهم، هل يُشترط للنجاة أن يحفظ ويعرف هذا العامي أن يعرف أسماء الرُسل الذين ذُكروا في الكتاب والسنة؟

لا يُتشرط، لو أنه لم يسمع برسول واحد، عامي حفظ الفاتحة فقط وما قرأ القرآن، وما سمع بهؤلاء الرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام- لكن يعرف أن الله أرسل هؤلاء الرسل يؤمن بهم، هذا الإيمان يكفيه، وآخر سمع برسولين أو ثلاثة، قلت له عدد لي الرُسل؟ ذكر موسى وعيسى -عليهم السلام-، والباقي؟ قال: ما أعرف، طيب تؤمن بأن الله أرسل رُسلاً؟ قال: نعم، يكفيه أو لا يكفيه؟

يكفيه، هذ اسمه الإيمان المُجمل، والإيمان المُفصل أن يعرف كل واحد مما ورد في الكتاب والسُنة.

وكذلك الإيمان بالُكتب يكفي أن يؤمن أن الله أنزل كُتبًا: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، لكن هل يُشترط أن يعرف أسماء هذه الكتب الواردة في الكتاب والسنة؟ لا يُشترط، لكن إذا أتى عليه شيء من ذلك مر به فيجب عليه أن يؤمن لا يجحد وينُكر، لكن العلم المُفصل بهذه الأشياء والإيمان المُفصل لا يجب على كل مُكلف.

فيما يتعلق بنبينا ﷺ لو قال أحد من الناس أنا أؤمن أن الله أرسل رُسلاً ولا يعلم عن النبي ﷺ قليلاً ولا كثيرًا، فإن هذا لا يكفي، لا بد أن يعرف أن الله أرسل محمدًا ﷺ هذا لا بد منه، ولذلك كانت الشهادة متضمنة لهذا وهذا؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فلا بد من هذا الإيمان، لا بد أن يؤمن أن الله أنزل عليه القرآن، يؤمن بالقرآن الكتاب الذي نزل عليه، فهذا داخل في المُفصل.

فبالنسبة للنبي ﷺ لابد أن يعرفه على سبيل التحديد والتخصيص، باقي الرسل يكفي الإيمان المُجمل أن الله أرسل رُسلاً، لكن إذا بلغه عن أحدهم فإنه لا يُنكره، أو يكفر به، وهكذا بالنسبة: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285]، الكتب القرآن لابد أن يؤمن به، الكُتب يؤمن أن الله أنزل كُتبًا، ولا يلزمه أن يتتبع ذلك على سبيل التفصيل.

فهذه فيما يتعلق بالإيمان المُجمل والإيمان المُفصل، ولذلك كانت الأصول الثلاثة التي يذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالته هي:

ما ربك؟

وما دينك؟

ومن هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟

الأسئلة الثلاثة التي يُسأل الإنسان عنها في القبر، فهذه لا بد أن يؤمن بها أن يعرفها وهذه المعرفة هي داخلة في التفصيل، لكن التفصيل مراتب، فقد يعرف من أحوال النبي ﷺ ما لا يعرفه غيره، قد يعرف من أحوال القرآن ما لا يعرفه غيره، لكن المقصود أن يعرف ذلك أن يعلم ذلك أن يتيقنه على سبيل التعيين والتحديد، فهذا يُعتبر إيمان مُفصل، لكن كلمة مُفصل نسبية، وكلمة مُجمل أيضًا فيها جانب من هذا، هذا مُجمل بالنسبة لما هو أكثر تفصيلاً منه، لكن إذا أردت أن تتصور هذا فكما قلت لا يكفي أن يقول: أنا أؤمن أن الله أرسل رسلاً، أن الله أنزل كُتبًا، طيب من الذي أرسله إليك؟

يقول: لا أعرف، ما الكتاب الذي أنزله عليك؟ لا أعرف، ما الدين الذي شرعه لك؟ يقول: لا أعرف، هذا لا يكفي.

"فالأنبياء وسائط بين الله وبين عباده في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وما أخبر به عن نفسه وملائكته، وغير ذلك مما كان ويكون، وأما محمد فهو الذي أُرسل إلينا وإلى جميع الخلق، وقد ختم الله به الأنبياء، وأتاه من الفضائل ما فضله به على غيره، وجعله سيد ولد آدم، وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة لا يسعها هذا الموضع، وهو مع هذا قد نهانا عن الشرك بهم والغلو فيهم، وميز بين حقه وحقهم".

