الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
23- ومن كتاب الفروسية ومن الصواعق المرسلة ومن تهذيب سنن أبي داود
تاريخ النشر: ١٩ / جمادى الأولى / ١٤٣٤
التحميل: 1827
مرات الإستماع: 1809

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فأقول بعد استعراض هذه القضايا نرجع إلى كلامه الأول في هذا الكتاب "الطرق الحكمية"[1]، يقول: الحكم نوعان: إثبات وإلزام.

الإثبات يعتمد الصدق، والإلزام يعتمد العدل.

وكلا القسمين له طرق متعددة، كلا القسمين له طرق متعددة، يعني الآن اليمين هذه من طرق الإثبات؛ وبناء عليها يكون الحكم، الشاهد أو الشهود، الواحد أو الاثنان، الثلاثة، الأربعة، شهادة المرأتين، شهادة الرجلين، شهادة رجل مع امرأتين، شهادة امرأة واحدة، هذه كلها من طرق الإثبات، العمل بالقرائن هذا من طرق الإثبات، وبناء عليه يكون الحكم، التواتر، الاستفاضة.

قال -رحمه الله-:

"ومن كتاب الفروسية".

كتاب "الفروسية" هو كتاب أيضًا من الكتب المشهورة للحافظ ابن القيم، وليس المقصود بالفروسية أن الكتاب يتحدث عن الخيل والسباق فيها والمغالبات وما إلى ذلك، لا، هذه إحدى الجزئيات في الكتاب، يعني نستطيع أن نقول بأن الكتاب هو في المسابقات أحكام المسابقات، مجمل الكتاب يدور حول هذه القضايا، سواء كان ذلك بالخيل أو بالجمال، أو بالرمي، أو كان هذا في أمور أخرى مثل السباق على الأقدام، المصارعة، المجاذبة بالأيدي، كذلك أيضا هناك أنواع من المسابقات تكلم عليها: هل تجوز أو لا؟! مثل: حفظ القرآن، حفظ السنة، المسابقات الفقهية العلمية، هل هي جائزة أو لا، وفصل فيها أحكام السَبَق، السبق يعني الجائزة، كذلك يعني متى يعطى ومتى لا يعطى المقامرات، الرهان هل يجوز للناس أن يتراهنوا يقول: إن كان كذا فتدفع كذا، وإن كان كذا فتعطيني كذا، كل هذه المسائل تكلم عليها يعني ما نسميه بأحكام المسابقات، يعني لا تفهم من الكتاب أنه يتكلم عن قضايا الخيل والسباق فيها فسمي بالفروسية، لا، الموضوع أوسع من هذا بكثير.

"المغالبات ثلاثة أقسام:

 محبوب مرضي لله ورسوله، مُعين على محابه، كالسباق بالخيل والإبل والسهام فهذا يشرع مفردًا عن الرهن، ويشرع فيه كل ما كان أدعى إلى تحصيله، فيشرع فيه بذل الرهن من هذا وحده، ومنهما معًا ولو لم يكن فيه محلل على الصحيح، ومن الأجنبي، وأكل المال به أكل بحق ليس أكلاً بباطل، وليس من القمار والميسر في شيء".

المغالبات، هذا القسم الأول محبوب مرضي لله لماذا؟ معين على محابه؛ لأنه يقوي الأمة على الجهاد في سبيل الله، فهذه الأمور الثلاثة: السباق بالخيل والإبل، والسهام؛ لأن النبي ﷺ قال: لا سبق إلا في...، هذه الثلاث، إلا في نصل أو خف أو حافر[2]، فالنصل الرمي بالسهام ويدخل فيه أنواع الرمي، والخف: السباق بالجمال، والحافر السباق بالخيول، وقد سابق النبي ﷺ بين الخيل كما هو معروف، وسابق ﷺ على أقدامه أيضًا تسابق مع عائشة -رضي الله عنها-[3]، وتسابق الصحابة على الأقدام، لكن يبقى ما الذي يصح فيه السبق يعني الجائزة يعني هذا الذي قال عنه مثلاً: الرهان، يعني يقول: يصح من طرف واحد، ويصح من الطرفين بلا محلل، ويصح من الأجنبي، يعني من طرف واحد كأن يقول أحد المتسابقين: نتسابق إن سبقتني فهذا الكتاب لك، دون أن يكون له شيء إذا سبق هو مثلاً، هذه المائة لك إن سبقتني فهذا من طرف واحد.

من الطرفين: هذا يبذل مائة وهذا يبذل مائة، ويقال: هذا المبلغ المجموع منهما وهو مائتان لمن سبق، فيتسابقون فمن سبق يكون له هذه من الطرفين.

من طرفين مع محلل يعني ثالث، وكثير من أهل العلم يشترط المحلل، وشيخ الإسلام لا يشترط المحلل[4]، وكذلك ابن القيم[5]، يأتي طرف ثالث ويدفع معهم أو يكون من الأجنبي فقط من المحلل، كأن يقول هذا: تسابقوا الذي يسبق سأعطيه هذا الكتاب، الذي يسبق سأعطيه مائة، فهذه الصورة لا إشكال فيها، يعني جائزة وعلى خلاف من في الصور من غير المحلل من طرف واحد، أو من الطرفين، هل يكون مقامرة أو لا؟!

والراجح أنه ليس بقمار في هذه الأمور الثلاثة.

هل يلحق بها غيرها أو لا؟!

هنا يقول: المغالبات ثلاثة أقسام: محبوب مرضي لله ألحق به مثل شيخ الإسلام[6]، وابن القيم[7] على خلاف بين أهل العلم المسابقات في العلوم الشرعية، وحفظ القرآن والسنة، وما أشبه ذلك قالوا: لأن هذا من شأنه تقوية الإسلام ونصر الدين وإعزاز الدين، فكل ما يحصل به إعزاز الدين فهو داخل في هذا.

وبعضهم أخذ ظاهر اللفظ: لا سبق، يعني الجائزة وإذا قلت: لا سبق يعني لا مسابقة، فهذا النوع الأول ما كان معينا على طاعة الله فهو من محابه يجوز المسابقة فيه.

هذه الثلاثة بالاتفاق، واختلفوا فيما يلحق بها هل يقتصر عليها أو يلحق بها؟! وفتوى "اللجنة الدائمة" عندنا مثلاً أنه يجوز المسابقات بجائزة فيما يتعلق بالقرآن والسنة والعلوم الشرعية، وما أشبه ذلك[8]، فهذا نوع.

"والنوع الثاني: مبغوض مسخوط لله ورسوله، موصل إلى ما يكرهه الله ورسوله، كسائر المغالبات التي توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، كالنرد والشطرنج، وما أشبهها، فهذا محرم وحده ومع الرهان، وأكل المال به ميسر وقمار، كيف كان، سواء كان من أحدهما، أو كليهما، أو من ثالث، وهذا باتفاق المسلمين.

فأما إن خلا عن الرهان فهو حرام عند الجمهور نردًا كان أو شطرنجًا هذا قول مالك وأصحابه[9]، وأبي حنيفة وأصحابه[10]، وأحمد وأصحابه[11]، وقول جمهور التابعين، ولا يحفظ عن صحابي حله.

وقد نص الشافعي على تحريم النرد[12]، وتوقف في تحريم الشطرنج[13]".

يعني توقف في تحريمه من غير رهان، أما بالرهان فإنه لا يجوز، هذا المحرم، وهكذا كل المسابقات المحرمة التي تكون في أمور يسخطها الله : ألعاب ضارة، ألعاب تورث العداوة والبغضاء بين الناس، فهذه لا تجوز، فإذا وضع معها الرهان كان ذلك أشد! هناك صور واضحة، وهناك صور تحتمل.

 الثالث: ليس بمحبوب لله ولا مسخوط له بل هو مباح لعدم المضرة الراجحة كالسباق على الأقدام والسباحة وشيل الأحجار والصراع، ونحو ذلك".

يعني حمل الأثقال والمصارعة فهذا النوع بلا عوض يعني يجوز.

"فهذا النوع يجوز بلا عوض وأما مع العوض فلا يحل؛ لأن تجويز أكل المال به ذريعة إلى إشغال النفوس به واتخاذه مكسبًا لاسيما وهو من اللهو واللعب الخفيف على النفوس، فتشتد رغبتها فيه من الوجهين، فأبيح بنفسه؛ لأنه إعانة وإجمام للنفس وراحة لها، وحرم أكل المال به؛ لئلا يتخذ صناعة ومتجرًا فهذا من حكمة الشريعة ونظرها في المصالح والمفاسد ومقاديرها".

