الثلاثاء 22 / جمادى الآخرة / 1446 - 24 / ديسمبر 2024
‏(10) قول الماتن " فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع ... "‏
تاريخ النشر: ٢١ / شوّال / ١٤٣٤
التحميل: 6230
مرات الإستماع: 3397

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي ﷺ قاله؛ لأن غالبه من هذا النحو، ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، والأمة لا تجتمع على خطأ، فلو كان الحديث كذباً في نفس الأمر والأمة مصدقة له قابلة له لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماعٌ على الأمر الخطأ، وذلك ممتنع.

وإن كنا نحن بدون الإجماع نُجوِّز الخطأ أو الكذب على الخبر فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطن بخلاف ما اعتقدناه، فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطناً وظاهراً.

هذا الكلام: تجويز وقوع الخطأ الخ... يأتي الكلام على خبر الواحد غير التواتر، يعني هل نقطع بأنه ثابت، نقطع بصدقه وثبوته أو لا نقطع؟ فهنا يبدأ يتكلم على خبر الواحد، فهو استطراد على استطراد، وشيخ الإسلام بحر من العلم، ومن كان بهذه المثابة يصعب أن يختصر؛ لأن عنده قضايا كثيرة تتوارد في ذهنه، فحينما يكتب فإنه يكتب وتتوارد عليه قضايا أخرى أثناء الكتابة، ثم بعد ذلك يستطرد بتقريرها، ثم تأتي قضية أخرى عرضاً فيستطرد بتقريرها.

وهنا يأتينا عنوان جديد: (حكم خبر الواحد).

ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكنَّ كثيراً من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية كابن إسحاق وابن فُوْرَك.

خبر الواحد المذاهب فيه معروفة، فمن أهل العلم من يقول: إذا ثبت ذلك صح الإسناد بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذٍ ولا علة، يعني لا يكون ذلك في المتن ولا في الإسناد، فإن هذا يفيد العلم النظري، وإن لم يحتف بقرائن. هنا الذي يذكره شيخ الإسلام يذكره أكثر أهل العلم، أن ذلك إذا احتف بالقرائن، هذه المسألة لم تكن محل جدل عند سلف الأمة الصحابة وعند التابعين، إنما حصل ذلك بعدهم، هذا الجدل الكثير في أخبار الآحاد -كونها تفيد الظن مثلاً مطلقاً- هذا مما نتج عن الاشتغال بعلم الكلام. ولهذا أورد الرازي القوادح العشرة التي تقدح النقل والنصوص حتى من الكتاب، حتى من المتواتر من السنة، فهذه القوادح يعني إن سَلِم الإسناد من كونه من الآحاد؛ لأن الآحاد يفيد الظن مطلقاً، فهو لا يسلم بحالٍ من جهة المتن لورود الاحتمالات، احتمال النسخ، واحتمال التخصيص، واحتمال التقييد، الخ.

يقول: طالما القضية فيها احتمالات فهذا يفيد الظن، ومن ثَمّ ألغوا -نسأل الله العافية- الاحتجاج بالنقل من الكتاب والسنة المتواتر والآحاد في قضايا الاعتقاد، وجعلوه للاعتضاد لا للاعتماد، يعني جعلوا المعوَّل عليه والمعتمد هو العقل، يسمون ذلك القواطع العقلية، وهذا غلط باطل، فهذه العقول تتفاوت وتختلف.

لكن الذي أظنه -والله أعلم- أقرب أن خبر الواحد إذا جاء برواية العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة فإنه يفيد العلم، احتف بالقرائن أو لم يحتف بالقرائن. إذا احتف بالقرائن زاد العلم، فالعلم مسألة نسبية، يتفاوت فيقوى، ولذلك تجد أن خبر الواحد إذا جاء مثلاً بهذه الصفة فإن كان مخرجاً في الصحيحين فهذا يزداد العلم والثقة فيه، مع أن الأول أفاد علماً، وهذا يمثل له بأشياء.

لو أخبرك من تثق به وبخبره وقال لك: إن فلاناً قد مات، وأنت تثق بخبره فصدقت هذا الخبر، وحصل لك به العلم، ثم بعد ذلك جاء الآخر وهو لا يعرف الأول، وقال لك: إن فلاناً قد مات، وجاء ثالث وهو لا يعرف الأول والثاني وأرسل لك رسالة بالجوال، وقال: إن فلاناً قد مات، فصار الآن زيادة في الثقة في الخبر والتصديق والعلم بعد الأول، وكذلك بعد الثاني مع أننا ما بلغنا مرتبة التواتر، الآن لازلنا في الآحاد (ثلاثة)، فإذا رأيت ما يدل على ذلك أتيت دارهم ووجدت الناس قد اجتمعوا، ووجدت سيارة إسعاف مثلاً، ووجدت سيارة تغسيل الموتى؛ هنا زاد العلم، فالعلم يزيد وينقص، أهل الكلام يقولون: العلم لا يزيد ولا ينقص، والحقيقة واحدة فقط أسود أو أبيض بناء على عقيدتهم في الإيمان أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

فلو قالوا: إن الإيمان يزيد وينقص (يتفاوت) لحصل لهم إلزامات في باب الإيمان الذي يقولون فيه: إنه لا يزيد ولا ينقص، هؤلاء أهل الكلام، فلاحظ العقائد الفاسدة كيف أثرت بهذه القضايا في العلوم كمصطلح الحديث، وأصول الفقه، ولذلك حتى في تعريفهم بأصول الفقه، هم ينقلبون في التعريف في البداية: العلم بدلائل الفقه إجمالاً، فعندما يعرّفون كل مفرد من هذا المركب، الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، كيف تقول: العلم والفقه ظنون؟ لماذا هو ظنون؟ قالوا: لأن أكثر ذلك أخبار آحاد، والمتواتر منه ظني الدلالة، فالفقه أكثره عمومات، وهذا الكلام غير صحيح. ففي التعريف يضطربون، فبعضهم يلجأ إلى معرفة الأحكام بدلاً من أن يعبر بالعلم، فيعترض عليه آخرون يقولون: المعرفة نظير العلم، إذاً أنا أقول من عندي: قولوا: الظن بالأحكام الشرعية.

وهكذا حينما يأتون إلى الأصل الكبير بالقياس وهو العلة التي عليها مدار القياس، قطب الرحى العلة، أحياناً لما يأتون إلى العلة يضطربون باعتبار أنهم لا يثبتون أصلاً صفة الحكمة لله، وأن أفعاله غير معللة، إذاً كيف تثبتون العلة هنا؟ ألغوا العلة، فإذا ألغوا العلة؛ ألغوا القياس، فيأتيك مذهب بلا قياس، وهذا لا يقولون به بحال من الأحوال، وكثير منهم أسقطوا الظاهرية تماماً، وأخرجوهم من زمرة العلماء الذين يحتج بهم، ويعتد بخلافهم بمسائل الإجماع والخلاف، يقولون: لا يعتد بهم؛ لأنهم لا يثبتون القياس، القياس ينبني على العلة، وأنتم تنكرون الحكمة والتعليل بصفات الله وأفعاله؟ يقولون: لا، نقول: العلل أمارات فقط. هذا تأثير العقائد في الفقه، تأثير العقائد في الأصول، تأثير العقائد في المصطلح، تأثير العقائد في العمل والسلوك.

يقول شيخ الإسلام: وهو قول أكثر الأشعرية كأبي إسحاق. يقصد إبراهيم بن محمد الإسفراييني -رحمه الله- توفى سنة 418هـ، وابن فورك من الأشعرية المشاهير من أئمتهم، وهو محمد بن الحسن، توفى سنة 406هـ، وهذا الذي يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: إن الوحشة التي وقعت بين الحنابلة والأشعرية كانت مفترق الطرق. يعني كان الأشعري ينتسب إلى الإمام أحمد، ويقول: أقول بقول الإمام أحمد، ويكتب الكتب، ويعطيها البربهاري الحنبلي، ثم بعد ذلك لما جاء ابن فورك حصلت بسبب ذلك فجوة كبيرة.