هذا الكلام واضح، وخصائص النبي ﷺ كُتب فيها مؤلفات قديمًا وحديثًا، يمكن أن تُراجع.

"والملائكة والأنبياء والصالحون يستحقون المحبة والموالاة والتكريم والثناء، مع أنه يحرم الغلو فيهم والشرك بهم".

كل هذا الكلام إذا نظرنا إلى أصل الرسالة فهو يرد على هذا الذي يقول: إنه يُزري بالأنبياء وبالصالحين والأولياء، فيقول: لا، ليس كذلك، هؤلاء يجب محبتهم وتوقيرهم وتعظيهم، فهو يذكر كل هذا الكلام يُبين فيه عقيدته، ويرد على من تقوّل عليه وافترى، هذا هو السياق.

قال -رحمه الله-:

"ومن الرد على أهل المنطق".

هذه الرسالة، أو الكتاب "الرد على أهل المنطق"، هذا الكتاب هو هذا الذي ترون، هذه نُسخة يعني لا تُعتبر نُسخة مُحققة لو حُققت واعُتني بها لصارت أكبر من هذا بكثير، وقد مضى من قبل في الكتب السابقة لشيخ الإسلام كتاب: "نقض المنطق" لعلنا ذكرنا هنا تعريفًا بهذه الرسالة وأن تلك أنها عبارة عن فُتيا وجهت لشيخ الإسلام، وأجاب عن سؤال يتصل بالمنطق، وهل يجب على الإنسان أن يتعلم المنطق، والذي سماها: "نقض المنطق" هو الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- بعد أن استشار الشيخ محمد بن إبراهيم وكان في زيارة آنذاك إلى مصر، فاستشاره ماذا نجعل لها هذه الفُتيا؟ فقال اتفقوا على أن يكون الاسم نقض المنطق، وهذا الكتاب المطبوع هو عبارة عن جُزئين يعني جزء هي الفُتيا، وجزء مأخوذ من شيء آخر من كلام شيخ الإسلام في الرد على المنطق.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- له أكثر من كتاب في الرد على المنطق وأهل المنطق، وفي ثنايا كتبه الأخرى مثل: "درء التعارض" ومضى أشياء من هذا القبيل، وكتاب الرد على المنطقيين بهذا الاسم طُبع هكذا، وهنا الرد على أهل المنطق، هذا الكتاب كتبه أيضًا من أواخر كُتبه حينما كان بمصر في الإسكندرية، سُجن كما هو معلوم هناك، ورأى رجلاً هناك يُعظم الفلاسفة والمنطق اليوناني، ويُفخم أمره وما إلى ذلك، فشيخ الإسلام يقول في أول هذه الرسالة: "كنت دائمًا أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي، ولا ينتفع به البليد، ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة؛ لما رأيت من صدق كثير منها"[13]، قضايا المنطق يعني القضايا التي يذكرونها مما يسمونه بالتصديقات، الأحكام المنطقية، الأدلة، ولكن يقول: "ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه وكتبت في ذلك شيئًا، ثم لما كنت بالأسكندرية اجتمع بي من رأيته يُعظم المُتفلسفة بالتهويل والتقليد، فذكرت له بعض ما يستحقونه من التهجيل والتضليل"[14]، المُشكلة أن تُقابل إنسان مُتعلق بشيء يُعظمه وتقول له هؤلاء لا يستحقون التعظيم وإنما يستحقون التجهيل، يقول: "واقتضى ذلك أني كتبت في قعدة بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علقته تلك الساعة، ثم تعقبته بعد ذلك في مجالس إلى أن تم، ولم يكن ذلك من همتي، فإن همتي إنما كانت فيما كتبته عليهم في الإلهيات"[15]، يقول: أنا ما قصدت أني أرد على الفلاسفة في كل علومهم؛ لأن العلوم الفلسفية كما هو معلوم يدخل فيها أشياء من الإلهيات وهؤلاء هم الذين كان يعتني شيخ الإسلام في الرد عليهم في هذا الجانب في هذا الباب الذي ذكر أنهم أضل الناس في الإلهيات، إذا تكلموا في الإلهيات.