هو هذا، يعني لا يجوز أخذ العوض أو الرهان في هذه الحال، الآن تجد بعض البرامج وبعض المسابقات لربما تعلق أشياء تفاح فالذي يسبق يقضمها وهي مربوطة بخيط، ويستطيع أن يأكلها ويعطى جائزة أو نحو هذا، هذه لا يعطى عليها جوائز، لكن غاية ما هنالك أن يقال: هذا مثلاً مباح يضحك الناس منه مثلاً، أو نحو هذا.

أحيانًا يكون فيه إتلاف للمال وإضاعة له، فيقال: لا يجوز، يؤتى مثلا بطعام أو بدقيق، أو نحو ذلك فينفخ فالذي يستطيع أن يبدده ويفرقه ونحو ذلك يكون هو الفائز ويعطى جائزة، هذا لا يجوز أن يعطى الجائزة عليه، ولا يجوز أيضًا العبث بهذه الأشياء التي ينبغي أن تصان.

أحيانًا قد يؤدي هذا إلى إتلاف الأموال، أو إلى الإضرار بالنفوس كأن يقال لهذا الإنسان مثلاً: إذا شربت هذا الصندوق من البيبسي أعطيناك كذا، هذا لا يجوز أن يعطى عليه؛ حسنا.

لو كان من غير إعطاء من غير رهان هل يجوز؟! يضره فتجد الرجل يشرب أكثر من طاقته حتى يوشك أن تذهب نفسه بسبب هذا، يكلف من الأكل أكثر مما يطبق، مما يلحق به الضرر فمثل هذا لا يجوز أن يكلف بالمشي على النار، فهذا لا يجوز، إلى غير ذلك من الأمور التي تضر.

فهذا لا يجوز لا بعوض ولا بغير عوض، فإن كان بعوض فهو أشد، إذن الأمور المباحة التي لا تضر، وليس فيها إتلاف للأموال هذه تجوز بلا عوض.

الأمور المعينة على طاعة الله وإعزاز الدين هذه تجوز بعوض وبلا عوض، واضح؟! نعم.

"المسابقة على حفظ القرآن وأخذ الرهان فيه، وفي الحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة والإصابة في المسائل جوزه أصحاب أبي حنيفة[14]، وشيخنا[15]، وهي صورة مراهنة الصديق لكفار قريش على صحة ما أخبرهم به وثبوته، ولم يقم دليل على نسخه".

لأن من أهل العلم من يقول: هذا منسوخ، يعني الرهان، ما حكم الرهان أصلاً؟! يقال: فيه تفصيل، فمن أهل العلم من يقول: هذا نسخ، يعني أبو بكر رهنهم في مسألة في بضع سنين، وأخذ الرهان وقبل ذلك، وأقره النبي ﷺ، ومن أهل العلم من يقول: هذا منسوخ بتحريم القمار والميسر، فلا يجوز الرهان مطلقًا، وإنما يكون السبق في هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي ﷺ فقط، وما عداها فلا يجوز.

ومن أهل العلم من يقول: لا يوجد دليل على النسخ، فما كان فيه إعزاز للدين جاز فيه ذلك، مسائل فقهية تطرح، الذي يعرف الجواب نعطيه جائزة، أو نحو هذا، فهذا لا إشكال فيه، لكن إذا كان الرهان في أمور محرمة، أو في أمور عادية مباحة فيقال: لا، وأحيانا يتراهنون على شيء، يقول مثلاً: يتراهنون هل قدم زيد من السفر أو لا؟! فهذا يقول: نعم، وهذا يقول: لا، يقول من كذا! هذا لا يصح، وإنما يقصر ذلك على ما كان فيه إعزاز للدين!

"وقد أخذ الصديق رهنهم بعد تحريم القمار، والدين قيامه بالحجة والجهاد، فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد فهي بالعلم أولى بالجواز، وهذا القول هو الراجح.

وما جاز فعله من دون شرط جاز اشتراطه على الصحيح".

هذه قاعدة: "ما جاز فعله من دون شرط جاز اشتراطه على الصحيح"، الشروط أنواع: منها ما يخالف مقتضى العقد كما هو معروف فهذا لا يجوز، كما لو قال له مثلاً: أبيعك هذه الأمة بشرط، أو أبيعك هذه الدار بشرط ألا تسكنها، وألا تؤجرها، فهذا لا يصح، فمن هذه الشروط ما يبطل العقد، ومنه ما يبطل معه الشرط دون العقد، فما يخالف مقتضى العقد فإنه لا يصح، يقول: أبيعك هذه الجارية على ألا تطأها، هذا لا يصح، لكن هناك أشياء جائزة أشياء يعني من غير شرط، يعني هذا الرجل تزوج امرأة فاشترط عليه أن يطأها، هذا يحتاج إلى شرط؟!

هذا واجب بلا شرط، فإذا اشترط كان هذا الشرط لا إشكال فيه، هو تحصيل حاصل كما يقال، ولو كان الشيء مباحًا السفر بالمرأة يجوز أو لا يجوز؟!

يجوز، أليس كذلك؟! لو أنه اشترط عليه قيل له هذه المرأة نزوجك إياها ونشترط عليك أنك متى ما أردت أن تسافر أن تسافر بها معك، فهذا لا إشكال فيه لأنه يجوز له أن يسافر بها من غير اشتراط، ما جاز فعله من دون شرط جاز اشتراطه على الصحيح.

لكن ما كان مخالفًا للشرع فهذا لا يجوز، يعني الآن النبي ﷺ أخبر أن الولاء لمن أعتق[16]، لو أنه قال: أنا أبيعك هذا المملوك وهو يعرف أنه يشتريه ليعتقه، على أن يكون الولاء لي -البائع-، يقال له: هذا ما يصح، والنبي ﷺ أنكر هذا والذي اشترطوا على عائشة -رضي الله عنها- في بريرة أن يكون الولاء لهم، أخبر أن كل شرط يخالف كتاب الله فهو باطل[17]، وإن كان مائة شرط، فهذه الشروط المخالفة لمقتضى الشرع لا تجوز.

لو أنه أوقع معه عقدًا على أن يشتغل أجيرًا عنده أو موظفًا أو في هذه الشركة أو نحو ذلك واشترط عليه ألا يصلي، وتحضرهم صلاة الظهر ولا يخرجون إلا أربعة العصر، قال: ما تصلي، هذا الشرط باطل، وهكذا.

قال -رحمه الله-:

"ومن الصواعق المرسلة".

"الصواعق المرسلة" هذا الكتاب الأصل الذي هو: "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، هذا من أجلّ كتب ابن القيم -رحمه الله-، وكتبه كما ترون كلما ذكرنا كتابًا قلنا هذا من أجل كتبه، فالله قد أعطى هذا الرجل وحباه وأولاه! هذا الكتاب جاء اسمه في النسخ وفي الكتب: "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، "الصواعق المنزلة على الجهمية والمعطلة"، "الصواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطلة"، "الصواعق المرسلة على فرق المعتزلة والجهمية والمعطلة"، "الصواعق المرسلة على فرق البدع المتأولة" هذه عناوين بينها تقارب كما ترون، والعنوان المشهور هو: "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"، ويختصر هذا العنوان فيقال: "الصواعق المرسلة" وعنوانه يدل على موضوعه، فهو يتحدث عن قضايا وأصول تأتي على أسس وقواعد هؤلاء الجهمية والمعطلة التي بنوا عليها تأويلهم وتعطيلهم وتحريفهم للنصوص.

هذا الكتاب ذكر الحافظ ابن القيم في ثناياه يعني ما يشير إلى أنه ربما يكون قد سُئل فأجاب، فهو يقول في ثنايا الكتاب: "فهذه مقدمة بين يدي جواب السؤال المذكور، وإنما تتبين حقيقة الجواب بفصول..."[18]، مع أنه لم يذكر في أول الكتاب سؤال، فعلى كل حال ربما يكون قد سئل، وربما يكون أيضًا ذلك باعتبار أنه طرح قضية أو تساؤلاً أو نحو ذلك ثم يقول هذا جواب له، هذا يحتمل.

هذا الكتاب ذكر فيه المؤلف -رحمه الله- مقدمة مختصرة، ذكر فيها سبب التأليف، وتحدث عن التأويل حديثا مفصلاً في أربعة وعشرين فصلاً.

في هذا الجزء ذكر أصول الانحراف عند المعطلة، هذه الأصول هي التي سماها بالطواغيت الأربعة: الطاغوت الأول: وهو قولهم بأن كلام الله وكلام رسوله ﷺ أدلة لفظية لا تفيد العلم ولا اليقين؛ فرد على هذا الطاغوت من ثلاثة وسبعين وجها، يعني هو يتحدث في هذا عن التأويل.

الطاغوت الثاني: وهو قولهم إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل، فرد على هذا الطاغوت من مائتين وواحد وأربعين وجهًا، هذا في الجزء الأول.