يقول: وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك

وهو أبو بكر بن الطيب الباقلاني، هذا من المالكية، والأولان من الشافعية، فالباقلاني من أئمة المتكلمين الكبار، ومن أذكيائهم، توفى سنة 403هـ، وأخباره في ذلك مشهورة، وردوده على الطوائف والنصارى أيضاً وغيرهم من الملاحدة معلومة، وهو من أذكياء العالم.

شيخ الإسلام يعتبره من أجلّ أهل الكلام وأفضلهم وفضلائهم، وخبره مع ملك الروم لما جاء إليه للمناظرة فعلم الملك أنه لا يسجد له كما يفعل من يدخلون عليه، فوضع باباً قصيراً فلما جاء تفطَّن فأدار ظهره وانحنى، ودخل إليه مستقبلاً له بقفاه، فعلم أنه قد تفطَّن، ويُذكر عنه أنه دخل وجلس، وكان كبار هؤلاء من أهل مملكتهم ممن له معرفة ومن القسس ونحو ذلك قد حضروا للمناظرة فبادرهم وقال لهم: كيف العيال؟ وكيف الأهل؟ فقال: عجباً لك تسأل عن العيال وأنت ممن ندب للمناظرة! فأنت من علماء المسلمين وما تعلم أن هؤلاء يتنزهون عن النكاح والولد، فقال: عجباً يتنزهون عن الزوجة والولد ولا ينزهون الله عن الصاحبة والولد! هذا قبل أن تبدأ المناظرة، في البداية، وهذا يكفي للإفحام قبل المناظرة، وأخباره في هذا عجيبة.

وكان له مناظرات مع الرافضة، أقبل مرة فرآه أحد الرافضة ومعه أصحابه وتلامذته، فقال: أقبل عليكم الشيطان، فسمعه الباقلاني فلما وصل إليه قال: قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [سورة مريم:83]، أنا شيطان جئتكم، الله يقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا يعني إذا كنت أنا بهذه المثابة وأرسلت إليكم فهذا ما قال الله، رجل في غاية الذكاء والفطنة.

وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك، وتبعه مثل أبي المعالي.

يعني عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، توفى سنة 478هـ.

وأبي حامد.

أبو حامد الغزالي توفى سنة 505هـ.

وابن عقيل.

ابن عقيل الحنبلي أبي الوفاء بن عقيل من أذكياء العالم، توفى سنة 513هـ، وهذا ممن دخل في شيء من العلوم الكلامية، وابن الجوزي، وأبي يعلى الحنبلي والفراء، وأمثال هؤلاء.

وابن الجوزي.

هو عبد الرحمن بن الجوزي، توفى سنة 517هـ.

 وابن الخطيب.

محمد بن عمر الفخر الرازي توفى سنة 606هـ.

والآمدي.

 يعني سيف الدين الآمدي توفى سنة 631هـ.

بعض هؤلاء لهم كتب موجودة مطبوعة، كتاب الآمدي مثلاً، وكتاب ابن عقيل، والرازي كذلك، وبعض هؤلاء لم يصلنا كتابه لكن يَنقل كتابَه في الكتب بعضُ هؤلاء.

والأول هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد.

يعني أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني، توفى سنة 410هـ.

وأبو الطيب.

هو طاهر بن عبد الله الطبري الشافعي توفى سنة 450هـ.

وأبو إسحاق.

هو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي، المتوفى سنة 476هـ.

وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب المالكي.

المالكية إذا قالوا قال القاضي وأطلقوا يقصدون القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي، توفى سنة 422هـ.

وأمثاله من المالكية، وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي.

صاحب المبسوط في الفقه الحنفي، محمد بن أحمد بن أبي سهل المعروف الملقب بشمس الأئمة توفى 483هـ، له كتاب موجود في أصول الفقه اسمه أصول السرخسي، مطبوع.

قال: وهو الذي ذكره أبو يعلى وأبو الخطاب وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثالهم من الحنبلية.

وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجباً للقطع به فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة.

يعني يقول: المعتبر في ذلك أهل الصنعة، فحينما يقال: إن هذا يفيد العلم أو لا يفيد العلم، أو هذا مجمع على قبوله أو مجمع على صحته لا ينظر في ذلك إلى كلام الخارجين عن هذه الصناعة، يعني من أهل الكلام مثلاً، فإنهم لا بصر لهم في هذه الصنعة في النقل والأثر والرواية.

لا يعرفون هذه الأشياء، وذكر شيخ الإسلام عن واحد من علماء الكلام هؤلاء يقال له: الأصفهاني، لو جيء له بالمصحف وأراد أن يقرأ من سورة الأعراف من أولها، يقرأ الحروف المقطعة: المص لا يعرف قراءتها؛ لأنهم ما يقرءون أصلاً، لا يهتمون بقراءة القرآن فضلاً عن الحديث والرواية، وشيخ الإسلام يذكر عن بعض أجلائهم أنه ما وجد له في كتابه إلا ثلاثة أحاديث، هم يذكرونها في سياق الرد عليها أو الجواب عنها، وقال: إن هذه الأحاديث الثلاثة اثنان منها لا يصحان، هذه بضاعتهم في هذا العلم.

ولهذا الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في كتاب "الباعث الحثيث" مثلاً يذكر أشياء جيدة فيما يتعلق بخبر الواحد وإفادة العلم وكلام مَن الذي يعتبر في مثل هذه القضايا. وشيخ الإسلام ذكر أشياء من هذا كثيرة باعتبار أن الثقة إنما تحصل بحسب المعطيات التي عند الإنسان.

ولذلك تجد بعض العوام بكل بساطة عندما تقول: هذا الحديث أخرجه البخاري، يقول بكل بلاهة: ما الدليل أن البخاري لم يدس فيه أحاديث؟ وما يدرينا إذا كان البخاري ما دس فيه أحاديث؟ هذا يحتاج إلى فهم في عناية العلماء في تدوين السنة، وحفظها، وتنقيحها، وتنقيتها، والجهود التي بذلوها، وما كانوا عليه من الحفظ والإتقان والضبط، والبصر بعلل الحديث حتى صاروا صيارفة في هذا الفن يميزون الصحيح من السقيم، أئمة كبار أهل إتقان وحذق وبصر في هذا الباب، فتجد مثل هؤلاء العلماء حينما يُذكر لهم إسناد مثل الشمس يحصل لهم بذلك علم، وهو خبر واحد، لكن هو ما يعرف هؤلاء الأئمة.

كما قيل لأحدهم لما تكلم في مسألة العلو لله -تبارك وتعالى- وقال: الاستواء بمعنى الاستيلاء، وكذا، فجيء له بالأحاديث والروايات وكذا قال: لا، لكن ما معنى هذه الروايات؟ قيل له: هذا كلام السلف، قال أبو قلابة كذا، قال أبو أيوب كذا، قال ابن عمرو كذا، قال فلان كذا، ونحو هؤلاء الأئمة. قال: أتيت لي بمجاهيل!، ما هو عارف من هو أبو قلابة، ولا هو عارف من هو أبو أيوب السختياني ، ولا هو عارف من هو الأوزاعي، ولا الليث، ولا فلان ولا فلان، يقول: أتيت لي بمجاهيل! هو ما سمع إلا أسماء مثل الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، فلما يقال له: قال أبو قلابة، قال أيوب قال فلان، يقول: أتيت لي بمجاهيل! هذا الذي ما يعرف قيمة هؤلاء وما كانوا عليه من العلم لا يحصل عنده يقين، والمشكلة بالنسبة للعوام أنهم تبع للعلماء يسألون العلماء فيفتونهم.