فعلوم الفلاسفة أنواع نوع منها يتعلق بالإلهيات، هذه غيب ما يصلون إليه فهم أجهل الناس وأضل الناس في هذا الباب، وهناك علوم أخرى يُصيبون فيها كثيرًا مثل الرياضيات العلوم الرياضية ويدخل فيها الحساب والهندسة والجبر؛ فهذه كلامهم فيها جيد.

والقسم الثالث: الذي هو الطب والتجريبيات فكلامهم فيها كثير وكثير منه جيد ونافع؛ لأنه مبني على التجارب، فهذه علوم الفلاسفة أو العلوم الفلسفية، فشيخ الإسلام يقول: أنا مُهتم أنا موجه الاهتمام إلى كلام هؤلاء الفلاسفة في الإلهيات، أما في غيرها فلهم به كلام حسن إلى آخره، فهو يقول يعترض عليهم في طريقة حصر العلوم في التصورات والتصديقات.

يقول: "فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق فأذنت له في ذلك؛ لأنه يفتح باب معرفة الحق،...الخ"[16]، يقول: الموضوع يحتاج إلى بسط أكثر وتفصيل أكثر لكن هذا الكتاب طبعًا ليس من الكتب التي يقرأها المُبتدأ ولا المتوسط، مثل هذا الكتاب مُتقدم، والذي يقرأه لابد يكون يعرف عنده خلفية بالمنطق وإلا فقد لا ينتفع ولا يستفيد؛ لأنه يحتاج أن يستشرح أشياء من المُصطلحات التي ترد، فشيخ الإسلام يذكرها على أساس أنه يتكلم مع ناس من المُتخصصين في المنطق، فشيخ الإسلام استوعب العلوم هذه ويرد على أهلها ويُخاطبهم، فالذي ليس له خلفية وعافاه الله من هذا قد لا يحتاج إلى ذلك، ولكنه ينتفع به من اُبتلي بهذا، لكن شيخ الإسلام عمومًا هو يرد على المنطق في ذراعيه، أو أهل المنطق من الجهتين:

الأولى: ما يُسمى بالحدود التي هي من قبيل التصورات، أو تُفضي إلى التصورات، أو تُعطي التصورات.

والقسم الثاني: الذي هو التصديقات التي يعني تكون من قبيل الأحكام، يعني بمعنى ماذا التصورات؟ التصورات يعني التعريفات، لما أقول لك ما هو الفقه؟ تقول: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المُستنبطة من أدلتها التفصيلية، تصورت الفقه الآن، لكن هل صرت فقيهًا وعرفت مسائله بهذا؟ لا، لكنك تصورت الفقه.

وعندما أقول لك مثلاً: ما هو علم أصول الفقه؟ تقول: معرفة دلائل الفقه إجمالاً هناك دلائل هنا المسائل الفرعية، هنا الأصول معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المُستفيد.

إذن هذا غير الفرعية فتصورت أصول فقه، لكن هل صرت عارفًا بأصول الفقه بهذا؟ لما أقول لك ما هي القواعد مثلاً؟

تقول: هي قضايا كُلية تنطبق على جُزئياتها، أو يُتعرف بها على أحكام الجُزئيات، عرفت أنت ما معنى القاعدة إذن: قضية كُلية تنطبق على جُزئيات، لكن هل عرفت القواعد بهذا؟ لم تعرفها، وهكذا لما أقول لك مثلاً ما هو علم النحو؟ ما هو علم المنطق؟ ما هو علم التجويد؟

فعندما تعرف تعريف التجويد هل صرت مجودًا، عارفًا بتفاصيل التجويد وأحكامه أحكام النون الساكنة والميم الساكنة والتنوين والمدود، وما إلى ذلك؟

الجواب: لا، هذا يحتاج إلى دراسة تفصيلية، فهذه الحدود هي تُعطي التصورات، التعريفات يعني، هذا القسم الأول وعندهم فيه إشكال كبير عند المناطقة، فشيخ الإسلام يهدم أركانهم في هذا الكتاب، عندهم في الجانب الآخر الذي هو التصديقات، تصديقات القضايا يعني نسبة شيء إلى شيء تُعطي حُكمًا الذي يسمونه الموضوع والمحمول، وأيضًا الأدلة، المُقدمات، سواء البرهان الذي يزعمون أنه من مُقدمتين ونتيجة أو غيره من أنواع الأدلة، فحينما تقول مثلاً: "الماء بارد" هذا تصور ولا تصديق عندهم، حكم أو تعريف؟

حكم؛ حكمت للماء بأنه بارد، "زيد شُجاع" هذا تعريف أو حكم؟ حكم، "الفاعل مرفوع"؟ حكم، "المفعول منصوب"، "الأمر للوجوب"؛ لكن حينما أقول: الأمر ما هو؟ تقول: استدعاء الفعل بطريق الاستعلاء عند من يشترط هذا.

