الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «الثلث والثلث كثير» (3-3)
تاريخ النشر: ٢٢ / شعبان / ١٤٢٣
التحميل: 4584
مرات الإستماع: 8361

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فلا زلنا نتحدث عن حديث سعد بن أبي وقاص ، لمّا مرض في سفر حجة الوداع بمكة، واستشار النبي ﷺ في أن يتصدق بثلثي ماله، فأخبره النبي ﷺ أن ذلك كثير، فقال: فالشطر، فأخبره أنه كثير، فقال: فالثلث، فقال النبي ﷺ: الثلث، والثلث كثير، فأقره على التصدق بهذا القدر.

وكنا نعلق على قول النبي ﷺ: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وبينا حكم النفقة في سبيل الله، وهل يدخلها الإسراف؟ وضابط الإسراف، وكذا قول النبي  ﷺ: وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرتَ عليها، وذكرنا شروط قبول العمل، وهل يشترط استحضار النية في كل عمل حتى يؤجر عليه الإنسان؟ أو أنه يستثنى من هذا بعض الأشياء؟

قال سعد : فقلت: يا رسول الله، أُخلَّف بعد أصحابي، يعني أبقى في مكة بسبب العلة والمرض، ويرتحلون إلى المدنية، أُخلَّف بعدهم في الدار التي هاجرت منها، قال: إنك لن تُخلَّف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ومعنى ذلك أن الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته إلى آخر نفس مطالب بالعمل الصالح، ليرتقي درجات عند الله -تبارك وتعالى، وسواء طال عمره أو قصر، ونحن نعرف أن بعض السلف كان عند الموت إذا سمع حديثاً دعا بالدواة والقلم وكتبه، ويقال له: حتى في هذه الحال؟

والإمام أحمد -رحمه الله- كان يئن في مرض الموت، فقال له بعض من حضره: إن الأنين يكتب، فما أنَّ حتى مات، فكانوا يستحضرون ذلك جميعاً حتى مع اشتداد المرض.

يقول: ولعلك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون، وهذا هو الذي حصل، حيث طال عمر سعد بن أبي وقاص ، وبقي إلى سنة ثمان وخمسين تقريباً، وقيل: إنه آخر من مات من المهاجرين في المدينة، وخُلِّف فانتفع به أقوام، وانتفع به أهل الإسلام انتفاعاً كثيراً، فكان قائداً من قادة المسلمين الذين ثلّوا عروش فارس، ومعلوم خبره حينما كان في القادسية، ولما دخلوا المدائن وعبروا الجسر على الخيل والإبل، عبروا الماء -بعد تدمير الجسور- على الخيل والإبل، لأن سعداً قيل له: إنك إن تباطأت عن المدائن وهي مقر كسرى ثلاثة أيام حمل الفرس ما فيها من الذهب والنفائس، وخرجوا منها، فلم يجد شيئاً يركبه الجيش، فشاور بعض أصحاب النبي ﷺ فلما نظروا في حال الجيش وما هم عليه من التُّقى، والتوكل على الله والتزام حدود الله اقتحموا الماء، وساروا على دجلة على الإبل والخيل، ولم يغرق لهم شيء، وإنما سقط سقاء لرجل منهم، كانت علاقته رديئة فانقطعت، فقال الرجل: لا والله لا ينجو جيش بأكمله ويهلك لي متاع، فحمله الماء حتى ألقاه إليهم.

هكذا يفعل التوكل على الله ، فسعد كان يمشي على الماء مع سلمان الفارسي، على دوابهم، فقال له سلمان: قد ذللت لهم الأرض والبحر، وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وليخرجن منه أفواجاً.

فهذا هو سعد مجاب الدعوة، وقد ذكرت لكم طرفاً من خبره، فنفع الله به أهل الإسلام، وكبت به أهل الكفر، وكان سقوط مملكة فارس على يده، هو الذي دخل المدائن ودخل إيوان كسرى، وأخذ تاجه وسواريه، وأخذ متاعه وما عنده من الكنوز، وأرسلت إلى المدينة بكميات لا يُقادَر قدرها من الذهب والفضة والجواهر.

يقول: اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، أي: أن المهاجر إذا انتقل من دار هجرته إلى مكان آخر كان يكره له أن يموت في مكانه الذي هاجر منه، وهذا الذي جعل سعد يقلق ويحزن وينزعج.

فالنبي ﷺ يقول: اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكنِ البائسُ سعدُ بن خولة، قيل: إنه لم يهاجر أصلاً، أسلم وبقي في مكة ومات فيها، وبعضهم يقول: إنه هاجر وشهد مع النبي ﷺ غزوة بدر، ثم بعد ذلك رجع إلى مكة واستقر بها حتى مات، وبعضهم يقول: إنه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد بدراً وغيرها، وتوفي بمكة في عام حجة الوداع، مرض وتوفي، بعضهم يقول: توفي بمكة في آخر عام ست من الهجرة، فالله تعالى أعلم، المقصود أنه مات في مكة، في الدار التي هاجر منها.

فالنبي ﷺ يرثي لحاله، يقول: ولكنِ البائسُ سعدُ بن خولة، يَرثِى له رسول الله ﷺ أن مات بمكة متفق عليه.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

مواد ذات صلة