في الجزء الثاني: تحدث عن الطاغوت الثالث: وهو قولهم بأن آيات الصفات مجاز، فتكلم على المجاز وأبطل المجاز، وبين أن المجاز هو حمار التأويل، فالتأويل يأتي على هذا الحمار إلى النصوص، فتحرف النصوص بدعوى أنها من قبيل المجاز، فرد وأبطل هذا المجاز وأطال في الكلام عليه.

والطاغوت الرابع: وهو قولهم بأن أخبار الرسول ﷺ الصحيحة لا تفيد العلم وغايتها أنها تفيد الظن؛ يعني لا يحتج بخبر الواحد في الاعتقاد، وأطال في بيان حجية خبر الواحد والرد على هؤلاء الذين يوهنون النصوص والشريعة باعتبار أنها في الغالب مبناها على أخبار آحاد.

الدخول في التفاصيل يطول جدا ولا يمكن أن نتحدث عن موضوعات الكتاب بشيء من التفصيل؛ لأن مثل هذا لا يمكن أن يفي به الوقت.

الكتاب هذا له مختصر اختصره الشيخ محمد الموصلي -رحمه الله- وهذا هو المشهور يعني: "مختصر الصواعق المرسلة" في مجلد.

هذا المختصر مطبوع ومتداول وهو الأكثر انتشارًا، والناس يرجعون إليه أكثر من الرجوع إلى الأصل؛ لأنه ظهر وطبع قبل الأصل بكثير بمدة طويلة، لكن في فرق كبير بين الأصل والمختصر، هناك فرق شاسع يعني أعطيك بعض النماذج مثلاً: هذا المختصر نعم هو منتخب من كلام ابن القيم لا يكاد يخرج عن عبارة ابن القيم وكلام ابن القيم إلا في مواضع قليلة جدًا يبدي فيها رأيه بإيجاز، لكن لو ننظر في المضامين في الكتابين المختصر والأصل تجد مثلاً: ابن القيم في التأويل ذكر أربعة وعشرين فصلاً، الموصلي ذكر من هذه الفصول ليس الوجوه في رد التأويل، الفصول، الموصلي ذكر أحد عشر فصلاً فقط يعني أقل من النصف مثلاً، أيضًا من الفروقات في الفصل الرابع والعشرين بعد الحديث عن التأويل انتقل الموصلي للحديث عن الطاغوت الأول والثاني في الفصل الرابع والعشرين، فذكر بعض وجوه الرد، وترك بعضها يعني هذه الأشياء التي تركها ما مقدارها في الطاغوت الأول وهو قولهم: بأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين شرع الموصلي برد هذا الطاغوت دون أن يذكره، أو ينبه عليه مبتدئا بالوجه الأربعين وترك تسعة وثلاثين وجها بدأ بالأربعين.

وكذلك أيضًا ذكر الموصلي ثمانية عشر وجها من ثلاثة وسبعين وجهًا في الرد على الطاغوت الأول.

الطاغوت الثاني: وهو قولهم إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل رد ابن القيم هذا الطاغوت كما سبق في مائتين وواحد أربعين وجها ذكر منها الموصلي في المختصر: اثنين وخمسين وجهًا فقط.

فالمختصر لا يفي بالغرض من هذا الكتاب وإن كان مفيدًا، فأسقط هذه الأوجه الكثيرة.

ولعل هذا القدر يعني يكفينا في إيضاح هذه القضية.

فالكتاب كبير الآن المطبوع من الأصل كم مجلد الصواعق المرسلة الأصل المحقق أربعة مجلدات فالكتاب لم يوجد كاملاً يعني هذه قد تقدر بنصف الكتاب، الكتاب ناقص، نعم يعني هكذا كان في وهمي لكن كنت أحتاج أن أتأكد من ذلك أكثر أنه فيه الأشياء التي ليست موجودة هنا في الأصل، يعني هذه مزية تكون في المختصر.

"وفيها عدة أصول تقدمت من كتب شيخ الإسلام.

إذا خص من العموم شيء لم تبطل دلالته في الثاني".

الكتاب مليء وطبعًا هو كما ترون مختصر على قضية واحدة إذا خُص من العموم شيء لم تبطل دلالته في الثاني هذه القضية يثيرها أهل الكلام وفي كتب أصول الفقه تأتيكم في الكلام على العموم، ويذكرونها أيضًا في كتب أصول الفقه في الفرق بين العام المخصوص، والعام الباقي على عمومه، والعام المراد به الخصوص، لما يجلسون يفرقون يذكرون هذه الأشياء، بمعنى أن بعضهم يقول: بأن العام الذي ورد ما يخصصه يعني دليل يخرج بعض الأفراد بعضهم يقول: إنه يكون مجازًا، لماذا كان مجازًا عند هؤلاء القائلين قالوا: لأن العموم الأصل أنه يستوعب جميع الأفراد، فهنا الواقع أنه لفظ عام لكن بعض الأفراد ليست داخلة فيه بدليل خارجي، بدليل آخر، إذن هو ليس كما هو في ظاهره، اللفظ في الظاهر أوسع من المضمون، فهذا عندهم مجاز، وهذا الكلام فيه نظر، هو حقيقة، وليس بمجاز.

الأمر الآخر، وهذا هو الأخطر! أن بعضهم يبطل دلالته في باقي الأفراد وهذا خطير، هذه من طرق الطعن وتوهين النصوص المنقولة، هؤلاء لهم طرق في توهين النقل، يعني أهل الكلام، فالآن عندنا عام، جاء دليل أخرج بعض الأفراد، أخرج فردًا واحدًا: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، كل المطلقات وخرج الحوامل: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] بعضهم يقول: يبطل العام في باقي الأفراد، لماذا يبطل؟ قالوا: صار العموم منخرمًا فبطلت دلالته على باقي الأفراد، يعني لم يعد على عمومه إذن دلالته على باقي الأفراد ليست معتبرة، وهذا كلام غير صحيح، هذا كلام بعض المتكلمين، وهو مردود فإن الأصل أن هذا العموم دليل صحيح وهو منتظم لهذه الأفراد ومتضمن لها ما لم يدل دليل على خلاف ذلك، فإذا جاءنا دليل يدل على أن بعض الأفراد غير مرادة، أو أنها أخرجت فليس ذلك يعني بحال من الأحوال أن الدليل برمته أن يكون قد بطل الاستدلال به، لهذا هم يريدون أن يقولوا: العقل هو المعول، يقولون: أكثر النصوص عمومات، وأكثر العمومات يرد عليها ما يسميه الرازي بالقوادح العشرة، وهذه فيها كلام ونقاش معروف لكن قولهم هذا مغالطة، ومكابرة، ومخالف لما كان عليه سلف هذه الأمة وتعاملهم مع النصوص، وهو مخالف أيضًا حتى لمعهود العرب في كلامهم ومخاطباتهم.

"وإذا خص من العموم شيء لم يصر اللفظ مجازًا فيما بقي".

هما قضيتان: بطلان الدلالة للنص برمته، إذا خرج بعض الأفراد -هذه دعوى-، الدعوى الثانية: أنه يكون مجازًا لأن عمومه الظاهر لم يعد كما هو؛ خرج بعض الأفراد، فيقولون: هذا مجاز، العبارة أوسع من المضمون.

قال -رحمه الله-:

"ومن تهذيب سنن أبي داود للمؤلف -رحمه الله-".

تهذيب سنن أبي داود، المنذري اختصر سنن أبي داود، والعلماء -رحمهم الله- لهم عناية كبيرة بسنن أبي داود حتى إن بعضهم يقول: لو أن أحدًا يعني اقتصر على المصحف وسنن أبي داود لكفاه، فهم يرون أن هذه السنن أن أبا داود -رحمه الله- جمع ما يحتاج إليه من السنن، وأيضًا تكلم على بعض هذه الروايات، وجعل له أحكامًا حكم فيها وسكت عن أشياء، وبين مراده حال السكوت.

فالمقصود أن سنن أبي داود -رحمه الله- هي من أجل كتب السنة، ومن أعظمها، وعبارات أهل العلم كثيرة في مدحها، والثناء عليها، وتعظيمها، وبيان منزلتها وقدرها.

هذه السنن المنذري اختصرها، ابن القيم -رحمه الله- يثني كثيرًا على اختصار المنذري، ويرى أنه يفي بالمقصود.