لكن المشكلة هؤلاء الذي يُقمِّشون ويقرءون وهم عوام، يقرءون هنا وهناك في الشبهات، ثم يأتي فيقال له: قال فلان، قال أبو قلابة كذا، بعضهم يقول: أنا ما أعرف إلا "فول قلابة" من أبو قلابة؟ فهذا يضرب بعراجين عمر حتى يخرج الذي في رأسه، ما يعرف هؤلاء السلف، ولا يعرف قيمتهم، جاهل مغموس في الجهل، ويقرأ في الشبهات والتشكيك بالسنة وفي ثبوتها، فالمقصود أن شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم يقولون: هذا إنما يكون عند أهل الصنعة، فيحصل لهم من اليقين نظراً لمعرفتهم بالرواة والأسانيد ما لا يحصل لغيرهم.

فالعبرة بهؤلاء إذا قالوا: هذا يفيد العلم، أو لا يفيد العلم، إذا قالوا: هذا مجمع عليه متواتر أو غير متواتر. كذلك في القراءات مثلاً هذا يرجع فيه إلى من عُني بالقراءات، فبعض الشباب يشكك في بعض الأشياء، ويقول: ما التواتر؟! يقال: هذا يرجع فيه إلى أهل الفن، أهل القراءات، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، فبعض الشباب يريد أن يقرأ بقراءة شاذة في الصلاة، ويقول: لا بأس، ويكفينا صحة الإسناد، وهذا التواتر الذي عند القراء لا يثبت، لست أنت الذي تقرر أن هذا لا يثبت، وهكذا.

والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول، لكن هذا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين.

إذا عرف أحوال هؤلاء النقلة الرواة حصل له من الاطمئنان ما لا يحصل لغيره ممن لا يعرف هؤلاء.

وفي مثل هذا ينتفع برواية المجهول، والسيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو ذلك؛ ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث، ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار مالا يصلح لغيره.

وإن كان لا يصح في نفسه، لكن قد يتقوى به غيره، ولذلك فإن مثل هذه الروايات الآن الآحاد نقول: ليست على سند واحد فيحكم عليها بحكم متحد، وإنما تتفاوت، منها ما يفيد العلم، ومنها ما يفيد الظن، ومنها ما يُقطع أنه كذب، فهي بحسب أحوالها المتفاوتة المختلفة من جهة عدالة النقلة وضبطهم، ومن جهة الاتصال والسلامة من العلل القادحة والشذوذ.

قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره، ومثّل ذلك بعبد الله بن لَهِيعة قاضي مصر، فإنه كان من أكثر الناس حديثاً، ومن خيار الناس، لكن بسبب احتراق كتبه وقع في حديثه المتأخر غلط، فصار يعتبر بذلك ويستشهد به.

يعني هو غير متهم في نفسه، لكن حصل له اختلاط؛ لهذا تجد من أهل العلم من يقول: من روى عنه قبل الاختلاط فروايته مقبولة، ومن روى عنه بعد الاختلاط فروايته تكون ضعيفة، لكنه يصلح للشواهد مثلاً، ثم يحددون هؤلاء الذين عرف أنهم رووا عنه قبل الاختلاط كالعبادلة.

وكثيراً ما يقترن هو والليث بن سعد، والليث حجة ثَبْت إمام، وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ، فإنهم أيضاً يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تَبيَّن لهم غلطه فيها بأمور يستدلون بها، ويسمون هذا علم علل الحديث، وهو من أشرف علومهم بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه، وغلطه فيه عُرِف، إما بسبب ظاهر كما عرفوا أن النبي ﷺ تزوج ميمونة وهو حلال[1].
وهذا عند أحمد والترمذي عن أبي رافع، الآن عند أحمد والترمذي -ليس في الصحيحين- تزوجها وهو حلال، وأبو رافع كان هو الرسول بينهما.
وأنه صلى في البيت ركعتين[2].

أيضاً عند أحمد أن النبي ﷺ صلى بالبيت ركعتين في الكعبة.

وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حراماً، ولكونه لم يصلِّ مما وقع فيه الغلط.

فهذه الرواية عن ابن عباس المخرجة في الصحيحين جعلوها من قبيل الغلط، يعني أن ابن عباس وهمَ أن النبي ﷺ تزوجها وهو محرم، والمحرم لا يتزوج، لا ينكح ولا يخطب، فقالوا: رواية ابن عباس حصل فيها الغلط، يعني وهمٌ من ابن عباس، هي مخرجة في الصحيحين، يعني إسنادها لا مطعن فيه، ولكنهم قدموا الرواية التي عند أحمد والترمذي من حديث أبي رافع أنه تزوجها وهو حلال.

وكون النبي ﷺ لم يصلِّ مما وقع فيه الغلط، يعني من أنكر ذلك وقال: النبي ﷺ دخل البيت ولم يصلِّ فيه.

وكذلك أنه اعتمر أربع عُمَر[3]، وعلموا أن قول ابن عمر: إنه اعتمر في رجب مما وقع فيه الغلط.

النبي ﷺ اعتمر أربع عُمَر، هذا ثابت لا إشكال فيه في الصحيحين، وابن عمر -ا- يذكر ذلك، لكن ابن عمر يذكر أن النبي ﷺ اعتمر في رجب، فهذا موضع الغلط، وأنكرته عليه عائشة -ا، مع أن حديث ابن عمر هذا الذي يذكر فيه أن النبي ﷺ اعتمر أربع عمر، وأنه اعتمر في رجب هو أيضا مخرج في الصحيحين، وهذه أمور تقع للبشر.

يعني نحن الآن لو أردنا أن نتحدث عن أمرٍ شهدناه جميعاً لربما اختلفنا، متى وقع ذلك؟ مثلاً: حججنا سوياً حصل حدث في مكان ما شهدناه جميعاً فإذا أردنا أن نذكر هذا بعضنا يقول: سَنَة كذا، وبعضنا يقول: سَنَة كذا، وهذا يقع بين الناس.

وعلموا أنه تمتع وهو آمن في حجة الوداع[4]، وأن قول عثمان لعلي: "كنا يومئذ خائفين" مما وقع فيه الغلط.

هذا مخرج في الصحيحين، تمتع في الحج يعني تحلل من عمرته، مع أن النبي ﷺ كان قارناً لكنه أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة، فعثمان يقول: "كنا خائفين" بمعنى أنهم يتخوفون العدو، فيحتاجون أن يلبسوا السلاح وما إلى ذلك، يقولون: هذا مما وقع فيه الغلط.

وأن ما وقع في بعض طرق البخاري: "أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقاً آخر" مما وقع فيه الغلط، وهذا كثير.

وهذا الحديث طويل، حديث أبي هريرة مرفوعاً، وهو مخرج في الصحيحين.

ثم يأتي بعد ذلك عنوان آخر: (الناس في التصحيح والتضعيف طرفان ووسط).

والناس في هذا الباب طرفان:

- طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميز بين الصحيح والضعيف؛ فيشك في صحة الأحاديث، أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعاً بها عند أهل العلم به.

- وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظاً في حديث قد رواه ثقة أو رأى حديثاً بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلاً في مسائل العلم، مع أن أهل العلم في الحديث يعرفون أن مثل هذا غلط.

يعني أن يكون هذا الحديث فيه علة مثلاً في المتن، فهو يعارض أحاديث ثابتة صحيحة أخرى تدل على أنه وقع في هذا المتن غلط أو وهم أو خطأ قد يعارض صريح القرآن.

وكما أنّ على الحديث أدلةً يعلم بها أنه صدق وقد يقطع بذلك، فعليه أدلة يعلم بها أنه كذب ويقطع بذلك، مثلما يقطع بكذب ما يرويه الوضاعون من أهل الكذب أو الغلو في الفضائل، مثل حديث يوم عاشوراء وأمثاله مما فيه أن من صلى ركعتين كان له كأجر كذا وكذا نبياً.

وفي التفسير في مثل هذه الموضوعات قطعة كبيرة، مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن، سورة، سورة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم.

حديث عاشوراء مثلاً: من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه في سائر سنته [5]، هذا الحديث تجد الكثيرين ممن لا بصر لهم ولا تمييز يروونه ويذكرونه في كتبهم، وفي الوعظ وغيره، وربما في الترغيب والترهيب، وهو لا يصح بحال.

