الإثنين 23 / جمادى الأولى / 1446 - 25 / نوفمبر 2024
14 - ابن القيم ومن مدارج السالكين. القواعد 894-907 ‏
تاريخ النشر: ١٦ / شوّال / ١٤٣٣
التحميل: 3630
مرات الإستماع: 4469

الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فاللهم اغفر لشيخنا ولنا وللحاضرين.

قال المؤلف -رحمه الله: القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قُطع الرأس مات الطائر، ومتى عُدم الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله هنا "بأن القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه"، هذا الكلام مر الحديث عنه بشيء من  التوسع والتفصيل في الكلام على الأعمال القلبية، وحاصله أنه لابد للمؤمن من سائق يسوقه، وهو صوت الخوف، ولابد له من رجاء مع هذا الخوف حتى لا يصير ذلك إلى حال من اليأس والقنوط؛ فإن الخوف وحده يقوده إلى القنوط واليأس، وكما أن الرجاء وحده قد يحصل له معه شيء من التفريط والتضييع، فلابد من خوف مع الرجاء، ولابد من حادٍ يحدوه في سيره إلى الله -تبارك وتعالى، وهذا الحادي هو المحبة؛ فلا تكون حال العبد مع ربه -تبارك وتعالى- هو أن يكون متلبسًا بالخوف وحده، ولا بالرجاء وحده، ولا بالمحبة وحدها؛ لأنه إذا كان من أهل المحبة دون خوف ولا رجاء فإن ذلك قد يحمله على شيء من الإدلال على ربه، وهذا أيضًا مذموم، فالمحبة أيضًا لابد لها من خوف، فيحصل بسبب ذلك التعظيم، وهذا الخوف لابد أن يعتدل فيكون معه نافذة من الرجاء، فيعمل العبد، فيستوي حاله، كالطائر الذي يطير بجناحين: جناح الخوف هنا، وجناح الرجاء، والمحبة هي الرأس. 

وقد تكلم أهل العلم في هذه الأمور، هل يغلّب الخوف على الرجاء؟ أو أنه ينبغي أن يستوي الخوف مع الرجاء؟

حاصل ذلك أن من أهل العلم من يقول: لابد من الاستواء، استواء الخوف والرجاء مطلقًا؛ لأن الله أثنى على أهلهما، أهل الخوف والطمع -وهذا هو الرجاء، الخوف والرجاء، وأن ذلك هو حد الاعتدال، سواء كان في حال الصحة، أو في حال الاعتلال وقرب الموافاة.

وبعض أهل العلم يقول: إنه يكون في حال الصحة والقوة مغلبًا لجانب الخوف؛ ليكون ذلك سائقًا له وحاملًا له على فعل الطاعات وترك المعاصي، فيغلب جانب الخوف، فإذا كان في حال الموافاة ومرض الموت فإنه يغلب جانب الرجاء؛ لأنه لا ينبغي لعبد أن يلقى الله  إلا وهو يحسن الظن بربه، فيغلب الرجاء في مثل هذه الحال.

وكل واحد من هذين القولين قال به أئمة كبار من أئمة أهل السنة والجماعة والسلف الصالح ، وكل قول من هذين القولين له وجه صحيح من النظر، فلو قال قائل: إنه يكون في حال من الاعتدال مطلقًا، فهذا له وجه وله أدلته من الكتاب والسنة، ومن قال: إنه يغلب جانب الخوف مع وجود الرجاء ليحمله ذلك على الامتثال فإذا كان في حال الموافاة غلب الرجاء فهذا الكلام له وجه صحيح من النظر، والله تعالى أعلم.

وهذه الأمور الثلاثة لابد منها جميعًا.

قال -رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة، وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.

الزهد والورع بينها نوع ارتباط، ولذلك قد يلتبس هذا بهذا، أو قد لا يتبين الفرق لدى بعض الناس، وعبارات أهل العلم وأهل السلوك في بيان المراد بالزهد والمراد بالورع كثيرة، وهذه العبارات تارة تكون وصفًا لبعض أحواله أو أفراده أو أجزائه، وتارة يكون ذلك بذكر أثر من آثاره، وتارة يكون ذلك من قبيل الأسباب، يعني يذكرون سببًا يحصل به الورع، وهكذا الزهد.

والواقع أن الورع غير الزهد، وأن هذه العبارة التي نقلها عن شيخ الإسلام في التفريق بينهما أن "الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة"، هذا صحيح، وهكذا قول من قال: إن الزهد أن تكون الدنيا في يدك لكنها لا تكون في قلبك، هذا معنى صحيح يجلي حقيقة الزهد، ليس الزهد هو التخلي عن الدنيا كما يظن بعض الناس، وأن يلبس رث الثياب، وأن يسكن في الخرائب، وأن يترك أكل الطيبات، فقد كان النبي ﷺ يركب النجائب[1].

وكان ﷺ يلبس حلة جميلة يخطب بها الجمعة[2].

وكان ﷺ يحب الحُلو البارد، يحب الحلوى ﷺ[3].

وكان يتزوج من النساء[4]، فكما قال الله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [سورة الأعراف:32]، فتناول الطيبات من الملبوس، والمأكول، والمراكب، والمساكن، والمناكح وما إلى ذلك، هذا لا إشكال فيه، ولا ينافي الزهد، ومن كبار الصحابة ومن المبشرين بالجنة من كانت أمواله كثيرة، وكان من أهل الغنى والعرض الكثير، كعبد الرحمن بن عوف ، فهذا لا إشكال فيه، فهو لا ينافي الزهد، وهم أئمة الزهاد.

إذن الزهد ألا تكون الدنيا في القلب وإن كانت في اليد، ومن الناس من قد لا يظهر عليه شيء من الزينة، ومن نعمة الله  عليه في ملبسه ومركبه ومأكله ومسكنه وما إلى ذلك، وهو أحرص ما يكون على الدنيا، سواء كانت موجودة في يده أو كانت مفقودة، بمعنى أنه ما ترك رفيع اللباس والطيبات من المطاعم وغيرها من باب الزهد في الدنيا، لكن إما أن يكون الحامل له على ذلك هو المزيد من الشح إن كانت الدنيا في يده، أو أن قلبه يتطلع إلى ذلك ويتمناه، فلو حصل له لرأيت العجب، لكن ذلك ليس في يده، ولهذا فإن من الناس من قد تكون حاله ملائمة في حال الفقر والعدم، ولكنه إذا حصل له غنى تغيرت تلك الحال، وتحولت أحواله وأموره إلى شيء لا يخطر على بال، كان يُظن أنه من الزاهدين فيتبين الحال وينكشف عن أمر بخلاف هذا، إذن هذا بالنسبة للزهد.

أما بالنسبة للورع فيقول: "ترك ما تخاف ضرره في الآخرة"، هذا صحيح أيضًا، يترك الإنسان ما يخاف ضرره في الآخرة، فيدخل في هذا المحرمات، والشبهات، والمكروهات، ويُلحق بذلك أيضًا ما قاله الشاطبي -وإن لم يكن يتحدث عن الورع: التوسع في المباحات[5]؛ فإن التوسع في المباحات يوقعه في آخر حدود الحلال التي يقرب فيها من مواقعة المشتبهات، مع العلم بأن الورع على أنواع كما هو معروف: ورع عن الحرام فهذا واجب على كل أحد، وهناك ورع عن الأمور المكروهة وهذا مستحب، وهناك ورع عن الأمور المشتبهة وهذا أيضًا مستحب، وهناك تورع عن التوسع في المباحات وهذا أيضًا مستحب؛ لئلا يفضي إلى المشتبهات أو المحرمات.

فهذه أنواع الورع مع أحكامها، فهنا "الورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة"، سواء كان ذلك من قبيل الورع الواجب أو الورع المستحب.

ما وراء ذلك هو الذي يقال له: الورع المتكلف، أو الورع البارد، يتورع الإنسان من أمور إما أنه لا يصح التورع منها؛ لأنها من الطيبات، كالذي يتورع من الجلوس في مكان بارد ومكيف كما يفعل بعض العامة ممن لا بصر له، يتورع من شرب الماء البارد مثلًا، فهذا في غير محله.

وهكذا لون آخر من الورع يصلح لبعض الناس ولا يصلح لبعضهم، كالذي يكون مقارفًا للحرام الواضح، أو تاركًا للواجبات، ثم هو يتورع من أمور دقيقة جدًّا لا يصلح الورع فيها لمثله، يعني إنسان عنده دوام محدد من الساعة السابعة إلى الساعة الواحدة مثلًا، يوقع في الدخول والانصراف، وهذا الإنسان يأتي مثلًا الساعة التاسعة أو العاشرة ويوقع أنه جاء الساعة السابعة مثلًا، ويخرج قبل الموعد، يخرج الساعة الحادية عشرة، وإذا جاء في الغد وقع أنه خرج الساعة الواحدة، ثم يسأل: هل يجوز وضع شاحن الجوال في المكتب أو لا يجوز؟ وهل يجوز أن أكتب بالقلم التابع للمكتب رقم جوال أعطاني إياه إنسان أو لا يجوز؟.هذا ورع يقال له: ورع بارد لا يصلح لمثلك، لكن من وصل إلى مراتب عالية في الورع، وترك المحرمات وترك المشتبهات وكمل نفسه، مثل: الرجل الذي أمره أبوه أن يطلق امرأته فسأل الإمام أحمد، فقال: إن لم يبقَ لك من بر أبيك إلا تطليق امرأتك فطلقها، هو قد يكون في أمور أخرى واضحة أبوه يأمره وينهاه وهو لا يرفع رأسًا لذلك، ثم يوم قال له: طلق امرأتك، جاء يسأل يقول: يجب عليّ أو لا يجب أن أطلقها؟، إن لم يبقَ لك من البر إلا تطليق امرأتك فطلقها، واضح الفرق؟ فتوجد أحيانًا أشياء من التدقيق والتنقير في بعض الأمور الدقيقة يتورع منها الإنسان وهو واقع في أمور محرمة وواضحة وصريحة، وهكذا.