وابن القيم -رحمه الله- جعل تعليقه وشرحه ليس على أصل السنن سنن أبي داود، وإنما على اختصار المنذري، وتكلم على ما أغفله المنذري، أو أغفله أبو داود من أحكام على بعض الأحاديث، ونحو ذلك، وناقش العلل، وبين الأحكام بعباراته المعتادة، وأسلوبه الرائق، الذي لا تكاد تجد نظيرًا له في كتب الشروح يعني تقرأ وأنت تستمتع يحلق بك حتى في الكلام على الأحكام أو العلل، وما يتصل بالروايات، وطبع هذا مثلاً هذه الطبعة "مختصر المنذري" و"معالم السنن" للخطابي، و "تهذيب ابن القيم". طبعًا مكتوب عليها: تحقيق الشيخ أحمد شاكر والشيخ محمد حامد الفقي، الواقع أنهم اشتغلوا معًا في الجزء الأول.

ثم بعد ذلك كأن الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- لم يرتض الطريقة التي سلكها الشيخ محمد حامد الفقي اختلفوا في قضايا فالشيخ أحمد شاكر توقف، ولم يكمل معه العمل.

وأيضًا هو مطبوع على حاشية على "عون المعبود" لكن تجدون في مثل هذا الكتاب ثلاثة كتب: "مختصر المنذري"، و"شرح الخطابي"، ثم "الحاشية السفلى هي حاشية ابن القيم"، فابن القيم استفاد من المنذري واستفاد من الخطابي ومن شرح الخطابي، وهذا ظاهر في الكتاب، فمن تتبع الكتابين وقرأ في هذا وهذا وقارن سيجد ابن القيم -رحمه الله- كأنه كان ينظر في كتاب الخطابي.

فالكتاب جليل القدر عظيم الفائدة، وفيه درر ونفائس.

"قاعدة: ما أوجبه الشارع أو جعله شرطًا أو ركنا فيها أو وقف صحتها عليه هو مقيد بحال القدرة؛ لأنها الحال التي يؤمر فيها.

وأما في حال العجز فغير مقدور، ولا مأمور، فلا تتوقف صحة العبادة عليه".

وما أوجبه الشارع أو جعله شرطًا أو ركنًا في العبادة أو وقف صحتها عليه وهو مقيد بحال القدرة؛ لأنها الحال التي يؤمر فيها وأما في حال العجز فغير مقدور ولا مأمور فلا تتوقف صحة العبادة عليه، الآن هناك هذا الشرط يسقط تارة يسقط إلى بدل، وتار يسقط إلى غير بدل، الآن لو أنه عجز عن الوضوء أو الغسل فإنه يسقط عنه لكن إلى بدل وهو التيمم، ولو أنه عجز عن التيمم أيضًا فإنه لا يبقى بلا صلاة يصلي من غير وضوء ولا تيمم، وقل مثل ذلك القيام في الصلاة إذا عجز صلى قاعدًا فإذا عجز فعلى جنب لكن هناك أشياء إلى غير بدل يعني ستر العورة واجب وشرط من شروط الصلاة مع أن شروط الصلاة تتفاوت ليست على مرتبة واحدة في طلب الشارع لها وفي قوتها، وهذا يحتاج إليه في مسائل تتعلق بالترجيح، وفي مسائل تتعلق في حال الحرج.

وستر العورة شرط لكن لو أنه عجز عنه ماذا يفعل؟! لو عجز عن ستر عورته ما وجد شيئا يسقط إلى بدل أو إلى غير بدل؟! إلى غير بدل، فيصلي وهو عار فسقط عنه هذا الشرط.

الركوع السجود في الصلاة إلى غير ذلك إذا عجز عنه فإنه يومئ إيماء، لو عجز عن قراءة الفاتحة، وهي ركن ماذا يصنع؟! تسقط عنه، بعض العلماء يقولون: يقرأ سبع آيات، ما يحفظ شيئًا، بعضهم يقول: يقول ذكرًا بما يعادل الفاتحة، وهذا لا دليل عليه، والله تعالى أعلم.

مسألة استقبال القبلة عجز عنها ما عرف القبلة أين؟! تحرى لم يتحر عنده شيء فماذا يفعل؟ أو كان في مستشفى في سرير لا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة، في طائرة ما استطاع أن يصلي يستقبل القبلة، في سيارة في الحج في الزحام في الانتظار ساعات طويلة والوقت سيخرج يصلي الناس في الحافلة أحيانا لا يستطيعون يتوضؤون ما عندهم ماء وفي وسط الطريق تقول للنساء: انزلوا ابحثوا عن الماء!، وهم في سرى ذاهبين عرفة، أو راجعين من عرفة، وبين السيارات والأخطار!، نقول لهم: لا ما عندهم ماء، ولا يستطيعون أن يتيمموا، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا، فماذا يفعلون؟

اتقوا الله ما استطعتم، لا تترك الصلاة حتى يخرج الوقت.

عجز عن استقبال القبلة يسقط ذلك، وهكذا.

"العجز عن البدل في الشرع كالعجز عن المبدلِ منه هذه قاعدة".

هذه سبق الكلام عليها، لو عجز عن البدل، -عجز عن التيمم-، كالعجز عن المبدل منه، يعني سقط.

"قول النبي ﷺ: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم[19]، هو فصل الخطاب في جميع المسائل طردًا وعكسًا فكل ما كان تحريمه التكبير وتحليله التسليم فلا بد من افتتاحه بالطهارة".

يعني جعل هذه قاعدة بناء عليه كل صلاة تفتتح بتكبير ويخرج منها بالتسليم فهي صلاة، تطلب فيها الطهارة، صلاة الجنازة تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم، إذن يجب الطهارة فيها خلافًا لبعض التابعين الذين قالوا: لا يشترط فيها ذلك، لكن لو أنه خاف الفوت، الجنازة ستفوت الآن وهو غير متوضئ، فإذا توضأ فاتته الجنازة الصلاة على الجنازة فيمكن أن يتيمم، رخص بعض أهل العلم في التيمم في مثل هذه الحال، وهو منقول عن جماعة من السلف.

والشيء الذي لا يفتتح بالتكبير ويختتم بالتسليم كسجود الشكر وسجود التلاوة هل يشترط له الطهارة، أو لا؟! خلاف بين أهل العلم، فعلى قول ابن القيم هنا أن هذا ليس بصلاة فلا يشترط له طهارة، ومن ثم أيضًا لا يشترط له استقبال القبلة، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية[20]، فعنده أن المرأة لا يحتاج أنها تحتجب أو تغطي جسدها في سجودها، ولا يشترط لها طهارة، ولا غير ذلك تسجد كيفما كان، وكثير من أهل العلم يقولون: لا بد فيه من طهارة واستقبال.

"قوله ﷺ: خذوا عني مناسككم[21]، هو أن يفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فإن كان قد فعل فعلا على وجه الاستحباب فهو مستحب، وإن كان على وجه الوجوب فهو واجب".

هذا تفصيل جيد يعني عندنا قاعدة أخرى وهي أن التفاصيل أن هذا أمر للوجوب خذوا عني مناسككم، والتفاصيل التي تكون داخلة تحت هذه الجملة الأصل أنها تكون للوجوب هي فرع عنه أليس كذلك؟

هي متفرعة عنه لكن هذا يرد عليه إشكالات يعني النبي ﷺ قال: خذوا عني مناسككم، صلوا كما رأيتموني أصلي[22]، وصلى أمامهم هذه الأشياء التي فعلها في صلاته -عليه الصلاة والسلام- هل كل ذلك من قبيل الواجب؟!

الجواب: قطعًا لا، هل كل هذه الأشياء التي فعلها في الحج هي من قبيل الواجب؟!

الجواب: لا، فيبقى عندنا بعض الأشياء مترددة يختلف العلماء فيها هل هي واجبة، أو ليست بواجبة؟!

فالذين يقولون: بالوجوب أول ما يستدلون به يقولون النبي ﷺ قال: خذوا عني مناسككم، وفعل هذا، والتفصيل هذا الذي يدخل تحت هذا الأمر للوجوب إذن: خذوا عني مناسككم هذا أمر فكل ما يدخل تحت هذه الجملة فهو للوجوب، وهذا فيه إشكال، يعني النبي ﷺ مثلاً قال: خذوا عني مناسككم فطاف، وتوضأ قبل الطواف، هل الوضوء للطواف واجب أو ليس بواجب؟! خذوا عني مناسككم لكنه ما قال للناس: توضؤوا قبل الطواف، مع أن هذا أمر تعم به البلوى، ويحتاج الناس إليه، ويلحقهم حرج شديد في الحج كما هو معلوم، الآن الطواف يصل إلى سبع ساعات ست ساعات في طواف الوداع، وربما طواف الإفاضة حتى في السطح يتوقف الطواف يصل إلى ست ساعات.