العلماء ذكروا علامات يعرف بها الوضع في الحديث، من هذه العلامات: أن يكون في رواته من الكذابين، قد يعترف واضعه بالكذب في وضعه، وأن يصدر منه ما يتنزل منزلة إقراره، وجود قرينة في الراوية تقوم مقام الوضع، هذه كلها علامات في السند، وهناك علامات في المتن: ركاكة اللفظ، فساد المعنى، مخالفته لصريح القرآن بحيث لا يقبل التأويل، مخالفته لصريح السنة المتواترة عن النبي ﷺ، العلماء ذكروا بعض العلامات التي يعرف بها ذلك.

والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين.

هنا بدأ يتكلم عن بعض المفسرين، الثعلبي صاحب الكتاب المعروف والمشهور والمطبوع (الكشف والبيان لتفسير القرآن) ومؤلفه أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم الثعلبي، النيسابوري المتوفى سنة 427هـ، يقول: إنه استخرجه من نحو مائة كتاب، تكلم فيه عن نحو 14 نحواً من البسائط والمقدمات والعدد والتنزلات، والقصص، والنزول، والوجوب والقراءات إلى غير ذلك مما يدخل أو يتعلق بالتفسير.

وذكر الأسانيد (أسانيده هو) في أول الكتاب عمن يروي عنهم من السلف، ولم يكررها في الكتاب، يعني إذا فتحت تفسير سورة لا تجد الروايات بالأسانيد، لكنها مذكورة في أول الكتاب فيرجع إليه، كما أنه يذكر بغير الروايات، يتكلم عن الإعراب، والأحكام، واللغة، ويكثر من الروايات الإسرائيلية، والقصص وهو مولع بها جداً، يعني إذا وجدت شيئاً من القصص يتعلق بالقرآن، والأخبار الغريبة التي يذكرها بعض المفسرين وتريد مصدراً لها أول ما ترجع إليه تفسير الثعلبي؛ فهو مظنة لهذه القصص والأخبار.

والثعلبي هو في نفسه كان فيه خيرٌ ودين، ولكنه كان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع، والواحدي صاحبه كان أبصر منه بالعربية، لكن هو أبعد عن السلامة واتباع السلف.

الواحدي صاحب الثعلبي، فالواحدي أبصر من الثعلبي بالعربية لكنه أبعد من السلامة واتباع السلف؛ لأن الواحدي على طريقة الأشعرية من أهل الكلام، ثم ذكر البغوي فقال:

والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة.

والبغوي إمام في السنة، بل يلقب بهذا، إمام السنة، هو محمد بن الحسين بن مسعود، وهو من الشافعية، كانت وفاته سنة 510هـ، حذف أسانيد الثعلبي، وذكر أسانيده في أول الكتاب، لكنه إن ساق رواية في ثنايا الكتاب ليست من طريق تلك الأسانيد التي في أول الكتاب أورد إسنادها في ذلك الموضع في ثنايا الكتاب، أما ما لا تجد فيه الإسناد في ثنايا الكتاب فراجع إلى مقدمته، فالحاصل أنه اختصار للثعلبي، وحاول أن يجرده من الأحاديث المكذوبة الموضوعة والقصص والأخبار التي لا أساس لها ولا تثبت، وإن كان وقع في تفسير البغوي بعض الأشياء من بعض المرويات الإسرائيلية، ولكنها لا تقاس بما في الثعلبي، بل وقع في بعض الروايات التي حكم بعضهم عليها بالوضع.

والموضوعات في كتب التفسير كثيرة، منها الأحاديث الكثيرة الصريحة في الجهر بالبسملة، وحديث علي الطويل في تَصدُّقِه بخاتمه في الصلاة.

هنا يمكن أن نجعل عنواناً نقول: (الموضوعات في كتب التفسير)، يعني الروايات الموضوعة المكذوبة.

 يقول: الأحاديث الكثيرة الصريحة في الجهر بالبسملة مثل حديث ابن عباس عند الترمذي: كان النبي ﷺ يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم[6]، هذا يقول عنه العقيلي: لم يصح في الجهر بها حديث.

وحديث علي الطويل في تصدقه بخاتمه في الصلاة،وهذا مخرج عند أبي حاتم، وأبي شيخ، وابن عساكر، والخطيب أيضاً في المتفق والمفترق.

فإنه موضوع باتفاق أهل العلم، ومثل ما روي في قوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [سورة الرعد:7] أنه عليٌّ.

هذا أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس -ا-، والشيخ أحمد شاكر علق عليه بقوله: هذا خبر هالك من نواحيه.

وهكذا أيضاً: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [سورة الحاقة:12] أذنك يا عليٌّ.

هذا عند ابن جرير، ذكر روايات بهذا المعنى، وفي الدر المنثور أورد شيئاً من ذلك وعزا بعض تلك الروايات لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والواحدي، وابن عساكر، ولأبي نعيم في الحلية.

كما عزا الأول الذي قبله في قوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، يعني صاحب (الدر المنثور) عزا ذلك أي تصدق عليٌّ بخاتمه -عند غير ابن جرير- عزاه لابن مردويه، وأبي نعيم في المعرفة، والديلمي، وابن عساكر، وابن النجار، وأورد أحاديث أخرى أيضاً مقاربة في المعنى أنه عليٌّ -.

بعد ذلك يأتي الكلام على النوع الثاني، يعني انتهينا من الاستطرادات الداخلة تحت النوع الأول مما يذكر في أسباب اختلاف التضاد الذي هو يرجع إلى النقل والرواية.

النوع الثاني: ما يرجع إلى الاستدلال، ويمكن أن نجعل عنواناً في بداية الكلام، أما النوع الثاني فهذا أكثر ما وقع فيه الخطأ من جهة تأخره، فأكثره وقع بعد السلف -.

يعني النوع الأول: أن الرواية كانت هي السبب، الرواية كانت محتملة، النوع الثاني هذا من جهة الاستدلال، هذا من جهة الناظر في الأدلة، أو في التفسير، أو في القرآن، فإن هؤلاء يختلفون باعتبارات متعددة، معايير يختلفون فيها، قواعد وضوابط يختلفون أيضاً في تطبيقها على الموضع المعين، قد يكون هناك قصور في المعرفة لكون هذه الرواية أو الحديث الذي يفصل الخلاف ويبين المراد ما بلغه، أو قد يكون ما صح عنده، أو غير ذلك مما يعرض للمستدل أو للناظر أو للمفسر.

وأما النوع الثاني من مستندَي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين، حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صِرفاً لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين.

يذكر فيها صرفاً: تذكر فيها الروايات فقط عن هؤلاء السلف -.

مثل تفسير عبد الرزاق.

عبد الرزاقالصنعاني المتوفى سنة 211هـ، وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات،

ووكيع.

وكيع بن الجراح توفى سنة 196هـ.  

وعبد بن حميد.

وعبد بن حميد بن نصر الكشّي، ويقال أيضاً بالسين، المتوفى سنة 249هـ، يوجد من تفسيره -تفسير عبد بن حميد- قطعة منتخبة، ولا أظنها بعبارته وحروفه، وإنما هي أشياء انتخبها من انتخبها على إحدى النسخ الخطية لأحد أجزاء تفسير ابن أبي حاتم، وعند المقارنة والتدقيق يبدو واضحاً -والله أعلم- أن هذه منقولات انتخبها من علقها لنفسه ولم يراعِ فيها اللفظ، يعرف هذا بأمور: منها مقارنة الروايات التي تنقل عن عبد بن حميد من كتابه هذا بالتفسير، ويعرف بالمقارنة أيضاً بحواشٍ أخرى منقولة من تفسير ابن المنذر، هي حواشٍ على ابن أبي حاتم، نفس الذي وضع هذه الحواشي نقل أشياء من تفسير عبد بن حميد عن أبي حاتم.