قال -رحمه الله: وقال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه:

الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام.

والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.

والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين. وهذا من أجمع الكلام وأحسنه تفصيلًا.

المقصود أن الناس يتفاوتون في زهدهم كما يتفاوتون أيضًا في ورعهم، فمن الناس من يكون زهده فقط فيما حرم الله ، وهذا واجب على الجميع، وهناك زهد فوقه وهو الزهد في الأمور المشتبهات والمكروهات، وهناك زهد فوقه وهو الزهد في فضول المباح، التوسع في المباح.  

وهناك زهد فوقه وهو ترك ما يشغل عن الله -تبارك وتعالى، ترك ما يشغل عن الله، وحال النبي ﷺ من أكل الطيبات وتزوج النساء وما إلى ذلك لم يكن يشغله عن ربه -تبارك وتعالى، بل كان يستعين به على طاعة مولاه، فمن كان بهذه المثابة فلا إشكال، لكن من يبقى قلبه مشغولًا مشوشًا مع النساء، أو يبقى قلبه مشغولًا في المطاعم والمشارب، أو يبقى قلبه مشغولًا في عمارة الدور والقصور، والتعلق بألوان الزينة من الأثاث والرياش وما إلى ذلك، فمثل هذا يقال: ليس هذا من الزهد الكامل، هذه الأمور التي تشغل الإنسان، عنده اهتمامات بأنواع السيارات الفاخرة الفخمة، عنده اهتمام إذا رأى قصورًا أو رأى مخططات وأراضي وأحياء غالية ونحو ذلك بدأ يسأل عنها ويحرص عليها، ويسأل بكم بنيتَ البيت؟ وكم مساحة الأرض؟ وكم مساحة البناء؟ ومن أين اشتريت هذه الثريّات؟ ومن أين اشتريت هذا الأثاث؟ وكم استغرق البناء؟ إلى آخره، يدل على أن هذه الأمور تشغله، فهذا ليس بزاهد، لكن قد يكون الإنسان عنده شيء من هذا، واضح؟ لكنه لا يشغله عن ربه، هو كما قال شيخ الإسلام في العبودية فيما مضى معنا، يقول: كالكنيف -أعزكم الله- الذي يجلس عليه، بهذه المنزلة، فيكون ذلك عونًا له على آخرته، هذا لا إشكال فيه، يعني لا يطالب الإنسان أن يسكن في بيت طين، وينام على حصير حتى يكون زاهدًا، المهم ألا تدخل الدنيا هنا، قد لا يكون عند الإنسان إلا ريال، ولكن هذا الريال داخل في الأعماق، والريالات التي في أيدي الناس يتطلع إليها ويتمناها، هذا أبعد ما يكون عن الزهد حتى لو كان يعيش في مكان خرب، وينام على التراب، ويتوسد الحجر، هذا ليس بزاهد، هذا حية الوادي بين جنبيه، والأسد رابض على قلبه، فهو ينتظر الفرصة حتى يتوثب على صيوده وفرائسه، هذا أبعد ما يكون عن الزهد، فلابد أن نفهم حقيقة هذا الزهد، والإنسان يعرف هذا من نفسه، لاسيما إذا كان الإنسان من طلاب العلم، قد تجد اهتماماته واضحة بالدنيا، والتفاتَه إليها وإصغاءه لها، فهذا ليس بزاهد، وقد تجد عند الإنسان أشياء من لباس حسن، ومركب حسن إلى آخره لكنها ليست في قلبه، فهذا زاهد.

وابن القيم -رحمه الله- ذكر بعد هذا الكلام أشياء يمكن أن تراجع، ذكر مُتعلَّق الزهد مثلًا، أنه في ستة أشياء، يزهد في ماذا؟ هل هو في المال فقط؟ المال واحد، بعض الناس قد يزهد في المال لكن تبقى أشياء أخرى لا يمكن أن يزهد فيها، يقاتل عليها، منها: الزهد في الرئاسة، والرئاسة أنواع، ليس معنى الرئاسة أنه يكون أميرًا أو ملكًا أو صاحب ولاية، لا؛ أحيانًا تعني التقديم على الناس، فإذا رأى من هو أفضل منه مقدمًا عليه في العلم أو نحو ذلك فإنه يقاتل على ذلك، وربما يعاديه ويصدر منه من التصرفات ما لا يليق بمثله، فهذا أبعد ما يكون عن الزهد، هو قد يكون زاهدًا في المال، لكنه ليس بزاهد في الرئاسة.

وبعض الناس قد يكون زاهدًا في الرئاسة لكنه ليس بزاهد في المال، وبعض الناس قد يكون زاهدًا في المال والرئاسة ولكنه ليس بزاهد في النساء، هذا الموضوع يشغل قلبه وهو قائم وقاعد، فهناك زهد في المال، وهناك زهد في الصور، والمراد بالصور الجمال في الذوات، فبعض الناس يشغله ويقلقه هذا الأمر، وهناك زهد في الناس، يعني بعض الناس يهمه أمر الناس، فهو يمكن أن يبيع دينه وأن يصدر لهم ما يشاءون من الأقوال والفتاوى والتصرفات والسفه وأحوال من المراهقات المتأخرة من أجل أن يحوز على الإعجاب، إعجاب هؤلاء الناس، وما يغني هؤلاء عنه من الله شيئًا، هذه مشكلة كبيرة جدًّا، وهي دقيقة يحتاج العبد أن يراها في نفسه وأن يعرفها وأن يفتش عما في داخله، الزهد في الناس، قد يكتب الإنسان تعليقة أو كتابة أو مقالة أو تعقيبًا، ويفتح النت ويفتح الموقع ربما كل ثلاث دقائق لينظر من علق، من أعجب بكلامه، ماذا قالوا عنه، من مدحه، وأحيانًا لا يعلق أحد، فيكتب هو يقول: ما بالكم؟ لماذا أحجمتم؟ هذا موجود، أنا أعرف هذا من أين؟، أنا لست أتتبع مواقع لكن في الشاملة بعض الملتقيات موجودة في ضمن مضامين الموسوعة الشاملة المعروفة العلمية، فعليها التواريخ وعليها التعليقات والمقال والبحث والتعليق ومن علق ومن لم يعلق، فتجد بعض الناس يضع لنفسه كلمة أو خطبة أو مقالة أو شيئًا من هذا القبيل، أحيانًا لا تستحق، ثم يبدأ للرفع، شكرًا على مرورك، وإذا ما أحد علق قال: ما بالكم؟ لماذا لا تعلقون؟، لماذا كذا؟،، هذا لم يزهد في الناس، ولو كان يلبس ثوبًا فيه مائة رقعة، ليس هذا هو الزهد، هذا زاهد ربما في المال ولكنه لم يزهد في الناس، الذي يزهد في الناس يستوي عنده المادح والذام.

وهناك زهد أيضًا في النفس، هذه النفس وحظوظ النفس، وما أكثر حظوظ النفس، وهكذا كل ما دون الله -تبارك وتعالى- يزهد فيه، فهذا مُتعلَّق الزهد، ليس الزهد في المال أو في الرئاسة فقط، وكل إنسان له تعلق بها وتميل نفسه إليها، فيُظن أنه زاهد أحيانًا وله أمور من الدنيا يتعلق بها قد تكون أعظم من المال، مثل: الجاه، والرئاسة، والشهرة، وحب المحمدة، وما إلى ذلك، هذا أبعد ما يكون عن الزهد وهو أخطر من حب المال، الناس يبذلون المال من أجل تحصيل المحمدة، أليس كذلك؟، فهذه مطالب ليست سهلة، فيحتاج الإنسان أن يتفقد نفسه وأن ينظر في حاله.

قال -رحمه الله: الفرق بين الرجاء وبين التمني، أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد، والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل، فالأول: كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها، والثاني: كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع، فمن عمل بطاعة الله ورجا ثوابه أو تاب من الذنوب ورجا مغفرته فهو الراجي، ومن رجا الرحمة والمغفرة بلا طاعة ولا توبة فهو متمنٍّ، ورجاؤه كاذب.

وللسالك إلى ربه نظران: نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله، يفتح عليه باب الخوف، ونظر إلى سعة رحمة الله وفضله العام والخاص به،يفتح عليه باب الرجاء.

الفرق بين الرجاء والتمني، هذا في كلامه على موضوع الرجاء، منزلة الرجاء من الأعمال القلبية، هذا الكلام الذي ذكره حاصله يرجع إلى أمر أوجزه بأن التمني هو التطلع إلى شيء بعيد المنال؛ إما أنه مستحيل وإما أنه بعيد الحصول.

ألا ليتَ الشبابَ يعود يومًا ......................

فهذا يتمنى يطلب شيئًا محالًا، وكذلك إذا طلب شيئًا بعيد المنال كما روي عن شداد بن أوس: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني[6]، وكما قال اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً  [سورة البقرة:80]، فالله عدّ ذلك من الأماني، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111]، هذه من الأماني عندهم، ولكن الله رد عليهم ذلك وأبطله.

فالتطلع إلى مثل هذه الأشياء البعيدة أو المحالة الممتنعة سواء كانت الإحالة عادة مثل: عود الشباب، أو شرعًا كدخول الكافر الجنة، أو عقلًا كوجود الإنسان في مكانين في وقت واحد مثلًا، فالشاهد أن التمني هو تطلع النفس لهذه الأمور بعيدة الحصول أو المحالة.

والرجاء هو التطلع إلى أمر قريب المنال، وهذا يقرب من الطمع، ولهذا قال الله فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [سورة الأحزاب:32]، فإذا خضعت بالقول شعر هذا الإنسان الذي في قلبه مرض -وهو الميل المحرم إلى النساء- أنها قريبة المأخذ، قريبة المنال، فتطمع نفسه بها، فيرجِّي المكروه، بخلاف الذي يتمنى شيئًا بعيد المنال، فهنا إذن الرجاء هو الشيء القريب المأخذ.