والذين يعانون من إشكالات، ومن أمراض وسكر ونحو ذلك هذا كيف يستطيع الواحد منهم ست ساعات وهو محافظ على وضوئه؟! ثم يذهب إلى الخلاء، ثم يرجع ويحتاج ست ساعات جديدة، إذا قلنا: أعد، ثم ينتقض وضوؤه، وهكذا.

فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: هذا فعل، وهذا الفعل تعم به البلوى، والنبي ﷺ ما أمر الناس أن يتوضؤوا، بناء على ذلك ابن القيم لم يعتبر الطهارة شرطًا لصحة الطواف[23]، ويقول كون النبي ﷺ طاف متوضئًا وقال: خذوا عني مناسككم، الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب، وابن القيم يناقش هذه القضية في هذا الكتاب، وفي غيره مناقشة طويلة، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية[24] -رحمه الله-.

ابن القيم يناقش هذه القضية يبين أصلاً أن الشروط إن كان شرطًا الشروط متفاوتة أن هذه الشروط متفاوتة ويقول: هناك أشياء لا تصل إلى مرتبة الشرط، وهناك أشياء هي واجبة لكنها قد يلحق المكلف الحرج لسبب أو لآخر، فلا يفعل هذا الشيء لكن لا يعني ذلك أن العبادة تكون باطلة، مثل: الصلاة، لو أنه صلى من غير طهارة، وهو يستطيع أن يصلي متطهرًا، فهو يرى أن هذه الشروط ليست على درجة واحدة من حيث طلب الشارع، وإنما هي في غاية التفاوت.

وابن القيم -رحمه الله- تكلم عن قضية كهذه فذكر احتمالات: ماذا يقال في المرأة الحائض؟ قال: "إما أن يقال: إن طوافها صحيح، أو يقال: إنها لا تزال محرمة فترجع إلى بلدها، ثم بعد ذلك تأتي ولربما بقيت سنة لا تستطيع الرجوع وتبقى محرمة، يقول: الشريعة ما جاءت بهذا، أو يقال لها: انتظري ويذهب الرفقة، وهذا يسبب لها حرج وذكر جميع الاحتمالات، ثم بدأ يناقشها فهو يرى أن مثل هذا أنه تصح معه العبادة حتى لو قيل بالوجوب أن العبادة لا تكون باطلة بهذا الاعتبار لكن هو عموما مسألة الطهارة غير موضوع طواف الحائض، فإن النبي ﷺ قال لعائشة -رضي الله عنها-: غير ألا تطوفي[25].

هل العلة من أجل أن الطهارة مطلوبة للطواف؟ أو من أجل أنه ليأمن من تلويث المسجد؟! أين العلة؟!

من قال: من أجل حرمة المسجد وألا يلوث المسجد قال: إذا اضطرت فإنها تحتاط وتطوف، لاسيما في هذه الأوقات، يعني لربما كان الإنسان في هذه القضية يتحرز فيها كثيرًا لكن من نظر في حال الناس في هذه السنوات وبقاءهم هذه المدة الطويلة في الطواف إلى ست ساعات ثم يقال لهم: كل من انتقض وضوؤه عليه أن يرجع ويتوضأ من جديد، ثم يعيد الطواف في مثل هذه الأوقات يلحق الناس حرج كبير، والشريعة ما جاءت بهذا في قضية كهذه لم يرد فيها دليل واضح صريح على اشتراط الطهارة للطواف، لكن يقال في وقت الإمكان بأن الإنسان عليه أن يحتاط خروجًا من خلاف أهل العلم في قضية كهذه لاسيما في طواف لربما يكون ركن مثل طواف الإفاضة عليه أن يحتاط وأن يحرص أن يكون طوافه على طهارة، لكن لما يأتي إنسان ويقول: أنا والله في الشوط السادس يتصلون: أنا في الشوط السادس وانتقض وضوئي فهو جالس له خمس ست ساعات وهو يطوف زحمة شديدة، ولو أراد أن يخرج ما تخلص، ولو أراد أن يدخل ما تخلص، ولربما يغلق الحرم ست ساعات وأكثر، والناس ينتظرونه أصحابه، وكل من قابله قال: أنت في أي شوط! ثم يقول: انتقض وضوئي، ثم هؤلاء الذين سينتظرونه أيضًا وقد طافوا ست ساعات يمكن، ويغلق الحرم يمكن ست ساعات، هذه اثنا عشر ساعة، ويقال لهم: طوافكم صار قديم لا يكون آخر العهد بالبيت عليكم أن ترجعوا وتطوفوا لا تجلسون هذه المدة اثنا عشر ساعة بعد الطواف، الشريعة ما جاءت بهذا، هذه أمور خارجة عن طاقة الناس، والله أعلم.

"الاحتياط يكون في الأعمال التي يترك المكلف منها عملا لآخر احتياطًا، وأما الأحكام الشرعية والإخبار عن الله ورسوله فطريق الاحتياط فيها ألا يخبر عنه إلا بما أخبر به، ولا يثبت إلا ما أثبته، واللازم ألا يقال في باب المياه: ما ثبت تنجسيه بالدليل الشرعي نجسناه، وما شككنا فيه رددناه إلى أصل الطهارة".

يعني مسألة العمل بالأحوط هذه قضية من الناحية العملية فيها كلام وتفصيل لأهل العلم معروف، فإذا كان القول مهجورًا أو شاذًا ففي هذه الحال لا يقال: يندب المكلف إلى العمل بالأحوط، فلا يلتفت إلى ذلك، ولا يقول: المكلف في نفسه أنا والله سأحتاط خروجا من الخلاف، هذا الخلاف الشاذ فإنه لا عبرة به.

لكن إذا كان هذا الخلاف معتبرًا فيندب المكلف إلى الخروج من هذا الخلاف، فيقال: الأحوط كذا، لكن لا يلزم به، ويمكن للمفتي أن يعمل لنفسه بالأحوط، ويأخذ بالعزائم، ولكنه لا يستطيع أن يلزم الناس بهذا.

هذا فيما يتعلق بالفتوى، وهنا قضية وهي فيما يتصل بالبلاغ عن الله أن يقال: الحكم الشرعي هو كذا، بناء على الأحوط هذا لا يصح في البلاغ عن الله، في بيان أحكام الشارع، يعني فرق بين أني أعمل بالأحوط، وأقول: أنا والله سأخرج من خلاف أهل العلم لا بأس، لكن أن آتي وأقرر الأحكام بناء على النظر في الأحوط، تقرير الأحكام، ويقال: الحكم الشرعي كذا مقدار كذا كذا، بناء على الأحوط.

يتبين لكم بالمثال خذ هذا المثال قال ابن جريج: أخبرني محمد بن يحيى بن عقيل أخبره أن يحيى بن يعمر أخبره أن رسول الله ﷺ قال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا ولا بأسًا[26]، حديث القلتين فيه الكلام المعروف المشهور.

قال: فقلت ليحيى بن عقيل: قلال هجر؟! قال: قلال هجر، فالنبي ﷺ لم يحدد القلال بقلال هجر، والقلال تتفاوت، فيه قلال في الحجاز، وفيه قلال هجر، وفي قلال في اليمن، وفيه قلال في العراق إذا بلغ الماء قلتين فهنا يقول ابن جريج ليحيى بن عقيل قلال هجر؟ قال: قلال هجر، هذا إذن من كلام من؟ أحد الرواة: يحيى بن عقيل.

قال: فأظن أن كل قلة تأخذ قربتين، يعني مقدار قربتين، القلة قربتين يعني معناها أن الماء إذا بلغ قلتين يعني معناها أربع قرب، أي قرب؟! تتفاوت القرب، القلال تتفاوت بناء على أنها قلال هجر وبناء على كلام أحد رواة الحديث.

الشافعي -رحمه الله- قدّرها بخمس قرب من قرب الحجاز احتياطًا؛ لأنه جاء عن ابن جريج قال: "رأيت القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئًا، القلة الواحدة قربتين أو قربتين وشيئًا"[27].