وتفسير ابن أبي حاتم وجد منه قطع لا بأس بها، كثيرة، وإن كان الكتاب فيه خروم ومواضع غير موجودة، لكن إذا قارنا هذه النقول التي على الهامش في هذه النسخة الخطية لابن أبي حاتم مما انتخب من تفسير ابن المنذر وقارناه بالقطعة التي وجدت من تفسير ابن المنذر -وُجد قطعة من التفسير طبعت في مجلدين هي بنص تفسير ابن المنذر الذي كتبه، طبعاً هي روايات- نجد فروقات، وأن هذا الذي كان ينقل على الحاشية في تفسير ابن أبي حاتم على أحد الأجزاء أنه كان يتصرف في النقل، واضح أنه كان ينقل وينتخب لنفسه، ما كان ينقل بعبارة الكتاب، فهو نفسه الذي كتب حاشية عبد بن حميد على ابن أبي حاتم، فيظهر من هذا -والله تعالى أعلم- ما ذكرت من أن هذه التي وجدت لا تمثل الكتابين، لا تمثل تفسير عبد بن حميد ولا تمثل تفسير ابن المنذر.

لكن تفسير عبد بن حميد لم يصل إلينا إلى الآن للأسف، وهذه الأشياء التي على الحاشية جاء مَن طبعها في كتاب صغير وأخرجها إخراجاً ليس بذاك، ولم ينبه لهذا، ولم يقارن هذه المقارنات حتى يعرف هل هي بنصها أو أنها بتصرف، لم يفعل شيئاً من ذلك.

فالشاهد أنه تبقى تفاسير الأمهات الكبار الأصول في الرواية التي عليها المعول، كما ذكر الحافظ ابن حجر في أول العُجاب، هذه التفاسير هي: تفسير ابن جرير، تفسير عبد بن حميد، وتفسير ابن المنذر، وتفسير ابن أبي حاتم، فإن زدت خامساً فتفسير ابن مردويه. هذه التي لا يكاد يخرج عنها شيء من روايات التفسير، إن وُجدت، وكأنها –أي هذه الكتب- قد وصلت لبعض المتأخرين، يعني من نظر في كتاب (الدر المنثور) للسيوطي، وكثرة النقل من هذه الكتب قد يجزم بأن السيوطي قد وقف عليها جميعاً، لكن للأسف الكتاب الوحيد الذي يوجد كاملاً هو تفسير ابن جرير.

وعبد بن حميد تفسيره لم يصلنا، وهو متوفى سنة 249هـ.

وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم.

ملقب بدحيم، متوفى سنة 245هـ،

ومثل تفسير الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه.

إسحاق بن راهويه متوفى سنة 238هـ.

وبَقِيّ بن مخلد.

القرطبي إمام أهل المغرب أو إمام الأندلس، الإمام الكبير الحافظ المتوفى سنة 276هـ،

وأبي بكر بن المنذر.

المتوفى سنة 309هـ، وقد أشرت إلى تفسيره.

وسفيان بن عيينة.

توفى سنة 198هـ، ولم يصلنا تفسيره، والمطبوع هذا مجموع.

وسُنيد.

يعني ابن داود المصيصي المتوفى سنة 220هـ.

وابن جرير.

الإمام أبي جعفر المتوفى سنة 310هـ.

 وابن أبي حاتم.

يعني عبد الرحمن بن أبي حاتم توفى سنة 327هـ. 

وأبي سعيد الأشج.

وهو عبد الله بن سعيد الكندي الأشج الكوفي المتوفى سنة 257هـ.

وعبد الله بن ماجه.

صاحب السنن المتوفى سنة 273هـ.

 وابن مردويه.

أحمد بن موسى الأصبهاني المتوفى سنة 401هـ.

هنا يقول: إن هذا لم يكن موجوداً في كتب الرواية هذه، وإنما وجد لدى المتأخرين من جهتهم، يعني هذا الخلل أو هذا الاختلاف وجد في كتب المتأخرين كثيراً من جهتهم يعني من جهة الاستدلال، لماذا كتب المتأخرين خالية من هذا؟

هي كتب رواية محضة، لكن حينما ننظر في هذه المرويات -نفس المرويات- عن السلف في الاختلاف المحقق الذي هو اختلاف تضاد، والذي لابد فيه من ترجيح، بعض هذا يرجع إلى النقل، وبعضه يرجع إلى الاستدلال، نفس الخلاف المنقول عن السلف اختلاف تضاد يرجع إلى هذا وهذا، لكن اتسع ذلك عند المتأخرين، لاسيما الاختلافات التي تعتبر من قبيل الانحرافات في الاعتقاد أو في قواعد الاستنباط والاستدلال، فهذه وجدت عند المتأخرين كما سيتضح الآن، يعني الذين عندهم انحرافات في الأصول، في الثوابت، في القواعد، في طرق الاستدلال أصلاً، في الأدلة مثل الرافضة مثلاً، تفاسير الباطنية فسروا القرآن بأن له ظاهراً وباطناً، الصوفية في أذواقهم ومواجيدهم، وتفسيراتهم الإشارية، هذه انحرافات في الأصول التي يبنى عليها الفهم أصلاً، فهو لا يوافقك في قواعد الاستنباط، قواعد الاستدلال، فيستنتج ويستنبط، ويستخرج المعاني بطريقته، فهذا يقع فيه شطط كثير وانحرافات كما سيأتي في تفاسير الباطنية، وتفاسير الرافضة، وتفاسير الصوفية بنوعية التفسير الفلسفي، والتفسير الإشاري، وتفاسير الفلاسفة، وقُل مثل ذلك في تفاسير العقلانيين الآن.

يقول لك: أنا ما أرتبط بالسبب، "مالي ومال السلف"، فلنا عقول ولنا فهم وعندنا معطيات في هذا العصر، ينبغي أن نقرأ القرآن قراءة جديدة، يعني بغير طرق الفهم والاستدلال والاستنباط المعروفة عند أهل العلم، ولذلك يطالب بعضهم اليوم أن تُكتب أصول فقه جديدة غير أصول الفقه المعروفة، بحيث يتم على ضوئها الاستدلال والفهم والاستنباط، وهذه الانحرافات تعتبر انحرافات منهجية، يعني هذا خلاف أهل الأهواء، أهل البدع، أهل الضلالات، ولعله يأتي -إن شاء الله- يوم نتلكم فيه عن قضايا الاختلاف بأنواعه مفصلاً، واختلافات أهل الأهواء، هؤلاء الذين عندهم قواعد أخرى، ومشارب وضلالات، وأين ذهبت بهم هذه الضلالات، وكيف مزقت هذه الأمة وجعلتها على طوائف يضلل بعضها بعضا؟ نسأل الله العافية.

قال: إحداهما: قومٌ اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.

الخلاف من جهة -يعني بسبب النقل أو بسبب الاستدلال- قد يقع لأهل القواعد الصحيحة، والطرائق المستقيمة في النظر والاستدلال، فيختلفون إما بسبب النقل؛ لأنه يحتمل، أو بسبب الاستدلال لكون هذا في القاعدة الفلانية المعينة يرى أن العبرة بعموم اللفظ، وذاك يرى أن العبرة بخصوص السبب، وقد يختلفون في بعض القواعد: العام والخاص، أمور، تفاصيل، قضية الاستثناء الذي يعقب جملاً هل يعود إلى جميعها؟ هل يعود إلى الأخير؟ هذه قواعد أصولية قد يختلفون فيها، فيقع اختلاف بينهم بناء على ذلك في التفسير.

فهذا يقع بين من كان اختلافهم محموداً، يعني هم أهل علم ونظر صحيح، لكن اختلفوا بناء على معطيات معينة في الاستدلال، وكثر ذلك لدى المتأخرين من أهل الأهواء والبدع ومن شابههم، أو ممن لم يتجرد عند نظره إلى نصوص الوحي.