فما ذكره ابن القيم -رحمه الله- يرجع إلى هذا، هذا الإنسان الذي لا يزرع ويرجو حصول الثمر، فمثل هذا يتمنى، الإنسان الذي يزرع يرجِّي حصول الثمر، فهذا أمر قريب، وهكذا في عمل المعاصي والذنوب، ثم بعد ذلك يرجِّي نفسه بالمنازل العالية في الجنة والمغفرة، وهو لا يتوب ولا يرعوي، هذا يتمنى على الله الأماني، بخلاف من تاب وأناب وأصلح فهذا رجاؤه صحيح.

وقال شيخ الإسلام: الخوف المحمود: ما حجز العبد عن محارم الله.

الخوف المحمود، بمعنى أن هناك خوفًا غير محمود، وهو الخوف المفرط الذي يحمل على اليأس والقنوط، ومن الحكمة أن يُراعَى حال الناس، سواء على سبيل النظر الكلي إلى المجتمع وحال المجتمع، وهل هم متوسعون في المعاصي والمحرمات مع الاستخفاف بحدود الله فهؤلاء يحتاجون إلى تخويف، وهكذا بالنسبة للأفراد، ينظر إلى حال الفرد ماذا يحتاج، وإذا كان الغالب عليه أو عليهم الخوف، بعض الناس يصل به حال الخوف إلى حد القنوط يقول: عَمِل معاصيَ إلى آخره لا يمكن أن يغفر له، ما فيه فائدة، فهذا يحتاج نصوص الرجاء، فيذكر له الذي قتل مائة نفس[7]، وما أشبه ذلك، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [سورة الزمر:53]، تذكر لمثل هؤلاء، وهذا من الحكمة، فالعالم مثل الطبيب يضع الدواء الذي يناسب لكل حالة.

قال -رحمه الله: ومراتب العلم والعمل ثلاثة: رواية وهي مجرد النقل وحمل المروي، ودراية وهي فهمه وتعقل معناه، ورعاية وهي العمل بموجب ما علمه.

مراتب العلم والعمل، الآن تسمعون مثلًا: كتاب فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، وتجدون في بعض الجامعات قسم السنة له شعبتان: رواية، ودراية.

فالمقصود بالرواية: النقل وحمل المروي، والدراية: هي فهمه وتعقل معناه، فالرواية: الكلام على الأسانيد والطرق وما إلى ذلك، وأما الدراية فالكلام على معاني هذه النصوص والأحاديث واستشراح ذلك، واستنباط الأحكام والهدايات منها.

فالحفاظ من القراء والمحدثين هم أهل رواية، ومن كان له فقه وبصر في المعاني فهو من أهل الدراية، وأما الرعاية فهي التحلي بهذا المحمول من المروي، أو الذي يشتغل بدرايته، فيتعاهد نفسه بالعمل به والامتثال والتطبيق، ويعرض نفسه على هذه النصوص وما إلى ذلك، فيتجمل بالعمل، فهذه أمور ثلاثة.

والمراتب الثلاث لو أردنا أن نرتب نقول: الحفظ هذه مرحلة، لكن الحفظ وحده لا يكفي، لابد من فهم المعاني حتى ينتفع، فهم المعاني هذه الدراية، إلى هذا الحد يتوقف؟، لابد من التطبيق والعمل والامتثال وإلا ما الفائدة من التعلم؟، فيظهر ذلك على سمته وهديه ودلّه وما إلى ذلك، فهذه ثلاث مراتب.  

قال: مراقبة الرب: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، ومطلع على عمله كل وقت، وكل لحظة ونفس،وكل طرفة.

كل طرفة عين.

هذه منزلة المراقبة لله -تبارك وتعالى: أن يستشعر العبد نظر الرب إليه في كل أحواله،  وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [سورة يونس:61]، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [سورة العلق:14]، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق:18].

فالنظر في أسمائه: السميع، البصير، الرقيب، العليم، المحيط، الحفيظ، الشهيد، علم مع اطلاع ونظر وحضور، كل هذه الأسماء تربي المراقبة في نفس العبد، فيصل إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، يعني فاعلم أنه يراك، استشعر نظره إليك، فيستحي الإنسان من الله حق الحياء، فيحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى إلى غير ذلك، فيكون في حال يتأدب فيها مع الله، في باطنه وظاهره، في سره وعلانيته، يعني في أموره الباطنة وأموره الظاهرة، في السر حينما يكون في الخلوة، وفي العلانية حينما يكون بالجلوة، فهذه هي حقيقة المراقبة التي هي مرتبة الإحسان التي هي الغاية.

والله قال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الملك:2]، فالابتلاء بإحسان العمل، فإذا أحسن الإنسان كل الأعمال معناه أنه وصل إلى هذه المرتبة، ونحن أحوج ما نكون إلى ملاحظة هذا دائمًا في مثل هذه الأيام التي فتحت فيها على الناس أبواب الشر مشرعة، يصل إليها كل أحد بليد أو خرّيت ذكي يحسن التوصل والتخطي حتى يحصِّل طليبته، للأسف الشديد أصبحت الأبواب مشرعة مترعة، يصل إليها الصغير قبل الكبير، والمرأة والرجل على حد سواء، بل تطرق بابه، تصل إليه دون قصد، وتتقاطر عليه عبر الوسائل المعروفة.

يحتاج إلى مراقبة لله -تبارك وتعالى: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [سورة هود:43]، فنربي المراقبة، لا تستطيع أن تجلس طول الوقت تمسك بجوالات الأولاد والبنات لا تأتي رسالة، ولا يأتي مقطع، ولا يأتي رابط حتى لو كان رابطًا من الخير والوعظ وما إلى ذلك، إذا فتحوه قد يجدون أشياء أخرى، تسول لهم نفوسهم الاطلاع عليها، فهذه مشكلة، فقد تزل قدم بعد ثبوتها لكنها قد تنكسر، قد تنكسر رقبته إذا سقط، ينكسر عنقه، ثم بعد ذلك لا تحصل له إفاقة بعدها، يكون في غي وسكرة، والله يحول بين المرء وقلبه، قد يريد الرجوع والتوبة ولكنه لا يستطيع، يقول: حاولت مرة، مرتين، ثلاث مرات، عشر مرات، ما استطعت، فلهذا نحتاج مثل هذا المعنى كثيرًا، وأن نربيه في نفوسنا وفيمن تحت أيدينا في المحاضن التربوية وما إلى ذلك، نربي المراقبة في النفوس، وهذه لا يمكن أن توجد إلا إذا كان الإيمان حيًّا والقلب نابضًا بالإيمان، نرفع التقوى والإيمان في القلوب.

ومن هنا تجد التقوى موضعًا يصلح لها، أما القلب المتقحِّل من الإيمان فهذا بعيد من المراقبة، وليس المراقبة في النظر ولا في السمع فقط، بل حتى في كل الأمور من أخذ المال، ومراقبة الله حينما يتكلم الإنسان، ماذا يريد بهذا الكلام؟ وهل هذا الكلام يرضي الله أو لا؟.

فإذا كان يراقب ربه يحسب  الحساب قبله، وإذا أراد أن يكتب رسالة، أو يرسل لأحد يحسب هذا الكلام فيه تبعة عند الله أو ما فيه تبعة، ما الذي ينتج عن هذا، فيحسب حساباته ويتوقف وينظر، ثم بعد ذلك يزن الحرف حينما يكتب، أما الذي يرخي لسانه، ويرخي أنامله وقلمه، ويكون عقله هو التابع لخطرته ونزواته فهذا قد يورثه ذلك الهلاك.

قال -رحمه الله: المعترضون على الله ثلاثة أقسام: معترضون على أسمائه وصفاته.

يعني هؤلاء الذين يعترضون على الأسماء والصفات يعترضون بالشبه الباطلة والمقاييس العقلية، كما سبق في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، يردون هذه الأسماء، يحرفون معانيها، يلحدون فيها بناء على مقاييس عقلية، وقواعد باطلة يحاكمونها إليها، فالعاصم من هذا الاعتراض هو التسليم المحض للوحي والنقل، فإذا جاء النص بهذا دع عقلك هذا الفاسد الذي يرد هذه النصوص ويقول: إنها لا توافق العقل، دعه جانبًا، وأثبت لله ما أثبته لنفسه كما يليق بجلاله وعظمته.فهذا الاعتراض الأول: على الأسماء والصفات، وهذا كما هو حال الجهمية ومن لف لفهم، المنحرفون في هذا الباب كُثر.

قال: ومعترضون على شرعه ودينه.

هؤلاء الذين يعترضون على الشرع والدين هم ثلاثة أنواع، ذكرها الحافظ ابن القيم -رحمه الله، المعترضون على الشريعة، على الشرع، على الأحكام الشرعية[8]:

النوع الأول: هم الذين يعترضون عليها بالأقيسة والآراء الفاسدة، نص ورد في حكم قضية معينة ويقال: هذا يخالف القياس، هذا ليس على وزان القياس الصحيح، وأي قياس هذا الذي يخالف النص؟!، فهذا باطل ولا عبرة به، وكل قياس خالف النص فهو فاسد الاعتبار، باطل، فهؤلاء الذين يوغلون في تعظيم القياس والرأي يقعون في مثل هذه القضية فيردون كثيرًا من النصوص بحجة أنها تعارض القياس.

النوع الثاني: هم المعترضون على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات الفاسدة، وهؤلاء هم أهل التصوف، فهناك مدرسة فقهية موغلة في الرأي فتعارض النصوص بالأقيسة الفاسدة، هنا مدرسة صوفية تقابل النصوص، يقال لهم: النصوص كذا وكذا، الله يقول كذا، النبي ﷺ يقول كذا، فيقول: لا، أنتم تأخذون علمكم ميتًا عن ميت ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت، نحن عندنا كشف وخلوة وذوق ومواجيد نعرف بها حقائق الإيمان، فيقال: هذه حقائق شيطانية وليست حقائق إيمانية، ولذلك تجد بعضهم يجلس في خلوة ولا يخرج لا لجمعة ولا لجماعة، ويرى أن هذا أهم، ويتفلسف بفلسفات -ما يعجز عن الفلسفة أحد- يقول: إذا كان الفقهاء رخصوا للإنسان أنه إذا خشي على بضعة دراهم -يعني على مال- يرخص له في ترك الجمعة والجماعة، خاف على ماله، فالخوف على القلب أولى.       