الشافعي قال: "والاحتياط أَنْ تَكُونَ الْقُلَّتَانِ خَمْسَ قربٍ، قَالَ: وَقِرَبُ الْحِجَازِ كِبَارٌ"[28]، فالشيء هذا نقدره بالنصف فقربتين ونصف هذه قلة، والقلة الثانية قربتين ونصف؛ هذه خمس قرب، فالآن حينما يقال: الماء إذا بلغ قلتين ما يعادل خمس قرب لم يحمل الخبث، ابن القيم يقول: هذا التحديد من أين جاء؟ ومن قال أصلاً أنها قلال هجر؟! الحديث ليس فيه هذا، وكيف حددت بخمس؟ بناء على أن ابن جريج شاك وجعلنا هذا الشك بقدر نصف قربة وصار المجموع خمس قرب، نقول: هذا التحديد الآن كأنه شيء جاء عن الشارع، والشارع لم يذكر هذا إطلاقًا فكيف يقال: إن الماء إذا بلغ قلتين بهذا المقدار مقدار خمس قرب لم يحمل الخبث، وإذا كان أقل يحمل الخبث، ابن القيم يقول: لو كان الماء الكثير هذا أبو خمس قرب جئنا وألقينا فيه نجاسة كبيرة ما يتغير لم يحمل الخبث ولو سقطت فيه شعرة نجسة إذا كان أقل من خمس قرب ولو بشيء يسير ألقينا فيه شعرة نجس يقول الشريعة ما جاءت بهذا كيف يقال بناء على هذا الاحتياط إلى خمس قرب أنه يقال: إن هذا ينجس وهذا لا ينجس؟

نقول: هذا الآن هو يتوقف على بيان الشارع ما يتوقف على أمور مبنية على الأحوط مع أن الراجح أن الماء قل أو كثر لا يتغير إلا إذا تغيرت أحد أوصافه بالنجاسة سواء كان أقل من قلتين، أو كان أكثر.

فهذا مثال يوضح هذه القضية فيما يتعلق بتقرير الأحكام بناء على النظر في الأحوط، فرق بين أن يندب المكلف للعمل بالأحوط، أو يعمل الإنسان بنفسه خروجًا من الخلاف، فيأخذ القول الذي احتاط فيه إن كان الاحتياط سائغًا، أحيانًا لا يمكن الاحتياط، لأن الآن قراءة الفاتحة خلف الإمام في الجهرية من أهل العلم من يقول: ركن، ولا تصح صلاته إلا بهذا ومنهم من يقول: لا يجوز وهو آثم؛ لأن الله قال: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف:204].

فهنا ما هو الأحوط؟ هذا يقال: لا يجوز يأثم، وهذا يقول: هي ركن لا تصح صلاته إلا بها هنا ما في أحوط ما يتأتى الأحوط في كل شيء.

على كل حال لعله يأتي إن شاء الله درس مستقل عن العمل بالأحوط وبيان أحكامه وتفاصيله وضوابط العمل؛ لأن في ناس يسخرون من الفقهاء ومن أهل العلم المنضبطين ويقولون: هؤلاء فقهاء الأحوطيات، هؤلاء أصحاب ما يسمى بمنهج التيسير في الفقه، يعني أصحاب مذهب لا حرج، لا يقال: حرام، كل الفتاوى في هذه القنوات ما فيها حرام، ما فيها لا يجوز؛ من أجل جذب الناس، وترغيب الناس، هذا خلاف البيان، الرسل -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بالحق الواضح المبين، والقرآن تبيان لكل شيء.

"الأحاديث كلها الواردة في وصف صلاته ﷺ تدل على معنى واحد وهو أنه كان يطيل الركوع والسجود، ويخفف القيام، وأن صلاته متوازنة متقاربة إن أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإن خفف القيام خفف الركوع والسجود".

هنا ساق أدلة كثيرة في صفة صلاة النبي ﷺ وفي قراءته، وكذلك فعل في كتابه الآخر: الصلاة فمن أراد التفاصيل من كلام ابن القيم فليرجع إلى كتاب الصلاة وكلام ابن القيم هنا يعني في هذه الطبعة التي عندي في المجلد الأول صفحة: 414 وقبلها وبعدها.

فبعدما ذكر أدلة كثيرة جدا في صفة صلاته وقراءته وركوعه وسجوده، بعد ذلك يقول: "لا تعارض بحمد الله بين هذه الأحاديث بل يصدق بعضها بعضًا"[29]، يعني حديث أنس من أن صلاة النبي ﷺ كانت يعني التخفيف الذي كان في صلاته -عليه الصلاة والسلام-، يقول: "هو مقرون بوصفه إياها بالتمام"، يعني تمام مع التخفيف، يقول: "وهو الذي وصف تطويله ركني الاعتدال حتى كانوا يقولون: قد أوهم، ووصف صلاة عمر بن عبد العزيز بأنها تشبه صلاة النبي ﷺ مع أنهم قدروها بعشر تسبيحات"[30]، يعني في الركوع والسجود.

يقول: "والتخفيف الذي أشار إليه أنس هو تخفيف القيام يقول: "ووصف صلاة عمر بن عبد العزيز بأنها تشبه صلاة النبي ﷺ مع أنهم قدروها بعشر تسبيحات، والتخفيف الذي أشار إليه أنس هو تخفيف القيام مع تطويل الركوع والسجود، كما جاء مصرحا به فيما رواه النسائي عن قتيبة إلى زيد بن أسلم قال: دخلنا على أنس بن مالك فقال: صليتم؟ قلنا: نعم، قال: يا جارية، هلمي لنا وضوءً ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله ﷺ من إمامكم! قال زيد: وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود، ويخفف القيام والقعود"[31]، وهذا حديث صحيح".

هنا يقول: في حديث عمران بن حصين لما صلى خلف علي بالبصرة قال: لقد ذكرني هذا صلاة رسول الله ﷺ، وكان صلاة رسول الله ﷺ معتدلة كان يخفف القيام والقعود ويطيل الركوع والسجود، وقد تقدم قول أنس: "كان صلاة رسول الله ﷺ متقاربة، وحديث البراء بن عازب أن قيامه ﷺ وركوعه وسجوده كان قريبًا من السواء"[32].

يقول: "فهذه الأحاديث كلها تدل على معنى واحد وهو أنه كان يطيل الركوع السجود ويخفف القيام، وهذا بخلاف ما كان يفعله بعض الأمراء الذين أنكر الصحابة صلاتهم من إطالة القيام مع ما كان النبي ﷺ يفعله غالبا وتخفيف الركوع والسجود والاعتدالين، ولهذا أنكر ثابت عليهم تخفيف الاعتدالين، وقال: "كان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه"[33]، إلى آخر ما ذكر.

"إذا اجتمعت عبادتان صغرى وكبرى فالسنة تقديم الصغرى على الكبرى كالوضوء مع الغسل والعمرة مع الحج".

يعني هنا ذكر في سياق معين هو ما يقول: إذا اجتمع عبادتان، يقول القياس -هذا مهم في العبارة-، يقول: "القياس أنه إذا اجتمعت عبادتان صغرى وكبرى"، يعني ما هو يذكرها على أنها قاعدة ثابتة، وإنما يقول: "القياس أنه إذا اجتمعت عبادتان صغرى وكبرى فالسنة تقديم الصغرى على الكبرى"، هذا مبناه على الاستقراء، تقديم الصغرى على الكبرى كالوضوء مع الغسل، يعني هذا ثابت من فعل النبي ﷺ توضأ، أولاً غسل فرجه، ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم غسل ميامنه، ثم مياسره، ثم حث على رأسه ثلاثًا وعمم سائر جسده عليه الصلاة والسلام-[34].

قال: "والعمرة مع الحج" يعني العمرة مع الحج تكون يعني قبله أليس كذلك؟! في التمتع ومقارنة له في القران، وكذلك فيما يتعلق بغسل الميت فإنه يبدأ يوضأ يعني مواضع الوضوء أولاً.

وابن القيم -رحمه الله- هنا يتكلم على هذه القضية في معرض بيان أن التمتع أفضل الأنساك، فهو يدلل على هذا فذكر وجوهًا كثيرة ذكر هذا في الوجه رقم عشرين في أن التمتع أفضل الأنساك، فهذا الوجه رقم عشرين يقول: "القياس أنه إذا اجتمعت عبادتان صغرى وكبرى فالسنة تقديم الصغرى"[35]، فالتمتع أفضل إذن من القِران.

"وقد اشتملت ألفاظ التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة؛ لأن قوله: (لبيك) يتضمن إجابة داع دعاك، ومناد ناداك وهو الله".

هنا تأملات في التلبية وما فيها من المعاني العظيمة، فحينما يقول: لبيك، يتضمن إجابة داع دعاك ومناد ناداك، لأنك لا تقول: لبيك إلا إذا دعيت، يقال: يا زيد يا فلان يقال: لبيك يا لبيك، إجابة لك بعد إجابة، فهذا؛ لأنه لا يصح لغةً ولا عقلاً إجابة من لا يتكلم، ولا يدعو من أجابه، فهذا يدل على أن الله -تبارك وتعالى- يتكلم ويدعو وينادي ويأمر وينهى هو يريد أن يصل إلى هذا إجابة داع دعاك، يعني يقول هذا يدل على أن الله يتكلم، وأنه موصوف بالكلام، وإلا كيف يقال لك: لبيك؟ إجابة لك هو دعاك حتى تقول: لبيك؟! فالذين يقولون: إن الله لا يتكلم أصلاً كيف يوجهون ذلك؟! يعني هو يحتج بهذا على أن الله -تبارك وتعالى- يتكلم، فهو يذكر فوائد كثيرة هذه قليلة منها يعني هنا ذكر كم؟ سبع، وهناك ذكر واحد وعشرين فائدة من التلبية ومنادٍ ناداك، وهو الله، وذلك يتضمن المحبة؛ لأنه باعتبار أنه لا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه يعني باعتبار أحد تفسيراتها عند العرب، يعني بعضهم يقول: إن معناها أنا مواجه لك بما تحب، هذه الفوائد بعضها بناء على معاني قيلت في معنى لبيك، أنا مواجه لك فيما تحب، فيقال هذا لمن تحبه وذلك يتضمن المحبة من أين طلعنا المحبة؟!