 فالأولون هم من كان عندهم مقررات سابقة، هذه المقررات السابقة لا يشترط أن تكون في الاعتقاد فقد تكون في الفقه، في السلوك، قد تكون قناعات معينة في باب من الأبواب فهو يبحث عما يؤيد هذه المقررات وما يؤيد هذه القناعات وهذه العقائد مثلاً التي عنده، فهو لا ينظر للنص ليستفيد منه نظر المستفيد، وإنما نظر المتلمس ما يؤيد ما في نفسه، وما يعتقد، ولهذا فإن النظر إلى النصوص بهذا الاعتبار يقال فيه: إما أن يكون النظر لاستخراج ما دلت عليه النصوص ومعرفة الحق من خلال النصوص فهذا نظر أهل الحق كما يقول الشاطبي.

والنظر الثاني: هو الذي ينظر في النصوص ليستدل على ما في نفسه، يعني لا ينظر إليها ليعرف الحق بها، وإنما ينظر إليها ليستدل بها على ما في نفسه، فيجعل النصوص تابعة لما يعتقد، لمقرراته هو، وهذا قد يكون في الفقه.

 فالمتعصب ينظر في النصوص كما يقول بعض المتعصبة: كل نص خالف المذهب هو إما متأول أو منسوخ، فهو ينظر إلى النصوص ويبحث عما يؤيد المذهب، والذي لا يؤيد المذهب يتمحل في تأويله ويتعسف في حمله على المحامل البعيدة، هذا وُجد عند المتعصبة.

النبي ﷺ يقول: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل[7]، ومذهب الأحناف أنه يجوز النكاح بغير ولي، فإذا قيل لهم: هذا نص في المسألة، قالوا: لا، وأجاب بعضهم فقال: الصغيرة تحتاج إلى ولي؛ لأنها لا تحسن التدبير، طفلة، نقول لهم: النبي ﷺ قال: أيما امرأة، ما قال: طفلة، قالوا: إذاً الأمة، نقول: وهذه إذا أطلقت -أيما امرأة- هذه صيغة عموم تشمل الأمة ، كل هذا من أجل أن المذهب لا يتزعزع، وأن لا يقال: إنه خطأ في هذه المسألة، وهذا قد تجده عند إنسان عنده قضايا، قناعات في السلوك، نظريات معينة يبحث عما يؤيدها، قد يقع في ذلك بعض الناس الذين يتكلمون في الإعجاز العلمي، فيبحث عن أشياء توافق النظرية أو الاختراع، يبحث ويلوي أعناق النصوص، قد تجد هذا عند إنسان يتكلم في الإدارة ويعطي دورات في الإدارة، ويريد أن يجعلها أسلمة الإدارة كما يقال.

الإدارة من العلوم الإنسانية كما يقال، فهي شائعة ذائعة بين البشر، لا تختص بجنس ونوع ودين، علوم مشتركة، فيريد أسلمة الإدارة، فيبحث في النصوص عن أشياء، يتعسف ويلوي أعناق النصوص؛ ليوظفها في قوانين وقواعد إدارية، هذا وُجد، ولا حاجة لمثل هذا، فهؤلاء قومٌ اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.

الثاني: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه، يعني العربي، يعني كنصٍّ عربي بحت، ما نظروا إلى السياق، إلى ملابسات النزول، إلى أسباب النزول، فهنا يقع الانحراف، يعني كنص يحتمل، لكن إذا نظرت إلى ملابسات النزول: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ [سورة المائدة:103]، هنا لابد أن تعرف الحام التي كانت في الجاهلية، لا أن تفسره بمجرد الألفاظ العربية.

انظر في قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [سورة الأنفال:11]، تجد بعض من ينظر إلى هذا باعتبار أنه نص لغوي بحت يريد أن يفسره باللغة -بما يسوغ في اللغة- يقول: يربط على القلوب ويثبت الأقدام، فإذا ربط على القلب ثبت القدم في المعركة فلا ينهزم، هذا يصح في اللغة، إذا ربط على القلوب ثبتت الأقدام فلا تحصل الهزيمة، لكن إذا نظرنا إلى أسباب النزول والملابسات ووقعة بدر، وأنهم كانوا في أرض تسوخ فيها الأقدام، فنزل المطر فلبدها، فصاروا يمشون على أرض ثابتة، فيقال هنا: ليس المقصود ألا ينهزم، وإنما لئلا تسوخ قدمه في الأرض الدهسة الرملية فيكون ذلك سبباً للإرهاق للمقاتل والتعب والعناء بأول مزاولة في القتال، وهذا معروف، فالإنسان لما يكون على أرض رملية ويريد أن يتحرك ويريد أن يجري يتعب وينقطع نفسه.

بدأ يفصل في النوعين: الذين كان عندهم مقررات سابقة، وأيضاً أولائك الذين نظروا إليه باعتبار أنه نص لغوي بحت عربي كما يفعل بعض المعتزلة، وهذا الذي يريده -بل أكثر من هذا: الذي يورده- بعض هؤلاء من المنحرفين في عصرنا الذين يقولون: نريد أن نقرأ القرآن قراءة جديدة، يعني بعيداً عن كل المعطيات وملابسات النزول والقواعد والآثار المنقولة من المرفوع وغيره، بحسب أفهامهم، فهم ليس عندهم قواعد، وليس عندهم فهم، ولا عندهم أصول، ولا عندهم علم، يريدون أن يقرءوا القرآن بأهوائهم، ولذلك تجد بعض هؤلاء يقولون: نحن نرجع للقرآن، مصدرنا القرآن، تعرفون فرقة القرآنيين الذين أنكروا السنة.

فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان، والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز عندهم أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام. ثم هؤلاء كثيراً ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم.

حتى هؤلاء الذين قالوا: نتعامل معه على أنه نص لغوي أيضاً قد يخطئون، من حيث لا يكون اللفظ يحتمل هذا المعنى الذي ذكروه، فضلاً عن أولئك الذين عندهم مقررات سابقة أصلاً.

هم يلوون أعناق النصوص، وأسباب النزول، وما إلى ذلك من السياق وغيره.

كما أن الأولين كثيراً ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق.

يعني الجميع في النتائج التي يصلون إليها غالباً ما تكون غير صحيحة؛ لأن البدايات والمقدمات غير صحيحة، وهم وإن وافقوا الصواب فهم كما يقول الشاطبي: وافقوه على سبيل الاتفاق، يعني صدفة كما يُعبَّر الآن، أي من غير أن يكون ذلك وفق مقدمات سليمة، فلا تكون موافقتهم للصواب بذلك محمودة، كما قال النبي ﷺ في القضاة الثلاثة قال: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، وذكر من القضاة في النار الذي وافق الحق ولكنه ما عرفه[8]، يعني هو وقع على الحق والصواب مصادفة، رمية من غير رامٍ، فلا يكون محموداً في موافقته، مثل الذي يتكلم في الأحكام وهو جاهل، بعض العوام يقول: أنا عندي حس فيبادر، وقد يُسأل أحد طلبة العلم ويتريث في الجواب فيفاجأ بتقافز الإجابات من هنا وهناك من العوام، بأي حق أنتم تجترئون هذه الجرأة؟ قالوا: عندنا حس، هذا يقول: لا يجوز، وهذا يقول: يجوز، فمن وافق الصواب منهم تكون موافقته غير محمودة؛ لأنها لم تحصل بطريق النظر والاستدلال الصحيح.

يقول: وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق. لماذا نظر الأولين إلى المعنى أسبق؟، لأنهم يبحثون عن المعنى الذي يوافق ما اعتقدوا، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق، الآخرون ينظرون باعتباره نصاً عربياً، هم ينظرون فيه ثم يفسرونه، أولئك يبحثون عن المعنى الموافق لمعتقداتهم.