وهو إذا خرج إلى الجمعة سيفسد قلبه ويسرق؟!، فيقول: نحن في الخلوة لحفظ القلب، ومن أجل استجلاب التجلي والكشف، الكشوف الشيطانية، فهؤلاء أصحاب التصوف الذين يعارضون النصوص بالأذواق والمواجيد، قابلت شابًّا مرة صغير السن، وعليه سمت ويظهر عليه أثر العبادة، فذكر بعض زملائه قال: لو نصحتَه لو كلمتَه، هذا يتكلم بأمور عظام، ويقيم موالد، ويقول بأن النبي ﷺ يعلم ما بين العرش إلى الأرض السابعة، وإذا قام أحد من المولد يقول له: بحق النبي تجلس، فجلست معه، فقلت: بلغني عنك أنك تقول كذا، وكلمته بألطف عبارة، وقلت: أنا محب ناصح، وسأذكر لك أشياء وتَفكّر فيها ثلاثة أيام، وإن شئت ثلاث سنين، واجمع ما شئت من الحجج ونجلس، فقلت له: حينما تقول بأن النبي ﷺ يعلم من العرش إلى الأرض السابعة هات البرهان، وأنت تسألني عن مسائل دقيقة في دينك، كان يسألني: إذا كان الإنسان قال بلسانه على شفته؟، يَظهر أنه صاحب صيام كثير -تطوع، حينما يكون هذا الذي في الخارج في اللسان، أصلًا الفم كله في حكم الخارج لكن هو يسأل عن الشفة، هل يفطر أو لا يفطر، إذا تسلل هذا الريق إلى فمه مرة أخرى بعدما خرج؟، فتعجبت، فقلت: أنت تسأل عن المسائل الدقيقة، وهذه مسألة كبيرة أن النبي ﷺ يعلم ما دون العرش إلى الأرض السابعة، هات البرهان، قال: النبي ﷺ لما عرج به إلى السماء رأى حلاوة أعطاه إياها جبريل فأخذها فلما ذاقها كشف له ما بين العرش إلى الأرض السابعة.

قلت: هذه دواوين السنة الصحاح، والسنن، والمسانيد، والمعاجم، والأجزاء الحديثية، هات لي بحديث صحيح أو ضعيف فيه هذا الكلام، كيف تبني عقيدة كبيرة مثل هذه على خرافة؟!، وذكرت له مثل هذه المسائل، ثم ذهب وإلى ساعتي هذه ما رأيته، منذ نحو ثماني سنوات إلى الآن ما رأيته، ذهب خرج من الجامعة التي كان فيها، تصور! يعني مثل هذا الآن يعارض النصوص بخرافات وأذواق ومواجيد، تقول له: الشرع يقول كذا، يقول لك: هذا شيء جربناه، هذا شيء عرفناه، هذا شيء نحن جربناه له أثر.

دعنا من الأثر، فلنبقَ مع الأدلة، والله لا يُعبد إلا بما شرع، فيعارضه بالأذواق والمواجيد، هذه قضايا لها أثر، هذه قضية تؤثر، هذه قضايا تؤثر في النفس، تؤثر في الدعوة، تؤثر في الشباب.

النوع الثالث: هو الاعتراض بالسياسات الفاسدة والقوانين الجائرة التي يعارض بها الشرع وتقدم عليه، وهذا لأرباب الولايات، هذا النوع الثالث الذي ذكره، فتجد أنه يقال: هذا شرعكم وهذه سياسة، فيرى أن كثيرًا من الأمور التي يريدها أو يتعامل بها إلى آخره أن الشرع لا يفي بها وأنه يضيق عليه ويُحجِّر عليه واسعًا، فالسياسة تقتضي كذا، وقوانين السياسة تقتضي كذا، ومتطلبات السياسة تقتضي التوسع في كذا وفعل كذا، ولو كان يخالف الشرع.

فابن القيم يقول: هذه الأمور الثلاثة هي التي يهدم بها الدين.

قال: ومعترضون على قضائه وقدره، ولا يتم للعبد دين وإيمان إلا بترك هذا الاعتراض والتسليم لحكمه الديني والقدري.

يعني اعتراض هؤلاء على القضاء والقدر يسميه ابن القيم -رحمه الله: "اعتراض الجهال"، هم جهال ولو كان عندهم علم، ولهذا يقول: "هو ما بين جلي وخفي وهو أنواع لا تحصى، وهو سارٍ في النفوس -الاعتراض على القدر- سريان الحمى في بدن المحموم، ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله، لرأى ذلك في قلبه عيانًا"[9]، لكن يقول: الناس بين مقل ومكثر، منهم من يظهر عليه هذا ومنهم من لا يظهر عليه، يعني هو خفي، لكنه كامن في نفسه كمون النار تحت الرماد.

وفي الأعمال القلبية عندما تكلمت على الرضا ذكرت أمثلة كثيرة من هذا، نماذج ذكرها ابن الجوزي، ونماذج ذكرها ابن القيم، حينما يصاب الإنسان بمصيبة، وبعضهم علماء وفقهاء، ما العبارات التي صدرت منهم -نسأل الله العافية، يعترض على حكمة الله، ويعترض على تدبير الله، يعترض على قدره، ويتعجب كيف يحصل مثل هذا، ويقول: ما هذا التدبير؟، بعضهم إما بسبب فقره الشديد، ويرى أنه فقيه وأنه يستحق أن يكون في حال أجمل وأفضل، وبعضهم يصاب بمرض ويتسخط ويقول: لو كان هذا على دابة لكان جورًا وظلمًا فكيف على إنسان؟!، وغير ذلك كثير، فيراجع ما ذكر في الأعمال القلبية في الكلام على الرضا.

وتجدون في شرح كتاب التوحيد في "فتح المجيد"، و"تيسير العزيز الحميد" في الكلام على أبواب القدر تجدون أمثلة على هذا كثيرة جيدٌ الاطلاعُ عليها.

قال -رحمه الله: تعظيم حرمات الله: ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن فتعظيمها توفيتها حقها،وحفظها عن الإضاعة.

تعظيم حرمات الله، الله يقول في سورة الحج: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ  [سورة الحج:30]، ابن القيم -رحمه الله- يذكر أقوال المفسرين في هذا، ما هي حرماته -تبارك وتعالى؟

فبعضهم يقول مثلًا: الفرائض، وبعضهم يقول: المناهي، وبعضهم يقول: المأمور والمنهي، وبعضهم يقول غير ذلك، فابن القيم يجمع هذا جميعًا بهذه العبارة الوافية، يقول: "ما يجب احترامه وحفظه من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن، فتعظيمها توفيتها حقها،وحفظها عن الإضاعة". 

فمثلًا الهَدْي، قال الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [سورة المائدة:2]، والشعائر هي الأمور الظاهرة، الهدْي، الأذان، التلبية، صلاة الجماعة، صلاة الجمعة، وما إلى ذلك من الأمور الظاهرة، هذه تسمى شعائر،  لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [سورة المائدة:2]، هذه الأزمنة،إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [سورة التوبة:36]، فهذه الأربعة الحرم لا يجوز انتهاك حرمتها، فهذا من تعظيم حرمات الله.

كذلك أيضًا: وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [سورة المائدة:2]، القلائد التي تُقلَّد على الهدْي من لِحاء شجر الحرم مثلًا، أو غير ذلك، من رآها عرف أن هذه البُدن مثلًا هدْي، لا يتعرض لها أحد، فهذه من الذوات، الكعبة أيضًا من حرمات الله، المسجد الحرام، المساجد هي من حرمات الله، فالذي يعتدي عليها بتدنيس وتقذير، يعتدي عليها بهدمها مثلًا، أو بمنع الناس من ذكر اسم الله فيها  وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [سورة البقرة:114]، فكل هذا خلاف تعظيم حرمات الله -تبارك وتعالى.

وما يجري الآن في سوريا تجد انتهاك جميع حرمات الله بأنواعها، كل أنواع الحرمات الزمانية والمكانية والذوات، أنا أتعجب ممن يتعجب من هؤلاء كيف يفعلون هذا؟ أنا أتعجب ممن يتعجب، أو ممن يرجِّي عندهم أدنى ذمة أو ضمير كما يقال أو خُلق، أنا أتعجب من هؤلاء الذين يرجون من هؤلاء شيئًا، هؤلاء ما عرفوا الباطنية، هؤلاء الباطنية لا يقفون عند شيء، بل الشيء الغريب أن يصدر منهم ما يدل على تعظيم حرمات الله، وتحريم الدم الحرام، أو المال الحرام، أو العرض الحرام أو نحو ذلك، اقرءوا التاريخ، إباحية كاملة لكل حرمات الله ، التاريخ مليء بالشواهد، فهذا هو الأصل الذي لا يُستغرب، لكن يستغرب لو صدر منهم خلافه، فالذين يؤملون أو يستغربون أو يقولون: كيف تصدر هذه الأشياء؟، أنا أتعجب كثيرًا منهم ومن كتاباتهم، ما يعرفون هؤلاء؟ هذا هو الأصل، الشيء من معدنه يُستخرج، هؤلاء لا يُؤمَّل منهم واحد من مليون من تعظيم شيء من الحرمات،أبدًا، هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى[10]، كما قال شيخ الإسلام في رسالته،في الفتاوى موجودة،في الكلام على النصيرية، لا يقفون عند شيء، فلا يعرفون الله، ولا يعرفون الدين، ولا يعترفون به، ولا يعترفون بالرسل، من أكفر الخلق، بل هم أكفر الخلق، ولا يوجد كفر في الدنيا إن كان هؤلاء ليسوا بكافرين، ورسالة شيخ الإسلام في غاية الأهمية، المشكلة أننا لا نقرأ، واقرءوا في التاريخ، وابن كثير في البداية والنهاية ذكر أشياء ووقائع عظيمة، وأفعال شنيعة يفعلها هؤلاء، لا يبقون حرمة من الحرمات، فهذا الذي يصدر منهم هو بعض أخلاقهم.