وبعضهم يشترط العلو، استدعاء الفعل على وجه الاستعلاء، بصرف النظر عن التعريف يعني هل هو دقيق أو لا، وشيخ الإسلام يُناقشهم في هذا في طريقتهم في التعريفات، فهذا يُسمى تصور، التعريف، لما أقول لك: "الأمر للوجوب"، وعندما نقول: الواجب هو ما أمر به الشارع أمرًا جازمًا مثلاً، أو ما توعد الشارع على تركه مثلاً، أو ما يُعاقب فيستحق العقاب على تركه، التعريفات التي للواجب، الآن هذا ماذا يُسمى؟ تعريف تصور، هذاك تصور ما هو الواجب، لكن لما تقول: "الأمر للوجوب" هذا حكم حكمت أن الأمر للوجوب، "النهي للتحريم"، "زيد تقي" حكمت بأنه تقي، بناء على ماذا حكمت؟

فهذه عندنا تصورات التي هي التعريفات، وعندهم فيها إشكالات وناقشهم فيها شيخ الإسلام ورد فيها كلامهم الذي يذكرون أنه مبادئ مُسلمة، أتى عليه من أصوله، ثم جاء لقضية التصديقات هذه وأيضًا أتى على بنيانهم من القواعد، فرحمة الله عليه رحمة واسعة، لا تجد من يتكلم بهذه القضايا يعني حتى الشاطبي -رحمه الله- تكلم على التعريفات والحدود والتعنت فيها إلى آخره والتمحل، ومثل بأمثلة، يعني تندر بهم، لكن كان يتكلم على قضية التكلف في هذا، وما يُفضي إلى الغموض، لكن شيخ الإسلام يُبين أن هذا أصلاً لا يُبنى على أصل صحيح.

"إن الأمم جميعهم من أهل العلم والمقالات، وأهل العمل والصناعات؛ يعرفون الأمور التي يحتاجون إلى معرفتها، ويحققون ما يُعانونه من العلوم والأعمال من غير تكلم بحد منطقي، ولا نجد أحدًا من أئمة العلوم كلها يتكلم بهذه الحدود مع أنهم يتصورون مُفردات علمهم؛ فعُلم استغناء التصور عن هذه الحدود".

هنا ذكره في سياق الرد على دعواهم بأن التصور المطلوب قلنا التصورات هي التعريفات النتيجة للتعريفات، فالتصور المطلوب يزعمون أنه لا يحصل إلا بطريق الحد، والحد عندهم له أُطر مُعينة، والحد عندهم أنواع، لكن هذه جميعًا لها قوالب قننوها، وحددوها، وتكلموا عليها فهم يزعمون أن هذه التصورات لا تحصل إلا بهذا الطريق الذي رسموه، فشيخ الإسلام يقول: أكثر العالم لا يعرفون هذه الحدود ولا هذه القوالب ولا هذه الأُطر ويتصورون علومهم، وصنائعهم، ومنافعهم، وقامت حياتهم ومعايشهم وهم لا يعرفون حدودكم، وهم يعرفون ما هم بصدده.

إذن يمكن أن يحصل التصور، من غير هذا الطريق الذي ادعيتم أن التصورات لا تحصل إلا بطريق الحد، أنا أحاول أني أُقرب القضية بطريقة حتى لا ندخل في إشكالات؛ لأنه لا بد من معرفة ما هو الحد عندهم، هم يقصدون به معنى معين، والحد عنهم أنواع، فشيخ الإسلام بهذا الكلام يقول: العالم عرفت ما هي بصدده وما تُعافسه وتعانيه من العلوم والصنائع من غير هذه الأُطر والقوالب التي وضعتموها.