باعتبار أحد تفسيرات لبيك أنك لا تقوله إلا لمن تحب، أنا مواجه لك بالمحبة.

والتزام دوام العبودية من أين أخذنا هذا؟

باعتبار أن لبيك فسرت أيضًا بالإقامة، أنا مقيم على طاعتك، فهذا إقامة ومداومة على العبودية.

والخضوع والذل باعتبار أن التلبية مأخوذة من قولهم: أنا ملّب بين يديك، أي: خاضع ذليل، هذا تفسير للتلبية بناء عليه بنى هذا المعنى.

والإخلاص بناء على أن التلبية مأخوذة من اللب وهو خالص الشيء، فقال: هذا يرجع إلى معنى الإخلاص، والتقرب بناء على أنها مأخوذة من الإلباب وهو التقرب، فالآن ذكر معاني طبعًا هل الراجح واحد وبناء عليه تبطل كل هذه المعاني؟ أو يقال: كل هذا صحيح وما يبنى عليه صحيح، فابن القيم -رحمه الله- يكثر الاستنباطات والفوائد والمعاني وأحيانًا تكون مبناها على أشياء هي يعني تفسيرات، أو معاني قد تكون احتمالات، أو يكون بعضها من قبيل الاحتمال، فإن كان المطلوب منها واحدًا فإن الباقي لا يعتبر، وإن كانت جميعًا تندرج تحته وتصح فهذا لا إشكال، حتى في الأوجه الكثيرة التي يذكرها يعني في أي كتاب يعني مثلاً في "فضل الصلاة على النبي ﷺ جلاء الأفهام"، يذكر وجوهًا كثيرة في مواضع الصلاة على النبي ﷺ وسيأتي.

بعض هذه الأشياء أحيانا مبنية على رؤيا منامية، وأمور من هذا القبيل، يعني ما في دليل لا قال الله ولا قال رسوله حتى ولا قول صحابي، ابن مجاهد قابل الشبلي، والشبلي صوفي معروف حتى يقال عنه: أنه كان مجنون، وابن مجاهد الإمام القارئ فقام إليه وقبل ما بين عينيه، فسئل كيف تقبل هذا وأنت الإمام ابن مجاهد القارئ شيخ القراء في عصره، قال: رأيت رؤيا، رأيت النبي ﷺ يقول إنه يقول يعني الصلاة على النبي ﷺ في موضع معين فسئل قال: إذا رأيته فقبل عينيه فرأيت النبي ﷺ قبل ما بين عينيه ففعلت ما فعل، فسئل الشبلي فيما بعد أنت، ماذا تقول فذكر نفس النص، الرؤى لا يبنى عليها شيء، الرؤى لا يبنى عليها حكم، هذه قضية شرعية يقال هذا من مواضع الصلاة على النبي ﷺ يستحب فيها بناء على رؤيا؟!

فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- كالبحر الذي تتلاطم أمواجه، يأتيك بوجوه كثيرة تغرق فيها، هذه الوجوه تصل أحيانا إلى مائتي وجه، تصل إلى أكثر، وبعض هذه الوجوه قد تكون لا تبنى على شيء ثابت يصلح أن يعتمد عليه لكن تأخذ من هذه الأعداد الغفيرة الكبيرة كما كبيرًا من الأشياء الصحيحة والوجوه الجيدة المعتبرة.

أما ترى أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، لكن لو جاء إنسان من المفاليس وهو أصلاً كل الماء الذي عنده هو أصلاً هذا، فإذا وقع فيه التخليط تكدر مباشرة، لكن لما يكون بحرًا ويلقى فيه شيء فإنه لا يضره، هذا حال الأئمة الكبار العلماء، يعني بعض الأشياء لو أوردها واحد من آحاد طلاب العلم من المساكين من أمثالنا لربما كانت شناعة في حقه، وابن القيم يذكرها في كتبه، والسبب هو هذا فرق.

"والتقرب من الله والإقرار بسمع الرب، وجعلت في الإحرام شعارًا للانتقال من حال إلى حال، ومن منسك إلى منسك".

يعني من حيث أنه يذهب من وين إلى وين؟! يعني حينما يذهب إلى عرفة، ومن عرفة إلى مزدلفة، يلبي، وهكذا كما جعل التكبير في الصلاة شعارًا للانتقال يقارن بين التلبية والتكبير.

"كما جعل التكبير في الصلاة شعارًا للانتقال من ركن إلى آخر، ولهذا كان السنة أن يلبي حتى يشرع في الطواف فيقطع التلبية، ثم إذا صار لبى حتى يقف بعرفة فيقطعها، ثم يلبي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها، ثم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها، فالحاج كلما انتقل من ركن إلى ركن قال: لبيك اللهم لبيك، فإذا حل من نسكه قطعها كما يكون سلام المصلي قاطعًا لتكبيره.

ومنها أنه شعار للتوحيد الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها والمقصود منها، ومتضمنة لمفتاح الجنة الذي هو كلمة الإخلاص، ومشتملة على الحمد لله الذي هو من أحب ما يتقرب به إلى الله، وعلى الاعتراف بالنعمة كلها لموليها وبأن الملك كله لله فلا ملك على الحقيقة لغيره.

وأكدت هذه الأمور بأن المقتضي تحقيق الخبر".

هنا في طبعتي: وأكدت هذه الأمور أن مقتضاها تحقيق الخبر، ليس كذلك.

"وأكدت هذه الأمور بأن المقتضي تحقيق الخبر وتثبيته، ومتضمنة للإخبار عن اجتماع الملك والنعمة والحمد لله ، وهذا نوع آخر من الثناء غير الثناء بمفردات تلك الأوصاف العلية، فله سبحانه من أوصافه العلا نوعا ثناء: نوع متعلق بكل صفة، صفة على انفرادها، ونوع متعلق باجتماعها وهو كمال مع كمال وهو غاية الكمال.

وأيضًا فقد اشتملت التلبية على معنى هذه الكلمات، وهو قول النبي ﷺ:أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله[36]، إلى آخره".

الآن في أسماء الله الحسنى ذكرنا لكم في الكلام على الأسماء أنه يؤخذ من كل اسم ما تضمنه من الصفة، وكذلك أيضًا حال الاقتران فإن ذلك يعطي وصفًا ثالثًا، فإذا كان الغني الحميد، الغني معروف متضمن لصفة الغِنى، والحميد متضمن لصفة الحمد، فاقتران الغني بالحميد أنه محمود في غناه بخلاف الكثيرين من الناس، كثير منهم إذا حصل له الغنى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، فيحمله الغنى على البطر، هنا لا، الله -تبارك وتعالى- محمود في غناه هذا مضى الكلام عليه في الأسماء الحسنى.

هنا يقول: أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلا الله، الآن أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد... إلخ يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، هذه متضمنة للتوحيد لا إله لا الله، قوله هنا أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وهو على كل شيء قدير هذه يحتمل أن تدخل تحت إن الحمد والنعمة لك فالذي يكون له الحمد كله معنى ذلك أنه متصف بجميع صفات الكمال له القدرة الكاملة وهو على كل شيء قدير، له أوصاف الكمال جميعا، والملك إن الحمد والنعمة النعمة هو مسديها، وهو معطيها، والمتفضل بها، فهذا من قدرته تبارك وتعالى

أو يدخل تحت الملك: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، فالملك هو التصرف المطلق فهذا مبناه على القدرة ويحتمل أن يدخل في هذا، أو في قوله: لبيك لا شريك لك فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه، فيدخل فيه قوله: أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، هذا أفضل ما قيل يقول مضمن في التلبية

"ومتضمنة للرد على كل مبطل في صفات الله وتوحيده، مبطلة لقول المشركين على اختلاف طوائفهم ومقالاتهم ولقول الفلاسفة وإخوانهم من الجهمية المعطلين صفات الكمال التي هي متعلق الحمد، فهو سبحانه محمود لذاته ولصفاته ولأفعاله فمن جحد صفاته وأفعاله فقد جحد حمده، ومبطلة لقول القدرية فمن علم معنى هذه الكلمات وشهدها".