قال -رحمه الله: حقيقة الإخلاص توحيد المطلوب، وحقيقة الصدق توحيد الطلب والإرادة، ولا يثمران إلا بالاستسلام المحض للمتابعة، فهذه الأركان الثلاثة هي أصول الطريق التي من لم يبنِ عليها سيره فهو مقطوع، ومن اجتمعت له فهو السابق الذي لا يُجارَى،وذلك فضل الله.

حقيقة الإخلاص توحيد المطلوب، وحقيقة الصدق توحيد الطلب والإرادة، ما الفرق بين الأمرين؟.

توحيد المطلوب فلواحدٍ: الله، يعني أن يكون المعبود واحدًا، أن يكون المقصود واحدًا، أن يكون المتوجه إليه واحدًا.

توحيد الطلب: كن واحدًا، توحيد الطريق: في واحد: الصراط المستقيم، فلواحد: الله، كن واحدًا: لا تلتفت يمينًا أو يسارًا، لا يكن في قلبك شعب تنازعه وتفرقه عن ربه وخالقه ومليكه ، وحد الجهد، أن تقبل عليه بكليتك، فلواحد: الله، لا تعبد الله وتعبد غيره، كن واحدًا: أقبل عليه بكليتك، لا يكن في القلب أدنى منازعة، كن واحدًا، في واحد: هذا الصراط المستقيم، لا يُعبد الله إلا بما شرع، وهي الطريق التي رسمها وخطها وأمر بسلوكها، هذه هي الأشياء التي يذكرها الحافظ ابن القيم.

الإخلاص: توحيد المطلوب،والصدق: توحيد الطلب، لا يكن هناك أدنى التفات، "والإرادة،ولا يثمران إلا بالاستسلام المحض للمتابعة"، فهذه الأركان الثلاثة هي أصول الطريق التي يبلغ بها الإنسان ويصل إلى بغيته وغايته.

قال -رحمه الله: المطلوب من العبد الاستقامة على عبودية الله، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عنها...

المطلوب من العبد الاستقامة على عبودية الله، يقول: وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال، هذه الاستقامة،السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال.

المطلوب من العبد الاستقامة على عبودية الله، هذه الاستقامة هي السداد، هي الجادة، هي المرتبة الأصيلة، هي الدرجة الرفيعة، وهي المقام الأكمل، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، كما قال النبي ﷺ في الحديث: سددوا وقاربوا[11]، إذا ما استطاع أن يصل إلى المرتبة الأكمل فليقارب، فالناس بين سابق بالخيرات، ومقتصد، وظالم لنفسه.

فهنا قال: "فإن نزل عنها -عن المقاربة- فالتفريط والإضاعة"، بمعنى أن الإنسان إما أن يكون مسددًا في أقواله وأفعاله وقصده ونياته، فهذا هو الكمال، فإن لم يكن فليكن مقاربًا في حال من المراجعة، والمجاهدة والمحاسبة والاستدراك للنقص والتقصير حينًا بعد حين، وإذا وقع منه الزلل والخطأ والذنب بادر بالتوبة، فهذا يرجى له أن يدرك، والثالث ما وراء ذلك إلا التضييع كما قال الله وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا  [سورة الكهف:28]، هذا المفرط الذي لا يرفع لطاعة الله رأسًا، فلا يكون الإنسان بهذه المثابة.

قال -رحمه الله: ولا يتم التوكل الكامل إلا بمعرفة الله وصفاته وأفعاله وإثبات الأسباب والاجتهاد فيها.

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يتكلم عن حقيقة التوكل، وقد مضى الكلام على التوكل مفصلًا في الأعمال القلبية، فهو يقول: إن حقيقة التوكل لا تتم إلا بمعرفة الله... إلى آخره.

الشيخ عبد الرحمن بن سعدي عبر عن هذا بقوله: "ولا يتم التوكل الكامل"، ولا إشكال، ابن القيم يتحدث عن حقيقة التوكل أنها لا تحصل ولا تتم إلا بهذه الأمور، هنا ذكر نحو سبعة أمور أو ثمانية ذكرها ابن القيم، الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- ذكرها سردًا، وابن القيم قال: الأول...، الثاني..، الثالث.. الرابع..، إلى آخره.

الأول: معرفة الله وصفاته، أن يعرف الله وأن يعرف أوصافه الكاملة من قدرته حتى يكون متوكلًا، ودائمًا نقول: إن معرفة الأسماء الحسنى من أنفع ما يكون للعبد، فعندنا الأعمال القلبية والأسماء الحسنى، هذا الذي يبني الإيمان، فهنا لابد أن يعرف أسماء الله وصفات الله ، فيعرف أن الله هو القوي، يعرف كفايته وقدرته وغناه، ويعرف أن الأمور تنتهي إليه وإلى علمه وأنها تصدر عن مشيئته وقدرته وإرادته، فمن ثَمّ يطمئن ويأمن ويعرف أن نواصي الخلق بيده، وأن الله أقوى من كل قوي، وأعظم من كل عظيم، وأن الله بيده مقاليد الأمور، إذا عرف الأسماء والصفات.

هذه هي الخطوة الأولى، ولذلك ابن القيم يقول: "الذي لا يقاربها ولا يصل إليها ولا تحصل له أبعد ما يكون عن التوكل على الله"، فيَنْعَى على أولئك الذين ينفون أو يحرفون الأسماء الحسنى من الجهمية وغيرهم -فراخهم، فهم لا يثبتون لله صفات  الكمال، أن الله هو القوي، الغني، الرزاق، المحيي، المميت، ولا يثبتون له علمًا، ولا إرادة، ولا مشيئة، فيشعر الواحد كأنه ريشة في مهب الريح في هذا العالم، أنه عرضة لكل آسر وكاسر، أن الله لم يقدر عليه عمله، ولم يقدر عليه أجله، وأن الله لا يعلم بحاله، ولا يعلم ما سيحصل له، وأن الله  ليس بسميع، ولا بصير، ولا قدير، ولا رزاق ولا كذا، فيبقى قلبه يتقلب، ويكون مشتتًا في أمر الرزق وأمر الأمن وفي كل شأن من شئونه، قلِقًا، بخلاف من يعلم أن الأمور كلها بيد الله -تبارك وتعالى، فيتوجه إليه وتكون رغبته إليه، ويتوجه إليه بحاجاته، ومطالبه، وفقره، ولا يلتفت إلى المخلوقين ولا يتعاظم أحد من المخلوقين في نفسه فيقدم له ألوانًا من العبوديات التي لا تصلح إلا لله، ولا يخاف من المخلوق كخوفه من الله أو أعظم من خوفه من الله، هذا لا يليق، هؤلاء ما عرفوا الله حق معرفته، فانظر كيف يؤثر الاعتقاد في سلوك الإنسان، فتخيل إنسانًا لا يؤمن بهذا كله أن الله غني ورزاق وعليم وخبير وقدير ونصير، هذا كيف يمشي؟! وكيف يقابل الناس؟! وكيف يتعامل؟! وكيف يأكل؟! وكيف يدخل المعركة؟! وكيف ينام؟!، المخاوف من كل ناحية تنتابه، فهذا اعتقاد لا شك أنه في غاية الضرر على صاحبه، فالمعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله هذا الأول.

الثاني: إثبات الأسباب والاجتهاد فيها، فالأسباب لابد من تعاطيها، فهي محل حكمة الله وأمره ودينه، والتوكل متعلق بربوبيته -تبارك وتعالى- وقضائه وقدره، فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل، ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية كما يقول ابن القيم، بمعنى الذين ينكرون الأسباب أصلًا، ويقولون: الإنسان مجبر وهو مسير في كل أحواله بإطلاق، هكذا بلا تفصيل، يقول: الأسباب ما لها قيمة، طيب الله أمر بتعاطيها قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة الأنفال:60]، قالوا: هذا من باب التعبد فقط ولكنه لا يغير قليلًا ولا كثيرًا ولا أثر له، هؤلاء إذن ما شأنهم؟،هذه عقيدة فاسدة تؤثِّر القعود والخنوع والذل والمهانة.

فتعاطي الأسباب أمر طبيعي، وهؤلاء الذين وصل بهم الأمر إلى حال تضحك العقلاء منهم، الذين نفوا الأسباب  وأثر الأسباب وتعاطي الأسباب، فقعد بعضهم عن طلب الرزق، بعض الناس الذي ما يعمل أعمالًا صالحة نقول له: طيب، وطلب الرزق؟ طيب والمدرسة ما تذهب إلى المدرسة؟ ما تراجع للاختبار؟، بعض الناس قد يكابر يقول: أنا ما أذهب إلى المدرسة ولا أعمل ولا أطلب الرزق ولا أمشي ولا كذا، نقول له: وإذا جعت، الجوع مِن قدر الله؟ يقول: نعم، طيب ما تأكل؟ تدفع قدر الله بقدر الله، بعضهم كابر وقال: لا،أنا ما آكل، طيب تموت من الجوع؟، أموت من الجوع، المقدر حاصل، فصاروا يضعون في فمه، يحكون للإمام أحمد عن واحد بهذه الطريقة، فيضعون في فمه، طيب حرِّك الفك، هذا من تعاطي الأسباب، امضغ الطعام، ما يحرك شيئًا، يفتحون فمه ويضعون الطعام فيه ويجلس ساكتًا، فصاروا يحركون فكه من أجل أن يمضغ الطعام، فضحك الإمام أحمد كما ضحكتم، يعني إلى هذا الحد!. 