الأولون صنفان، من هم الأولون؟

هم أصحاب المقررات السابقة، عنده قناعات سابقة يريد أن يستدل لها، يقول: هؤلاء صنفان، حتى أُقرِّب وأُلخِّص لكم هذين الصنفين؛ لأن الكلام متشعب، الذين عندهم مقررات سابقة يعني الذين اعتقدوا شيئاً وأرادوا الاستدلال عليه، يقول: هؤلاء على نوعين، هم صنف واحد، لكن يقول: تصرفهم يكون على منحيين، يكون له اتجاهان بحسب الحالة الواقعة، هؤلاء تارة يحملون النص على معنى غير مراد، هو عنده قناعة معينة، فحمل النص على غير المراد، هو مثلاً يجيز الرقص، أو صوفي يرقص في الموالد ويزعم أن لديه دليلاً من القرآن، ما الدليل؟

قال: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [سورة ص:42]، الله يقول هذا لأيوب، يضرب برجله الأرض فتنفجر ماء، يقولون: هذا رقص، الآن هو عنده قناعة معينة أن الرقص مشروع فيبحث عن شيء يستدل به؛ فيأتي بهذه الخزعبلات، وهذا يريد أن يفخم -كما يقول الشاطبي- وزيريه فيقول: أنتما مَن عَنى الله بقوله: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] يلقب واحداً بنصر الله، والثاني بالفتح، فينظر إلى القرآن يبحث عن شيء يوافق باطله في الظاهر فيقول: أنتما مَن عَنى الله.

 وآخر من الطوائف المنحرفة ملقب بالكِسف يقول: أنا مَن عَنى الله بقوله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ [سورة الطور:44]، فالشاطبي يذكر مثل هذا ويسخر منهم في الموافقات، يتندر بهم.

فالشاهد أن هؤلاء عندهم مقررات سابقة، فهم يريدون أن يحْملوا النص، يعني تارة يحملونه على ما لم يدل عليه، فالنص لا يدل على هذا، والنتيجة التي حملوه عليها لا يحتملها، النتيجة التي يريدون الوصول إليها في التكلف والتعسف والتحمل، تحميل النصوص ما لا تحتمل، وهي –أي النتيجة- قد تكون صحيحة، يعني قد يكون المعنى صحيحاً وقد يكون باطلاً، أي قد يكون صحيحاً دلت عليه أدلة أخرى، أو دلت عليه التجربة من الأمور والصناعات الدنيوية المادية والعلوم التجريبية، معلومة صحيحة لكن القرآن ما دل عليها فيقول: هذا هو المراد، يعني مثلاً: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ۝ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا [سورة العاديات:1-2]، قال بعض أصحاب الإعجاز العلمي: المقصود السيارات. وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [سورة الفلق:3] قال: الكهرباء. الكهرباء والسيارات ثابتة نحن لا ننكرها، لكن هل هذا هو المراد في الآية؟ فيكون الخطأ في الدليل، وليس المدلول.

أحياناً عنده قضية يريد أن يقررها في العقيدة أو في الأحكام أو نحو ذلك، يريد أن يثبت صفة اليد مثلاً فيقول: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [سورة الذاريات:47]، نقول: إثبات صفة اليد ثابت لله لكن الدليل غير صحيح؛ لأن وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ  يعني بقوة، غير الأيدي التي هي جمع يد، فيكون الخطأ في الدليل لا في المدلول.

وأحياناً يكون خطأ هؤلاء الذين عندهم مقررات سابقة بالدليل والمدلول، حيث حملوا النص على معنى لا يحتمله، مثل هذا الذي يقول: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ يعني الرقص، فالدليل لا يدل على هذا، والرقص باطل في نفسه، هذا غلط في الدليل والمدلول.

النتيجة أنه قد يكون الدليل خطأ والمدلول خطأ، وقد يكون الدليل خطأ والمدلول صحيحاً، أي في كل واحد من الحالتين الدليل خطأ الاستدلال خطأ بصرف النظر عن النتيجة.

 هؤلاء في حالهم الأولى حينما يحملون النص على مالم يكن مراداً به -على مالم يدل عليه- إذا عجزوا عن هذا يسلبونه ما دل عليه حتى لا يحتج به المخالف.

مثلاً: القاعدة التي يقر بها المتكلمون من الأشعرية والمعتزلة وغيرهم أن "التأكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز" وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164] "تكليما" هنا مصدر مؤكد لـ"كلم"، فهذا لا يمكن أن يكون من قبيل المجاز، ما يمكن أن يكون كلمه بواسطه جبريل، ماذا تفعلون به؟

قالوا: لا، هذا ما يدل على صفة الكلام. لماذا؟

قالوا: هذا "كلّم" من الكلْم والجرح، ليس الكلام، أي جرحه بمخالب الحكمة. المعتزلة الذين يدعون أنهم أصحاب عقول، كل هذا من أجل ألا يُحتج عليهم بهذه الآية، فما استطاعوا أن يحملوها على مذهبهم أن الله لا يتكلم ولا يوصف بصفات الكمال، هنا قاعدة يقرون بها "التوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز"، ما تقولون؟

قالوا: لا، التكليم هنا ليس الكلام، وإنما من الكلْم الذي هو الجرح، جرحه بمخالب الحكمة، ليس في صفة الكلام.

 واحد عنده قناعة أن الأنبياء لا تقع منهم المعصية، يوجد من يقول بهذا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طه:121]، قالوا: لا، هنا غوى من غوي الفصيل يعني ولد الناقة حتى انتفخ بطنه، يعني أصابه البشم من كثرة الحليب (الرضاع)، فآدم من كثرة الأكل في الجنة من الشجرة التي نُهي عنها أصابه البشم، لا أنه صار غاوياً وعاصياً بهذا الفعل، يسلبونه ما دل عليه إذا ما استطاعوا أن يحملوه على المعنى الذي يريدون، فهم يتصرفون إزاء النص بأحد أمرين:

إن استطاع أن يحمله على مذهبه فعل ولم يقصر، وإن لم يستطع فرَّغه من مضمونه بحيث لا يدل على خلاف مذهبه. هذا تصرف هؤلاء الذين يتعاملون مع النصوص بمقررات سابقة، تارة يخطئون في الدليل، وتارة يخطئون في المدلول، إذا كانوا يريدون حمل النص على هذه المقررات التي اعتقدوها، وقد تكون أحكاماً فقهية.

والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وتارة يحملونه على مالم يدل عليه ولم يُرَد به.

فالأولون هم أصحاب المقررات السابقة، عندهم اعتقادات معينة أياً كانت.

وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلاً فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقاً فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول.

أيْ حقٌّ، لكن القرآن ما دل عليه، أو هذه الآية ما تدل عليه.

وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن فإنه وقع أيضاً في تفسير الحديث، فالذين أخطئوا في الدليل والمدلول مثل: طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهباً يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها، عمدوا إلى القرآن فتأولوه على آراءهم، تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه.

ومن هؤلاء فرق الخوارج، والروافض، والجهمية، والمعتزلة، والقدرية، والمرجئة، وغيرهم، وهذا كالمعتزلة مثلاً فإنهم من أعظم الناس جدالاً وكلاماً، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم، شيخ إبراهيم بن إسماعيل.

هذا متوفى سنة 240هـ، الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية هذا متوفى سنة 218هـ.

هذا الذي كان يناظر الشافعي.

هذا ابن الإمام إسماعيل بن علية، جهمي.

الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي، ومثل: كتاب أبي علي الجبائي.

هذا من شيوخ المعتزلة وكبارهم وأئمتهم، واسمه محمد بن عبد الوهاب بن سلام، توفى سنة 303هـ، أبو علي وابنه أبو هاشم، الأب يكفر الولد، والولد يكفر الأب، كل واحد عنده فرقة من فرق المعتزلة، كلهم يقولون: نحن أصحاب عقول.

والتفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني.

هذا معتزلي أيضاً توفى سنة 415هـ، هذا كتب هذا الكتاب يؤيد مذهب المعتزلة على طريقة السؤال والجواب، لكنه ما فسر كل القرآن تكلم عن المواضع التي فيها مجال للجدل والشغب ومحاولة الاحتجاج لمذهبهم الباطل.

والجامع لعلم القرآن لعلي بن عيسى الرماني.