القدرية يعني الذين أخرجوا من ملكه وقدرته أفعال العباد، قالوا: إن الله لم يخلق أفعال العباد ولم يقدرها عما يقولون علوا كبيرًا.

أما الفلاسفة فبعضهم يقول: لا قدرة له على شيء أصلاً فهذه مبطلة لقول هؤلاء.

"فمن علم معنى هذه الكلمات وشهدها وأيقن بها باين جميع الطوائف المعطلة".

"أمره ﷺ بالاحتجاب من ابن أمَة زَمعة يدل على أصل وهو تبعيض أحكام النسب فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره، ولا يكون أخاها في المحرمية والخلوة والنظر إليها لمعارضة الشبه للفراش".

هذا في غاية النفع لطالب العلم، يعني الآن ابن أمَة زَمعة حصل خصومة بين سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام، عبد بن زمعة يقول: هذا ابن أمة زمعة، زمعة عنده أمة جابت غلامًا، فعبد بن زمعة يقول: هذا أخي، هذا ولد جارية أبي، سعد بن أبي وقاص يقول: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، وعتبة بن أبي وقاص معروف هو الذي كسر رباعية النبي ﷺ ومات مشركًا، فيقول سعد بن أبي وقاص: بأن أخي عتبة عهد إليّ أنه ابنه، سعد يقول: يا رسول الله انظر إلى شبهه! يشبه من؟ يشبه عتبة الشبه الآن لعتبة، عبد بن زمعة يقول: هذا أخي يا رسول الله، ولد على فراش أبي من وليدته يعني من الجارية، فالجارية فراش والزوجة فراش، فنظر النبي ﷺ إلى شبهه فرأى شبهًا بينًا بعتبة فقال: هو لك يا عبد بن زمعة[37]، بناء على الأصل أن الولد للفراش كما قال النبي ﷺ: الولد للفراش وللعاهر الحَجْر[38].

وبعضهم ضبطها الحَجَر يعني ليس لها شيء، فإذا في فراش كالأمة والزوجة فإنه يلحق بالفراش ويغلب جانبه.

لكن النبي ﷺ قال: واحتجبي منه يا سودة[39]، سودة بنت زمعة، بأي اعتبار احتجبي منه؟! الآن ألحقه بمن؟! ألحقه بزمعة، وإلا لا؟ صار الولد حكم به لزمعة فعبد بن زمعة يقول هذا أخي من أبي زمعة، فالنبي ﷺ حكم بأنه ولد لزمعة إذن هو أخ لسودة، كيف تحتجب منه؟ هي لا تحتجب منه إذن؟! لا، النبي ﷺ نظر إلى أمر آخر وهو الشبه.

فهنا عندنا أصل نازعه أمر آخر وهو الشبه، ففي هذا الباب في باب النسب يقول: هذا يدل على أصل وهو تبعيض أحكام النسب، فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره، يعني التوارث، ويحرم عليه أن يتزوجها، ويحرم على ولده أن يتزوجها مثلاً، ويحرم عليه أن يتزوج بنتها مثلاً، فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره ولا يكون أخاها في المحرمية والخلوة احتياطًا؛ مثلما نقول: الآن لمعارضة الشبه للفراش فأعطى الفراش حكمه من ثبوت الحرمة وغيرها، وأعطى الشبه حكمه من عدم ثبوت المحرمية لسودة ولهذا نظائر كثيرة وهو من أسرار الفقه ومراعاة الأوصاف التي تترتب عليها الأحكام، وترتيب مقتضى كل وصف عليه، ومن تأمل الشريعة أطلعته من ذلك على أسرار وحكم تبهر الناظر فيها.

الآن في رمضان مثلاً الكلام في طلوع الفجر هل هو على التقويم أو لا؟، هل التقويم يعتبر مبكر قبل طلوع الفجر؟ فقد يقال للناس: في الصيام احتاطوا للعبادة بحيث أنه إذا أذن توقفوا عن الأكل والشرب، وفي الصلاة احتاطوا للصلاة فلا تصلى صلاة الفجر إلا بعد مضي وقت من الأذان إلى عشرين دقيقة مثلاً، أو نحو ذلك احتياطا للصلاة فنحتاط للعبادة من الجهتين وهذا الذي نفعله عادة هنا في هذا المسجد في رمضان، ولا يضر مثل هذا الاحتياط.

 

  1. انظر: الطرق الحكمية (ص: 95).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب الجهاد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الرهان والسبق، برقم (1700)، والنسائي، كتاب الخيل، باب السبق، برقم (3586)، وصححه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (3874)، وفي إرواء الغليل (5/333)، برقم (1506).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في السبق على الرجل، برقم (2578)، وأحمد في المسند، برقم (26277)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (2323).
  4. مجموع الفتاوى (18/64)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (4/68).
  5. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/17-18)، والفروسية (ص: 165)، وما بعدها.
  6. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/415)، ومجموع الفتاوى (32/253).
  7. الفروسية (ص: 301).
  8. فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (15/189)، الفتوى رقم (9349).
  9. انظر: البيان والتحصيل (13/255)، والقوانين الفقهية (ص: 278)، والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (2/349)، والتوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (7/467).
  10. البناية شرح الهداية (9/149)، و(12/253)، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (7/91)، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (6/31).
  11. المغني لابن قدامة (10/151)، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (12/53).
  12. انظر: الأم للشافعي (6/224)، والمجموع شرح المهذب (20/228)، وروضة الطالبين وعمدة المفتين (11/230).
  13. انظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (13/287)، والحاوي الكبير (17/187).
  14. انظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (5/325)، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق (8/554)، والدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (6/752).
  15. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/415)، ومجموع الفتاوى (31/13).
  16. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل، برقم (2168)، وبرقم (2729)، كتاب الشروط، باب الشروط في الولاء، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، برقم (1504).
  17. تمام الحديث السابق.
  18. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/170).
  19. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء، برقم (61)، وبرقم (618)، كتاب الصلاة، باب الإمام يحدث بعد ما يرفع رأسه من آخر الركعة، والترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في تحريم الصلاة وتحليلها، برقم (238)، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب مفتاح الصلاة الطهور، برقم (275)، وقال الألباني: "إسناده حسن صحيح"، كما في صحيح أبي داود، برقم (55)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5885).
  20. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/340)، ومجموع الفتاوى (23/166).
  21. أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا، وبيان قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((لتأخذوا مناسككم))، برقم (1297)، بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
  22. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر، إذا كانوا جماعة، والإقامة، وكذلك بعرفة وجمع، وقول المؤذن: الصلاة في الرحال، في الليلة الباردة أو المطيرة، برقم (631).
  23. إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/230)، وما بعدها.
  24. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/448)، ومجموع الفتاوى (26/123)، وما بعدها.
  25. أخرجه البخاري، كتاب الحيض، باب كيف كان بدء الحيض وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((هذا شيء كتبه الله على بنات آدم))، برقم (294)، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحل القارن من نسكه، برقم (1211).
  26. أخرجه الحاكم في المستدرك، برقم (460).
  27. انظر: مختصر المزني (8/101)، والحاوي الكبير (1/333)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (1/30)، والمجموع شرح المهذب (1/119).
  28. المراجع السابقة.
  29. انظر: الصلاة وأحكام تاركها (ص: 128).
  30. انظر: الصلاة وأحكام تاركها (ص: 125)، وزاد المعاد في هدي خير العباد (1/210).
  31. أخرجه النسائي، كتاب الافتتاح، تخفيف القيام والقراءة، برقم (981)، وأبو يعلى في مسنده، برقم (3669)، وصححه محققه حسين سليم.
  32. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (772)، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب تسوية القيام والركوع، والقيام بعد الركوع، والسجود والجلوس بين السجدتين في صلاة الليل، برقم (1664).
  33. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب اعتدال أركان الصلاة وتخفيفها في تمام، برقم (472).
  34. أخرجه الترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الغسل من الجنابة، برقم (103)، وابن ماجه، أبواب التيمم، باب ما جاء في الغسل من الجنابة، برقم (573).
  35. لم أقف عليه.
  36. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3585)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1102).
  37. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب تفسير المشبهات، برقم (2053)، وفي باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه، برقم (2218)، وبرقم (2533)، كتاب العتق، باب أم الولد، ومسلم، كتاب الرضاع، باب الولد للفراش، وتوقي الشبهات، برقم (1457).
  38. تمام الحديث السابق.
  39. تمام الحديث السابق.

مواد ذات صلة