وإذا أراد أن يذهب إلى الخلاء ماذا يفعل؟، يقول: أنا ما أذهب إلى الخلاء، هذا الأحسن أن يُلقى في برية ولا يأكل ولا يشرب ويستريح ويستراح منه، إلى هذا الحد يصل الجنون ببعض الناس.

فالأسباب لا تستقل بنفسها ولكن الله أمر بتعاطيها، والله -تبارك وتعالى- لا يخرج عن إرادته ومشيئته وقدره شيء، فلا يقع في ملكه إلا ما يريد، ولكنه رتب المسبَّبات على أسباب، وأجرى سنته في الكون على هذا، فتعاطي الأسباب بالجوارح هذا مطلوب شرعًا وهو من التوكل، ولكن الخطأ الذي ينافي التوكل والانحراف في هذا الباب أن يتعلق القلب بالأسباب ويركن إليها، ما هي الأسباب؟ الدواء مثلًا، هذا سبب تعاطيه لا إشكال فيه، "تداووا عباد الله"، لكن أن يتعلق القلب بالدواء ويركن إليه ويعتقد أن الشفاء منه، لا.

أن يركن القلب إلى الطبيب، الذهاب إلى الطبيب لا إشكال فيه، لكن أن يتعلق القلب بالطبيب فيظن أن شفاءه بيد الطبيب هذا خطأ، هذا سبب قد يهيئه الله ليحصل الشفاء، وإذا شاء الله تعطل ذلك.

فالذين ينكرون الأسباب ولا يثبتونها هؤلاء يؤثر ذلك في سلوكهم آثارًا سيئة، هذا من أثر الاعتقاد الفاسد على السلوك، وخذ أمثلة لأبواب شتى.

الثالث: تجريد التوحيد، بحيث لا يصير في القلب علائق الإشراك، هذا الإنسان يقول: أنا متوكل على الله، لكنه عنده شركيات، هل يكون توكله صحيحًا تامًّا كما ينبغي؟.

إذا وُجدت علائق الإشراك فهنا يكون التوكل مدخولًا، فأهل التوحيد هم أكمل الناس توكلًا، والذين عندهم إشراك يكون عندهم من نقص التوكل بحسب ما يكون عندهم من الخلل في التوحيد.

قال: وقوة الاعتماد على الله والاستناد إليه والسكون، بحيث لا يبقى القلب مضطربًا من تشويش الأسباب.

فإذا فعلت السبب، استخرت، استشرت، هذه كلها أسباب، فوض الأمر إلى الله، فإذا جاءت النتيجة سلبية أو إيجابية تكون في غاية الراحة أن طلبت من الله أن يختار لك، وفعلت ما ينبغي عليك، فإذن ترضى بالنتيجة، وتطمئن بها غاية الاطمئنان، فلا يبقى القلب مشوشًا، هذا في أمور الحياة كلها، في أمور الزواج، في أمور الدراسة، في مواصلة الدراسة، في أمور الاختبار، النجاح إلى آخره، إنسان فعل الأسباب ما فرط، طول السنة يراجع ويدرس ولا يضيع وقته، وجاءت النتيجة في النهاية بسبب أو بآخر ما اجتاز هذا الاختبار، من غير تفريط، أنت فعلت الأسباب، إذن عليك أن تكون في غاية الراحة، استخرتَ، واستشرت، ما تم أمر هذا الزواج، الحمد لله هذه نتيجة الاستخارة، فعلتُ الأسباب سألتُ، استشرت، فعلتُ ما ينبغي في هذا المقام، ما جاءت النتيجة كما كنت أتوقع، إذن أنا مستريح البال طيب القلب، صفقة، تجارة، سيارة، شراء، بيع، بيت إلى آخره، أرض فاتت لماذا كذا؟ أنت فعلت السبب، ذهبتْ، الحمد لله هذه هي النتيجة، كن في غاية الراحة، إذا استخرت ووثقت بالله ، وفعلت السبب، جاء ما كنت تتوقع أو ما جاء، القلب على أرض ثابتة على جبل لا يتزعزع ولا يتحرك ولا يضطرب ولا يقلق، وبعض الناس لا، تنقلب حاله إلى أسف وندم وضيق وضجر وتسخط واعتراض ولوم لنفسه ولغيره، وهذا خطأ، يدخل في دوامة من الحزن، أين التوكل الحقيقي؟، وأين الرضا بنتيجة ذلك؟

قال: ولابد من حسن الظن والثقة بالله في نيل ما توكل العبد على الله فيه.

حسن الظن، يعني ما يستخير ويستشير أو يفعل الأسباب ويقول: الطيب ما يوفق، بعض الناس هكذا، أعوذ بالله، هذا سوء ظن بالله -تبارك وتعالى، وبعض الناس يريد أن يدخل بتجارة، يريد أن يدخل في صفقة، يريد أن يدخل في كذا، يريد أشياء، ويعمل الأسباب ومع ذلك هو في قرارة نفسه يقول: أنا كلما دخلت في عمل فشل، دخلت في الأسهم طاحت، دخلت في الأراضي كسدت، دخلت في توظيف الأموال والشغلات هذه فسرقت الأموال، فكلما أراد أن يدخل بشيء أساء الظن بربه أنه لا يفلح ولا ينجح، وانظروا إلى الذين نجحوا في حياتهم سواء في تخصصاتهم أو في مزاولاتهم في التجارة وغيرها، تجده خسر مرة وثانية وثالثة ورابعة، ويذكرون حياتهم وتفاصيلها وما جاءهم من النكبات، ثم بعد ذلك صار علَمًا في هذا الباب.فحسن الظن لابد منه، والثقة في نيل ما توكل العبد على الله فيه.

قال: والتفويض إلى الله.

"والتفويض إلى الله"، هذا عده ابن القيم السابع، أنت فعلت الأسباب، فوض الأمر إلى من بيده أزمّة الأمور، لم يبقَ لك الآن عمل، عملت الذي عليك، فوض الأمر إلى الله، ولهذا هؤلاء الذين يجزعون ويقلقون ويحزنون في أمر فاتهم بعدما فعل الأسباب واستخار وكذا، نقول له: تدبيرك أفضل أو تدبير الله ؟ يقول: تدبير الله أحسن، طيب لو خُيرت: الله يدبر لك أو تدبر لنفسك؟ يقول: لا، الله يدبر لي خير لي، طيب الله دبر لك الآن واختار لك هذا، لماذا الجزع وأنت تقر بأن الله عليم حكيم؟ لماذا الجزع والتسخط؟ هذا تدبير الله اختار لك هذا المرض عن علم وحكمة، وتدبيره خير من تدبيرك، لماذا أنت جزِعٌ؟ ولماذا متضايق؟ ولماذا حزين؟ ولماذا البكاء؟ ولماذا الهم؟ ولماذا مت قبل أوانك؟!.  

هذا اختيار الله لك، هذا تدبير الله لك، فلماذا تقيم الدنيا بهذه الطريقة؟!.

قال: والتفويض إلى الله واستسلام القلب.

الاستسلام هذا هو السادس عنده، يعني صارت الآن سبعة، "استسلام القلب له"، يعني لو جئنا على هذا الترتيب يكون التفويض السادس والاستسلام السابع.

قال: ويتوكل على الله في كل مطلوب حصوله أو دفع مكروه، وأفضل التوكل ما كان في حصول خير ديني خاص أو عام.

هذه مسألة ثانية وهي تفاوت التوكل، الناس يتفاوتون، وابن القيم ذكرها بصورة أكبر بسطًا، لكن حاصلها أن الناس يتفاوتون في التوكل، يقول: من الناس من يتوكل ويجهد قلبه وذهنه وعقله في أمر يمكن أن يُدفع بأدنى شيء، يعني الجوع يمكن أن يدفع بنصف رغيف، يقول: فتجد كل تفكير هذا الإنسان في باب التوكل منصبًّا على نصف رغيف، كيف يتوكل في نصف هذا الرغيف، فالمعدة كبرها شبر وتسخر لها العقول والدراسة سبع عشرة سنة، وهذه التجارات، وهذه المغامرات، وأكل الحرام، وكل هذا لأجل شابورة ممكن أن تنهى الجوع هذا كله، شابورة كم حبة فيها؟ ثلاثون حبة؟ هذه ثلاثون يومًا بريالين.

فابن القيم يقول: من الناس من يسخر هذا الهم والجهد والتفكير في باب التوكل على قضية يمكن أن تسد بنصف رغيف، يقول: ومن الناس وهم كالرسل -عليهم الصلاة والسلام- من يكون توكله في تبليغ دين الله للعالمين، في نشر الدين وفي كسر الباطل وفي مقاومة الفساد والشر والمنكر، ونفع الخلق وما إلى ذلك من الأمور، يقول: هذا توكل الرسل -عليهم الصلاة والسلام، لكن الآخر كل توكله منصب وكل الدنيا تتمحور عنده في هذا الذي يمكن أن يُنهى بأدنى سبب، يعني اهتمامات الناس، يعني بعض الناس اهتماماته كلها تجتمع في النهاية على قضية الأكل، أكل عيش، وهؤلاء أصحاب ما يسمى بالعقل المعيشي، الذي نظر أحدهم ما يجاوز أنفه، ما يفكر بأبعد من هذا، أن يكون شمسًا للدنيا، أن ينفع الله به العباد، أن يكون سببًا لسعادة قلبه وسعادة الناس جميعًا، يكون توكله في هذا الباب، الآخر لا، العيش، عيش الأولاد، العيش يا أخي هذا خبز بريال يمكن أن يكفي عن هذا كله، مثل الذي سخر حياته كلها للمسألة، وعند الإشارات وذهاب ومجيء وأخطار وعرضة لكل خطر، طيب ريال واحد يمكن أن يُشترى به خبز ويؤكل وانتهينا، وما يحتاج هذا الوقت الطويل الذي يُصرف، أين السعادة؟ أين اللذات إذا كانت الحياة تقضى بهذه الطريقة، إذا كانت المسألة سد جوع فريال يكفي، ما يحتاج هذا الوقت الطويل من الصبح إلى الساعة الواحدة ليلًا عند هذه الإشارة ذاهبًا وراجعًا، هذه ما هي حياة، وهذا أبعد ما يكون عن التوكل.  