 إذن هذا لا يتوقف هذا وجه من وجوه الرد عليهم وهو الوجه الثالث من وجوه الرد على دعواهم أن التصورات لا تحصل إلا بالحد، الحد يعني التعريف المنطقي، ليس أي تعريف، تعريفهم هم المنطقي، هذا له قوالب، وسأذكر لكم مثالاً أو أمثلة تُقرب الصورة رُبما أو تُصعبها لكن لعل البعض يسمونه الجنس، وعندنا النوع، ويأتي رقم ثلاثة: الفصل، ورقم أربعة: الخاصة، ورقم خمسة: العرض الذي يُجمع على أعراض.

فعندنا الجنس، الجنس هذا مطاط، عندنا جنس قريب، وعندنا جنس بعيد، وعندنا جنس متوسط؛ فالمسألة نسبية، فما هو أعلى الأجناس؟ هم يزعمون أن أعلى الأجناس المعلوم، طيب في جنس تحته؟ قالوا: نعم الموجود، طيب هل يوجد تحت الموجود شيء؟

قالوا: نعم نامي، مثلاً نامي، النبات الحيوان هذا نامي، يخرج الجماد، أو قبل ذلك الجسم، ثم النامي، ثم الحيوان، ثم الإنسان، فهذه كلها تُعتبر أجناس، فهذا الإنسان بالنسبة للحيوان يُعتبر نوع، الحيوان بالنسبة للجسم يُعتبر أو بالنسبة للنامي يُعتبر نوع؛ لأن النامي منه ما هو حيوان ونبات، لما نأتي ونقول: جسم نامي، وغير نامي، فالنامي يُعتبر نوع لكن بالنسبة للذي تحته يُعتبر جنس، مسألة نسبية، فهم يقولون: في التعريف لا بد من الجنس القريب، لا نذهب إلى الجنس البعيد، التعريف بالحد الذي يسمونه الحد هذا، لا بد من الجنس القريب، ما هو أقرب جنس هنا وصلنا إليه؟ نريد نعرف الإنسان الآن؟ الحيوان، طبعًا لا أحد يقول: الإنسان كيف حيوان وهذه نظرية دارون، لا، هم ما يقصدون هذا، يقصدون من الحياة: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، ما يقصد البهيمة هي نوع عندهم، فيقول: الإنسان حيوان يعني حي في حياة، طيب نعرفه الآن حيوان يدخل فيه الفرس يدخل فيه ما المراد، الحيوان يدخل تحتها أشياء، قالوا: نأتي بالجنس القريب مع الفصل، والفصل هنا: ناطق، يقولون: إنسان حيوان، ونأتي بالجنس القريب مع الفصل حيوان ناطق، هذا الإنسان إذن، وتتصور بهذا الإنسان، لو أنك عندهم رسم عندهم غير الحد شيء اسمه رسم فلو أنك جئت مثلاً إلى الجنس القريب ووضعت معه الذي هو الخاصة أو العرض العام أو العرض الخاص، العرض العام مثل: مُتحرك، لكن الخاصة الضحك، بالنسبة للإنسان، لو قلت حيوان ضاحك فهذا يُعتبر نوع ثاني من التعريفات عندهم وفق الأُطر التي وضعوها، حيوان ضاحك، وشيخ الإسلام يقول لهم: أصلاً هذه الأجناس الإحاطة بها على وجه التفصيل تقتضي الإحاطة بكل المعلومات، أنت تعرف ما الذي فوقه وما الذي فوقه: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85]، فأنتم تحصرون هذه الأشياء بأمور من هذا العلم الذي من ثُقب الإبرة.

يقول: كلامكم هذا ناقص، ولهذا حتى بعض الأصوليين من أهل الكلام وأذكر أن الجويني ذكر هذا إن لم أكن واهمًا في كتابه "البُرهان" يقول: بأن التعريف بالحد المُطابق لا يمكن[17]، ولهذا يقول الشاطبي في "المُوافقات": "إنما المقصود بالتعريفات التقريب"[18]، ولهذا الشاطبي يقول ما أتقيد بهذ،ا إنما نُقرب المُراد، فإذا قيل ما هو الإنسان؟

