الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «الطُّهور شطر الإيمان..» (4-4)
تاريخ النشر: ٠١ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3206
مرات الإستماع: 10995

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكنا نتحدث عن قول النبي ﷺ: الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، تحدثنا في التعليق على هذا الحديث إلى هذا القدر.

ثم قال النبي ﷺ: والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، رواه مسلم.

قال رسول الله ﷺ: والقرآن حجة لك أو عليك، بمعنى: أنه إما أن تكون أفعالك، وأعمالك، وأقوالك موافقة لما جاء به القرآن، بحيث إن العبد يكون في حال من الاستقامة في سلوكه إلى الله مهتدياً بنور القرآن، فيكون القرآن حجة له ومدافعاً عنه وشافعاً له، كما ورد: القرآن شافع مشفع، وماحِل مصدَّق[1]، وقد أخبر النبي ﷺ أن سورة من القرآن قدر ثلاثين آية -وهي سورة تبارك- جادلت عن صاحبها، وشفعت له حتى غفر له[2]، فالقرآن يشفع لصاحبه في الآخرة، فهو إما أن يكون حجة لك، أو يكون حجة عليك، ونحن نعرف جميعاً أنه كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه؛ لأنه يقرأ قول الله -تبارك وتعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۝ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78 -79]، فكان ذلك سبباً للعنهم، تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [المائدة:80]، فالقرآن لعنهم على هذه الأعمال الشنيعة، فيقرأ ويقع في نفس ما وقعوا فيه، فهذا وجه.

الوجه الثاني: هو أن يكون هذا الإنسان معرضاً عن القرآن، لا يعظمه حق تعظيمه، ولا يقدره حق قدره، فيكون القرآن بذلك حجة عليه.

وذكر بعض أهل العلم معنى آخر -وهو أبعد من هذا- هو: أن الإنسان حينما يقول قولاً، أو يحكم بحكم فإما أن يكون القرآن موافقاً له فهو حجة له على غيره إذا خالفه، وإما أن يكون القرآن مخالفا له فيكون صاحبه الذي خالفه مصيباً للحق، وذلك مجافياً له، فيكون القرآن بهذا الاعتبار إما حجة لك، أو حجة عليك، لكن الذي يظهر -والله تعالى أعلم- من خلال السياق: أن ذلك ليس هو المراد، وإنما المقصود القرآن إما حجة لك بأن تكون موافقاً لمقتضى القرآن، سائراً على الطريق التي رسمها القرآن فيكون حجة لك، وشافعاً لك، ومنيراً لك في طريقك وفي سيرك إلى الله ، ومنيراً لك في قبرك، وفي محشرك حتى تدخل الجنة، فهو قائدك إلى الجنة.

وإما أن يكون حجة على الإنسان بحيث إنه يقرأ فيه الوعيد، ويقرأ فيه تفاصيل الهدايات وألوانها، ثم هو بعد ذلك يدير ظهره لذلك جميعاً، وقد قامت عليه الحجة فلا عذر له، فالقرآن يكون حجة عليه بهذا الاعتبار.

وإذا عرف المؤمن هذه القضية فإنه ينبغي أن يراعي ذلك، ويجعل هذه الحقيقة نصب عينيه، في كل حالاته، يتذكر جيداً أن اتباع القرآن هو طريق النجاة، وأنه لا يخلو أحد من أن يكون هذا القرآن إما معه، وإما عليه، ولن يستطيع أحد أن يغلبه، فنعرض أعمالنا على القرآن، والسنة تشرح القرآن وتوضحه وتبينه، فكل ما وافق ذلك فهو الصواب والحق، وكل ما خالفه من أقوال القائلين أيًّا كان موقعهم، منتسبين للعلم أو غير منتسبين فإنه لا يعبأ بشيء من ذلك.

وبالتالي لا يُنصب أحدٌ من الناس كائناً من كان يُعارَض بأقواله القرآن والنصوص من الأحاديث، وإنما ينبغي أن تختبر أقوال الناس، وأن تحاكم إلى الكتاب والسنة، لا أن نحاكم الكتاب والسنة إلى قول فلان، وقانون فلان، ورأي فلان، ووجْد فلان، أو ذوقه، هذا أمر لا يجوز، ولن يكون فيه الخلاص لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طـه:124-126]، فلا طريق للنجاة، لن يُترك الإنسان هكذا، لابد له من تحديد واختيار للطريق التي يسلكها، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن.

يقول: كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها الغدو: هو الخروج في أول النهار، حينما يخرج الإنسان باكراً فإنه يغدو، وهؤلاء حينما يخرجون يفترقون في مخرجهم، وقد جاء في الحديث الحسن، عن النبي ﷺ: أن كل خارج من بيته، إما أن يخرج تحت راية ملَك، وإما أن يخرج تحت راية شيطان، فإن خرج لطاعة أو قربة أو شيء من الأمور التي يسوغ له الخروج إليها فهو تحت راية ملك، يذكر الله ، ويستحضر رقابته في قلبه، ولا يقارف شيئاً مما لا يليق، ومن خرج من بيته مخرجاً تلحقه فيه تبعة فإنه يخرج تحت راية شيطان[3]، وما ظنك بإنسان خرج تحت راية شيطان؟

فكل الناس يغدو، ثم بعد ذلك إذا غدا وخرج من صبيحة يومه فإنه يعافس أموراً مختلفة، سواء كانت هذه القضايا من الأمور المالية، أو مما يتعلق باللسان والقيل والقال، أو مما يتعلق بالمطعومات، أو النظر أو غير ذلك مما يفعله الإنسان في يومه وليلته، فهو بهذا الغدو والخروج يكون إما معتقاً لنفسه بفعل الطاعات والقربات، ولزوم حدود الله ، فيعتقها؛ لأنه أسير يحتاج إلى إطلاق، ويحتاج إلى أن يشتري نفسه بفعل الطاعة، فنحن أسرى، ونحتاج أن نفك رقابنا بما نبذله من ألوان الطاعات لله -تبارك وتعالى.

فمعتق نفسه يعني: من رقها وأسرها، أو موبقها أي: أنه يوقعها فيما يدنسها، وما يكون به عذابها وألمها وحسرتها، -فنسأل الله العافية، حينما يكون العبد منفلتاً، لا يرعوي عن شيء، يفعل ما راق له فمثل هذا الهلكة أدنى إليه من اليد للفم.

نسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه، وأن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الطبراني في الكبير (9/ 132)، رقم: (8655)، وابن أبي شيبة (6/ 130)، رقم: (30052)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 351)، رقم: (2010)، وصححه الألباني.
  2. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 494)، رقم: (2508).
  3. عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: ما من خارج يخرج -يعني من بيته- إلا ببابه رايتان: راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته، فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته أخرجه أحمد (14/41)، رقم: (8286)

مواد ذات صلة