قال -رحمه الله: الصبر ثلاثة أقسام:

صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله.

فالأولان صبر على ما يتعلق بالكسب.

والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه.

يعني أن الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة هذا يتعلق باختيار العبد وكسبه، أما الصبر على الأقدار المؤلمة فهذا إما أن يصبر صبر الكرام، وإما أن يسلو سلو البهائم، ما أمامه طريق آخر، يعني لو أنه لم يصبر وضجر فما هي النتيجة؟، ما صبر وإنما غالبه الضجر، هل سيرتفع المرض؟ جزع غاية الجزع وتسخط ولطم وجهه ونتف شعره، وشق جيبه، ثم ماذا؟ رجع له الميت؟ ارتفعت عنه المصيبة؟ ما حصل شيء من هذا، فالصبر على الأقدار المؤلمة أيًّا كانت هذا هو فعل العقلاء أصلًا، يعني حتى في الأمور العادية، يعني الآن حينما يكون الناس في الزحام بالحج، بعض الناس يفقد صوابه ويتصرف تصرفات لا تليق ويؤذي من معه من أهل وغيرهم، ويغضب وتسوء أخلاقه، فحينما يسوء الخلق ورأيت من بعض الناس سفهًا، ينزل ويتشاجر مع هذا، ينزل من السيارة ويتشاجر، وهم خارجون من عرفة، ويشتم هذه ويسب هذا ويتوعد هذا ويصدم هذا عمدًا، فهذه الحماقات هل حلت له الطريق وانجلت عنه آلاف السيارات التي أمامه، أو هي نفس الحال ونفس الوقت الذي سيقضيه لكن بضجر وضيق وألم وحسرة في قلبه، ويورث ذلك أيضًا من معه؟، هذا ضعف في العقل، لو جلس يسبح ويذكر الله فهو في عبادة، وهكذا في الأمور الأخرى التي تقع للإنسان؛ خسر في تجارته، فقد من يحب ونحو ذلك، ليس أمامه إلا الصبر، فهذا صبر على أقدار الله، في أمور لا يد للإنسان فيها، لكن الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية هذا أكمل، ولذلك تجد بعض الناس ممن لا خلاق له -نسأل الله العافية- لا يعرف الله، ولا يعبده، ولا يأتمر بأمره، ومع ذلك يصبر على الأقدار المؤلمة، ولو قرأتم في التاريخ قديمًا وحديثًا تجدون هذا عند بعض الناس كبار المجرمين من مروجي المخدرات يصبر على الأخطار، ويؤخذ ولربما يُقلَّب بألوان الأذى والعذاب، ولا ينطق بكلمة، ولا يلين ولا تنثني له قناة، ولو تُرك لرجع، وهو في غاية الإصرار والصبر، هذا صبر مذموم، هو يصبر على الألم والأذى -نسأل الله العافية- مع أنه قد يكون عفيف الجبهة لا يسجد لله سجدة واحدة، فهو لا يصبر على الطاعة ولا يصبر عن المعصية، ولذلك الذي جاء للإمام أحمد -رحمه الله- وصبَّره كان من اللصوص وضرب في السرقة ثمانية عشر ألف سوط، ومع ذلك ما ترك ما هو فيه، وبعضهم قُطعت يده في السرقة، ثم تُرك، ثم قطعت الأخرى ثم تُرك، ثم قطعت رجل وترك، ثم قطعت رجل أخرى، وهو لم يترك السرقة، اقرءوا التاريخ تجدوا أشياء عجيبة من صبر بعض المجرمين على باطلهم، فالله المستعان.

فالمقصود أن الصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل؛ لأنه متعلق بكسب الإنسان، قال: "وصبر الاختيار أكمل من صبر الاضطرار"، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذكر أمثلة، قارن بين صبر يوسف لما ألقاه إخوته في البئر صبر، وباعوه واستُرق صبر، فهذا صبر اضطرار، ليس أمامه إلا الصبر، يقول: لكن صبره على مراودة امرأة العزيز ومن معها من النساء أكمل؛ لأنه صبر اختيار، وآثر دخول السجن على مواقعة الحرام، فيقول: صبره على امرأة العزيز أعظم من صبره على بلوى السجن ومحنة الرق؛ لأنها أمور ليست بيده.  

قال -رحمه الله: وصبر الاختيار أكمل من صبر الاضطرار، وتمام الصبر أن يكون كما قال الله -تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [سورة الرعد:22]، وأقواه أن يكون بالله معتمدًا فيه عليه لا على نفسه ولا على غيره من الخلق.

يعني ما يصبر فتوة وشجاعة وتجلدًا؛ ليظهر للناس أنه لا يبالي وأنه قوي كما يفعل بعض التلاميذ الأشقياء حينما كان الطلاب يُضربون، فكان يُتعجب من بعض التلاميذ، يمد يده ويضربه الأستاذ أو مدير المدرسة ضربًا مبرحًا، وهو لا يتحرك ولا يتأثر، هو يتألم لكن يظهر الجلد أمامهم وأمام زملائه؛ لئلا يشمت به أحد، أو ليظهر الشجاعة والقوة أو نحو ذلك، فمثل هذا صبر غير محمود، إنما الصبر يكون ابتغاء وجه الله -تبارك وتعالى- لا ليقال: ما أجلده! ما أصبره! ما أقواه! ما أشد تحمله!، ويكون معتمدًا على الله لا على حوله وقوته، لا يقول: أنا عندي قدرة على التحمل قوية، أنا أستطيع وأفعل وإلى آخره، لا، يقول: أنا أتوكل على الله، وأعتمد على الله، وأخرج من حولي وطولي.

قال -رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه.
قال -رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه.

الصبر محمود، ولكنه أيضًا مراتب: الصبر الذي يكون مع الجزع، هذا لا يكون، هذا خلاف الصبر، لا يوجد صبر مع جزع، لكن هناك صبر مع شكوى، وهناك صبر مع إخبار، وهناك صبر من غير شكوى ولا إخبار، شكوى، يشتكي، فإن كان يشتكي عند الطبيب مثلًا، أو يشتكي عند من يرجو منه أن ينصفه كالقاضي أو نحو ذلك فهذا لا إشكال فيه، وهناك إخبار فقط، يعني بعض الناس إذا عاده الناس في مرضه جلس يشتكي، وبعض الناس لا يشتكي لكنه يخبر، يقال له: ما بك؟ فيقول: حصل لي كذا، خبر، فهذا لا إشكال فيه، والنبي ﷺ قال: بل أنا وارأساه، لما قالت عائشة: وارأساه[12]، إلى غير ذلك.

فالشاهد أن الصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه، ولم يقل: لا إخبار معه. 

والصفح الجميل الذي لا عتاب معه، فعندنا العفو والغَفر والصفح، ثلاثة أشياء: عفو وصفح وغفر؛ العفو ألا يبقى أثر في النفس من: عفَت الريح الأثر، قال: أنا عفوت عنك، لكن بعض الناس قد يعفو ولكنه لا يعرض عن الإساءة والمسيء، يقف ويقول: أنا عفوت، لكن أنت ما كان ينبغي لك أن تفعل هذا، ويعاتب، فهذا عفو مع عتاب، فليس هذا بالعفو الجميل، ولهذا أمر الله بالصفح، فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [سورة البقرة:109]، عفو ألا يبقى الأثر في النفس، اصفح: لا تقف عند الإساءة، امضِ، لا تقل له: أنت أخطأت وأنت كذا وتقرره بخطئه وإن عفوت عنه، الصفح: من صفحة العنق.  

والغَفر فيه أمران: الستر والوقاية، ما يصل إليه سوء بسببك، وأيضًا لا تتكلم فيه، يتكلم في المجالس ويقول: الله يقول:  لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ  [سورة النساء:148]، ففلان فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا، لكني سامحته، فهذا ليس بغفر، الغفر لابد أن يكون معه ستر، فهذا ما ستر، هو جالس يتكلم، يقول: مع أنه فعل كذا وكذا لكني سامحته، عفوت عنه، فعندنا مراتب، فهنا الصفح الجميل الذي لا عتاب معه.

والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه، بعض الناس قد يهجر -نسأل الله العافية- وعداوة وأذى بكل مستطاع، فهذا لا يجوز، فإذا حصل الهجر الذي يسوغ شرعًا فلا يحصل معه الأذى.

وهكذا السراح الجميل،  وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [سورة الأحزاب:49]، السراح الجميل الذي لا يعقبه كلمات جارحة، لا يعقبه شتم، لا يعقبه استحواذ على أمتعتها وأغراضها، لا يغير قفل البيت، وتجيء تأخذ ملابسها وأغراضها التي جاءت بها، ثم تُفاجأ بلؤم وأخلاق سيئة، قفل الباب مغير، أين وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ؟ [سورة البقرة:237].

افتح الأبواب شرِّعها، قل لها: خذي ما شئتِ واتركي ما شئتِ، وهذه متعة فوق الطلاق، متعة، هو غني، فقير، هذه عشرة آلاف، هذه عشرون ألفًا، هذه ثلاثون ألفًا، ونسأل الله أن يهيئ لكِ ما هو خير مني، يحسن لكِ العاقبة في الدنيا والآخرة، وأنا أعتذر إذا صدر مني تقصير، هذا التسريح الجميل، ما هو شتم لها وجرح لمشاعرها وأهلها وأذى ومضايقات ومصادرة لأمتعتها، أو تعليق الطلاق حتى تضطر إلى المحاكم وأمور لا يحب أهل المروءات أن يصيروا إليها، فيبتلون بإنسان أحيانًا من هذا القبيل، فهذا ليس بسراح جميل.