أقول: مثلي أنا وأنت هذا الإنسان، الهواء؟ هذا الذي نتنفسه، الماء؟ هذا الذي تشربه، ما هو القمر؟ هذا الذي تُشاهده ليلاً، الشمس؟ هذه التي تطلع نهارًا، يقول: أما هم فحينما يأتي ويُعرف هذه الأشياء تقول له: عرف القمر؟ يقول: الجرم السقيل المحوي في الجِرم الحاوي، هذا القمر الآن، نقول: فأنت عرفت القمر أو صعبت القمر جعلته لُغزًا، ما هو الجِرم السقيل المحوي في الجِرم الحاوي، الحاوي السماء يعني أو الفضاء، فمثل هذا الكلام لا شك أنه يعني لا يعول عليه، ولهذا هم يقولون أو على الأقل الحُذاق منهم بأنه لا يمكن التعريف بالحد المُطابق إطلاقًا، إنما المسألة تقريبية، انظر اعتراف من بعض حُذاق المُتكلمين، لماذا؟ قالوا: لأنه لا يُحيط بالذاتيات إلا الله ، إنما غاية ما هنالك التقريب، نُقرب الأمر بحيث أن هذا المُعرف لا يدخل فيه شيء سواه، ولا يخرج منه شيء من الأمور التي هي منه، نُقرب ذلك.

طيب الشاطبي يقول: إذن نحن نُقرب هذا بما يحصل به المقصود، فنقول: هذا السماء هي التي فوقنا، والأرض هي التي نمشي عليها، والماء الذي نشربه، وانتهينا ما نحتاج إلى هذه الفلسفة الطويلة العريضة ونُقرب التعريفات، ولهذا قالوا: بأن الشغب هذا قاله بعض حُذاق المُتكلمين ممن ألفوا في الأصول قالوا: إن الشغب على التعريفات ليس من سبيل الراسخين في العلم، يجادل في أحد التعريفات يذكر ستة عشر تعريف ثم يبدأ يُناقش هذه التعريفات والإيرادات والاعتراضات عليه، وهذه مُصيبة، فبعض المُعلمين في الجامعات لربما يشغل الطلاب في محاضرات طويلة ويُصعب عليهم العلم والطُلاب يتذمرون غاية التذمر، ويقول لهم: العلم بالتعريفات، العلم مُضمن في هذه التعريفات، لا بد تُدركونها فيأتي لهم بتعريفات كثيرة ثم ما يرد على هذه التعريفات من الاعتراضات والجواب عنها، فما الفائدة منها؟!، أتي لهم بتعريف يُقرب المُراد وانتهينا، الحمد؟

الحمد لله، إضافة أوصاف الكمال إلى الله -تبارك وتعالى-، هذه يعني الخواص الخمس أو هذا ما يتعلق بالتعريفات، يعني: شيخ الإسلام يتكلم عليهم هنا يرد يقول: إن تعريفاتكم هنا في هذه القوالب أنها ليست سليمة أصلاً، ومبنية على أوهام، ومبنية على علم ناقص، والناس يعرفون ما هم بصدده، ولم يدرسوا تعريفاتكم هذه.

 

  1. أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، برقم (249).
  2. لم أقف عليه.
  3. أخرجه البخاري، أبواب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، برقم (1010)، وبرقم (3710)، كتاب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، باب ذكر العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-.
  4. انظر: بدائع الفوائد (1/ 40).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، برقم (1887).
  6. أخرجه ابن ماجه، أبواب الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر، برقم (1449)، وأحمد في المسند، برقم (15777)، وقال محققوه: "حديث صحيح، وهذا إسناد ضعيف لانقطاعه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1560).
  7. أخرجه أحمد في المسند، برقم (18534)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح".
  8. نونية ابن القيم (الكافية الشافية) (ص: 12).
  9. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة، برقم (6497)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب، برقم (143).
  10. أخرجه البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، برقم (1189)، ومسلم، وكتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، برقم (1397).
  11. انظر: الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/ 39).
  12. تفسير الطبري (20/ 42).
  13. مجموع الفتاوى (9/ 82)، والرد على المنطقيين (ص: 3).
  14. موع الفتاوى (9/ 82)، والرد على المنطقيين (ص: 3).
  15. مجموع الفتاوى (9/ 82)، والرد على المنطقيين (ص: 3-4).
  16. مجموع الفتاوى (9/ 83)، والرد على المنطقيين (ص: 4).
  17. انظر: البرهان في أصول الفقه (1/ 22).
  18. انظر: الموافقات (1/ 10).

مواد ذات صلة