توفى سنة 384هـ.

والكشاف لأبي القاسم الزمخشري.

معروف مشهور، محمود بن عمر، توفى سنة 538هـ، وهذا معروف كيف كان يتصرف في التفسير ويدس الاعتزاليات، يقول في: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة:3] وإذا قلتَ ما الإيمان الصحيح؟ قلتُ: أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدق بعمله، فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق، ومن أخل بالشهادة فهو كافر، ومن أخل بالعمل فهو فاسق.

الذي يقرأ هذا الكلام يقول: لا إشكال، لكن هو يريد أن يقرر ما عند المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، والفاسق الملِّي -يعني صاحب المعاصي- لا يقال له: مؤمن ولا كافر، فهو مخلد في النار، يسمونه الفاسق الملي، فهو يدس الاعتزاليات بهذه الطريقة.

 في قوله: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3] يقول: وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله، هذه قد تنطلي على بعض الناس، ولكن هذا بناء على عقيدة المعتزلة أن الرزق إنما هو الحلال فقط، أما الحرام فليس برزق.

 وأهل السنة يعتقدون أن الرزق يكون بنوعيه الحلال والحرام، فيحرم عليه أخذ الحرام، لكن لا يصل إليه شيء إلا قد كتبه الله -تبارك وتعالى- له، لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب[9] فلو صبر على الحرام لجاءه من الحلال كذا، فهو يقرر بهذه الطرق الخفية.

فهؤلاء وأمثالهم اعتقدوا مذاهب المعتزلة. وأصول المعتزلة خمسة، يسمونها هم: التوحيد والعدل.

يقصدون بالتوحيد نفي الصفات، والعدل نفي القدر، والمنزلة بين المنزلتين، الفاسق الملي، وإنفاذ الوعيد، يقولون: الوعيد لا يتخلف، فمن توعدهم الله بالنار لابد من دخولهم، يقصودن من غير الكفار يعني عصاة المسلمين؛ ولهذا ينفون الشفاعة، وأهل السنة يقولون: الوعيد لا يتخلف، وأما الكريم فقد يتوعد ويغفر (يتجاوز)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقصدون به الخروج على الحكام الظلمة الذين لم يحصل منهم كفر صريح.

وأصول المعتزلة خمسة، يسمونها هم: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك، قالوا: إن الله لا يرى، وإن القرآن مخلوق، وإنه تعالى ليس فوق العالم، وإنه لا يقوم به علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا مشيئة ولا صفة من الصفات.

وأما عدلهم فمن مضمونه أن الله لم يشأ جميع الكائنات، ولا خلقها كلها، ولا هو قادر عليها كلها، بل عندهم أفعال العباد لم يخلقها الله، لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أمر به شرعاً، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته.

وقد وافقهم على ذلك متأخرو الشيعة كالمفيد وأبي جعفر الطوسي وأمثالهما.

هؤلاء الرافضة تلقوا مذاهب المعتزلة في هذه الأبواب فزادوا عليها الرفض، فالمعتزلة لا يقدحون، لا يتكلمون في إمامة أبي بكر ، وعمر، وعثمان ، لكن الرافضة ينكرون ذلك ويكفرون هؤلاء الصحابة إلا قليلاً، تلقوا عقائد المعتزلة وزادوا في الضلالة.

كذلك الزيدية تلقوا عقائد المعتزلة، والخوارج تلقوا عقائد المعتزلة، والإباضية هؤلاء هم على طريقة المعتزلة في الصفات، إضافة إلى عقائد باطلة للخوارج.

 وقد وافقهم على ذلك متأخرو الشيعة كالمفيد. يقصد هنا محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام البغدادي، الملقب بالشيخ المفيد، توفى سنة 413هـ.

وأبي جعفر الطوسي، هذا تلميذ للذي قبله، والطوسي هو محمد بن الحسن بن علي الطوسي، توفى سنة 460هـ.

ولأبي جعفر هذا تفسير على هذه الطريقة، لكن يضم إلى ذلك قول الإمامية الاثني عشرية، فإن المعتزلة ليس فيهم من يقول بذلك، ولا من ينكر خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.

 ومن أصول المعتزلة مع الخوارج إنفاذ الوعيد في الآخرة، وأن الله لا يقبل في أهل الكبائر شفاعة، ولا يُخرج منهم أحداً من النار.

ولا ريب أنه قد رد عليهم طوائف من المرجئة والكرّامية.

الكرّامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرّام.

 والكلابية.

أصحاب ابن كلاب، عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان المصري توفى سنة 240هـ، وهي أصل لمذهب الأشعرية والماتريدية، يعني الخلافات بين الأشعرية والماتريدية محصورة محدودة، فبعضهم يحصرها في ثلاث عشرة مسألة أو نحو ذلك، وبعضهم يزيد، لكن ليست من الأصول، لا يختلفون في الأصول، أعني الماتريدية، وعليه أكثر أهل المشرق من الأحناف، والأشعرية طبّقت في الناحية الأخرى من بلاد المسلمين.

يعني الماتريدية في البلاد المشرقية بلاد الهند والأفغان وما وراء النهر وما أشبه ذلك، والأشعرية الناحية الأخرى في البلاد الإسلامية.

ولا ريب أنه قد رد عليهم طوائف من المرجئة والكرّامية والكلابية وأتباعهم.

هذا يمكن أن يكون عنواناً: (حال من رد عليهم).

فأحسنوا تارة، وأساءوا أخرى، حتى صاروا في طرفي نقيض، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

يعني يردون عليهم بدعة ببدعة، فيردون باطلاً بباطلٍ أكبر منه، وكثير من هذه البدع هي عبارة عن ردود أفعال، يعني لما يأتي الغلو عند الخوارج في التكفير لفاعل المعصية مثلاً أو فاعل الكبيرة يقابل ذلك الإرجاء؛ لأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، وهذا خطأ، وهذا خطأ.

وقل مثل ذلك في الغلو أو التفريط في إثبات النصوص على ما دلت عليه من صفات الرب -تبارك وتعالى-، صفات الكمال نفْيُ هذا كما فعلت الجهمية يقابله الغلو في الإثبات، وذلك بالتجسيم والتشبيه أو التمثيل، فهذا يقابل هذا، وهكذا الانحرافات دائماً تجد أنها ردود أفعال غالباً، والصحيح أن الباطل يقابل بالحق.

وتجد الناس اليوم في مناقشاتهم وردودهم وما أشبه ذلك يحصل منهم التجافي هنا وهناك، فتجد هؤلاء على هذا الطرف، وهؤلاء على هذا الطرف، وهذا غلط، والواجب اتباع الحق الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم.
  1. رواه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته، برقم (1411)، عن يزيد بن الأصم "حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله ﷺ تزوجها وهو حلال"، والترمذي، كتاب الحج عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم، برقم (841)، وأحمد في المسند، برقم (26828)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
  2. رواه مسلم، كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها، برقم (1330).
  3. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب عمرة القضاء، برقم (4253)، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان عدد عُمَر النبي ﷺ وزمانهن، برقم (1253).
  4. رواه البخاري، كتاب الحج، باب من ساق البدن معه، برقم (1691)، ومسلم، كتاب الحج، باب وجوب الدم على المتمتع وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، برقم (1227).
  5. رواه البيهقي في شعب الإيمان، برقم (3792)، وبنحوه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (10007)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (5873).
  6. رواه الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب من رأي الجهر بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، برقم (245)، وقال أبو عيسى: "هذا حديث ليس إسناده بذاك".
  7. رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في الولي، برقم (2083)، والترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، برقم (1102)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، برقم (1879)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1817).
  8. رواه أبو داود، كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ، برقم (3573)، والترمذي، كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله ﷺ في القاضي، برقم (1322)، وابن ماجه، كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، برقم (2315)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4446).
  9. رواه ابن ماجه، كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، برقم (2144)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (10184)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2607).

مواد ذات صلة