قال -رحمه الله: قال النبي ﷺ: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا[13]، وقال: من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا غفرت له ذنوبه[14]، وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته، والرضا برسوله، والرضا بدينه والتسليم له، ومن اجتمعت له فهو الصدِّيق حقًّا.

وهذه كما يقول ابن القيم: سهلة بالدعوى، يعني قد يقول الإنسان: أنا رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ، سهلة بالدعوى واللسان، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان، ولاسيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس[15]، بدأت النفس تنازعه، فهنا هل فعلًا رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًّا؟، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على هذه الأشياء، بيّن المراد بها في مواضع من هذا الكتاب، أذكر لكم بعض الجمل مما قاله -رحمه الله، فكيف يكون الإنسان راضيًا بالله ربا؟.  

يقول: "الرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبتِه وحده، وخوفِه ورجائِه والإنابة إليه، والتبتل إليه، وانجذاب قُوى الإرادة والحب كلها إليه"، يقول: "وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له"[16].

يقول: "والرضا بربوبيته يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه، وأن يكون راضيًا بكل ما يفعله به -صعبة عند الامتحان، سهلة بالدعوى، فالأول: يتضمن رضاه بما يؤمر به.

والثاني: يتضمن رضاه بما يقدَّر عليه.

وأما الرضا بنبيه رسولًا فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه"[17]، كما قال الله:  النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سورة الأحزاب:6]، فإذا أمرت النفس ودعت إلى شيء ودعا النبي ﷺ إلى شيء قُدم ما دعا إليه النبي ﷺ، وأن يكون أحب إليه من نفسه ﷺ.

يقول: "فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته.."[18]، إلى آخر ما قال.

ويقول: وأما الرضا بدينه فإذا قال، أو حكم، أو أمر، أو نهى، رضي كل الرضا، ولم يبقَ في قلبه حرج من حكمه وسلم تسليمًا، ولو كان مخالفًا لمراد نفسه أو هواها، أو قول مقلده وشيخه وطائفته، وههنا يوحشك الناس كلهم إلا الغرباء في العالم"[19].

يعني يقول: نادر من يحقق هذا كما ينبغي على نفسه، يقول: تجد وحشة وغربة، يقول: "فإياك أن تستوحش من الاغتراب والتفرد، فإنه والله عين العزة، والصحبةُ مع الله ورسوله، وروح الأنس به، والرضا به ربًّا وبمحمد ﷺ رسولًا وبالإسلام دينًا.

بل الصادق كلما وجد مسّ الاغتراب وذاق حلاوته وتنسم روحه قال: اللهم زدني اغترابًا ووحشة من العالم وأنسًا بك، وكلما ذاق حلاوة هذا الاغتراب وهذا التفرد رأى الوحشة عين الأنس بالناس، والذل عين العز بهم، والجهل عين الوقوف مع آرائهم وزبالة أذهانهم، والانقطاع عين التقيد برسومهم وأوضاعهم، فلم يؤْثر بنصيبه من الله أحدًا من الخلق، ولم يبعْ حظه من الله بموافقتهم فيما لا يجدي عليه إلا الحرمان، وغايته مودة.."[20].

يعني غاية هذه الموافقة للناس ومجاراة الناس في مساخط الله "مودة بينهم في الحياة الدنيا، فإذا انقطعت الأسباب، وحقت الحقائق، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وبليت السرائر، ولم يجد من دون الله مولاه الحق من قوة ولا ناصر، تبين له حينئذ مواقع الربح والخسران، وما الذي يخفّ أو يرجح به الميزان، والله المستعان وعليه التكلان"[21].

ويقول أيضًا في موضع آخر بأن الرضا بالله ربًّا ألا يتخذ ربًّا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره، ويُنزل به حوائجه، والله يقول: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:164]، وقال في أول السورة -يعني الأنعام:  قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا [سورة الأنعام:14]، وقال في وسطها: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا [سورة الأنعام:114]، أي أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه؟ يقول: "وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل رأيتها في نفس الرضا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ رسولًا، ورأيت الحديث يترجم عنها، ذاق طعم الإيمان...[22]،- ومشتقًّا منها، فكثير من الناس يرضى بالله ربًّا ولا يبغي ربًّا سواه، لكنه لا يرضى به وحده وليًّا وناصرًا، بل يوالي من دونه أولياء، ظنًّا منه أنهم يقربونه إلى الله، .. وهذا عين الشرك"[23].

يقول: "وكثير من الناس يبتغي غيره حكمًا يتحاكم إليه، ويخاصم إليه، ويرضى بحكمه، وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: ألا يتخذ سواه ربًّا ولا إلهًا ولا غيره حكمًا"[24].

ويقول: فالرضا به ربًّا يتضمن توحيده وعبادته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاءه ومحبته والصبر له وبه ...، فالرضا به يتضمن شهادة أن لا إله إلا الله، والرضا بمحمد رسولًا يتضمن شهادة أن محمدًا رسول الله، والرضا بالإسلام دينًا يتضمن التزام عبوديته، وطاعته، وطاعة رسوله ﷺ، فجمعت هذه الثلاثة الدين كله.

وأيضًا فالرضا به ربًّا يتضمن اتخاذه معبودًا دون ما سواه، واتخاذه وليًّا ومعبودًا، وإبطال عبادة كل ما سواه"[25]، إلى آخر ما ذكر.

قال -رحمه الله: من أراد أن يحصل له الرضا عن الله الذي هو من أفضل الدرجات فليلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضا.

يعني هو قال في البداية: إن الرضا آخر مقام، أو الرضا هو آخر التوكل، فهذا الإنسان إذا كان متوكلًا على الله حق التوكل -كما سبق- رسخت قدمه في هذا الباب؛ باب التوكل والتسليم والتفويض لله ، فإنه يحصل له الرضا ولابد، كان واثقًا بالله وعرف ربه بأسمائه وصفاته، وأن أزمّة الأمور بيده، وفعل الأسباب، وفوض الأمر إلى الله، النتيجة ما هي؟ ثم رضِّني بهفي دعاء الاستخارة، هو يخرج من حوله وطوله وقوته، إنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم[26]، فهو يطلب من ربه -تبارك وتعالى- أن يقدر له الخير حيث كان، ثم يرضِّيه بذلك، فالرضا يحصل إذا حقق العبد التوكل على الله على الوجه الصحيح.

قال -رحمه الله: الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور له، وحبه له، واعترافه بنعمته والثناء عليه بها،وألا يستعملها فيما يكره.

يعني إذا أخل بواحد منها لا يكون شاكرًا، يعني إذا لم يخضع له فإنه لا يكون شاكرًا له، هذه النعم التي يسديها ويوليها توجب الخضوع لله ، خضوع القلب، واللسان، والجوارح، والقلوب مجبولة على محبة من أحسن إليها، فهذا الذي لا تحصل له هذه المحبة هذا لم يحقق الشكر، كذلك الاعتراف بنعمه، فإنه إن لم يعترف بذلك فإنه لا يكون شاكرًا، ولذلك إذا أكل الإنسان ماذا يقول؟، إذا لبس ثوبًا جديدًا ماذا يقول؟، إلى آخره، إذا ركب الدابة؟، فهذا كله من الإقرار والاعتراف بنعمه، ويثني عليه بها، وأيضًا ألا يستعمل هذه النعم فيما يسخطه، فيستعمل النعمة في محادّته ومضادّته، هذا خلاف الشكر بل هو كفران لها.

فهذه الأمور أو القواعد التي ذكرها الخمس هي أساس الشكر، وهو مبني عليها، ابن القيم يقول: كل الذين تكلموا في الشكر يرجع كلامهم لهذا؛ لأن هذه المفردات الخمس هي عبارات يذكرها بعضهم، أو يذكر معناها في بيان حقيقة الشكر، يعني ما هو الشكر؟، بعضهم يقول: هو خضوع الشاكر للمشكور له.

وبعضهم يقول: هو اعترافه بالنعم والثناء عليه بها.

بعضهم يقول: الشكر ألا يستعمل نعمته فيما يسخطه، فابن القيم يقول: كل هذه الأشياء صحيحة، والشكر يدور عليها ويتركب منها، فهي قطب الرحى، وعليها قيامه، وبناؤه، واعتماده، فإن لم يوجد بعضها أو اختل فإن الشكر لا يكون بهذا الاعتبار متحققًا، والله تعالى أعلم.

  1. انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/ 410)، وكان له ﷺ ناقة تسمى العضباء لا تُسبق، أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ناقة النبي ﷺ، برقم (2872).
  2. لم أقف عليه.
  3. أخرجه أحمد في المسند، برقم (24316)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  4. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، برقم (5063)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مُؤنة، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم، برقم (1401).
  5. الموافقات (5/ 244).
  6. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في صفة أواني الحوض، برقم (2459)، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم (4260)، وأحمد في المسند، برقم (17123)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف أبي بكر بن أبي مريم، وباقي رجال الإسناد ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (4305).
  7. أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، برقم (2766).
  8. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 69).
  9. انظر: المصدر السابق (2/ 70).
  10. انظر: مجموع الفتاوى (2/ 130)، و(2/ 410)، والرد على المنطقيين (ص: 488).
  11. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، برقم (39)، وبرقم (6463)، كتاب الرقائق، باب القصد والمداومة على العمل، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2818).
  12. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب قول المريض: "إني وجع، أو وارأساه، أو اشتد بي الوجع"، برقم (5666).
  13. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، برقم (34).
  14. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء عند النداء، برقم (614).
  15. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 171).
  16. المصدر السابق.
  17. المصدر السابق.
  18. المصدر السابق.
  19. المصدر السابق (2/ 171، 172).
  20. المصدر السابق (2/ 172).
  21. المصدر السابق.
  22. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، برقم (34).
  23. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 178، 179).
  24. المصدر السابق (2/ 179).
  25. المصدر السابق (2/ 182).
  26. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الاستخارة، برقم (6382).

مواد ذات صلة