الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر أصابه..»
تاريخ النشر: ٢٩ / ذو الحجة / ١٤٢٥
التحميل: 3172
مرات الإستماع: 30332

لا يتمنين أحدكم الموت

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

فعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: لا يتمنينّ أحدكم الموت لضُر أصابه، فإن كان لابدّ فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي[1] متفق عليه.

هذا الحديث أيها الإخوة أورده الإمام النووي -رحمه الله- في باب الصبر، ووجه تعلقه بباب الصبر ظاهر، وذلك أن الإنسان حينما يتمنى الموت بسبب ضر نزل به فإن ذلك يكون على سبيل الجزع، فهو ما استطاع أن يتحمل ويصبر، ولذلك يتمنى الموت، ومن الناس من يعمد إلى وسيلة يجعل حدا فيها لحياته، فيتخلص من ألم الدنيا ونكدها، وينتقل إلى عذاب الآخرة، إلا أن يعفو الله عنه.

وقوله هنا: لا يتمنين أحدكم عبر بالتمني، والتمني إنما يكون للشيء الذي يكون مستحيلا، أو بعيد الوقوع، مثل: أن يتمنى الإنسان حينما يتقدم به السن أن يكون شابًّا.

ألا ليت الشبابَ يعود يوماً فأخبره بما فعلَ المشيبُ

فالإنسان لا يرجع مرة أخرى إلى شبابه بعد أن تجاوزه وفارقه، والشمس لا ترجع إلى الوراء، فهذا يقال له: تمنٍّ، بخلاف الأمر القريب الوقوع يقال له: ترجٍّ، الإنسان يترجى حصوله كأن يقول: أرجو أن أكتسب مائة ريال هذا الأسبوع، أو هذا الشهر، فهذا أمر يسير وهو قريب المنال، ويستطيعه الغني والفقير، لكن حينما يقول الإنسان: أتمنى أن أملك ملياراً وليس عنده شيء ومفلس، فإن هذه تكون أمنية بالنسبة إليه، وهكذا، فالمقصود: أن هذا الإنسان لم يحن أجله، ولا يمكن للإنسان أن يموت إلا إذا جاء الأجل، ولذلك فإن تطلّبه للموت يعتبر من قبيل الأمنية، يتمنى أمراً أو يتطلب أمراً لم يحن وقته، فهو بالنسبة إليه أمنية، ولا يمكن لنفس أن تموت قبل الأجل الذي حدده الله لها.

 لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر أصابه يعني: لشدة جزعه وما يجد فهو يفضل الموت على تلك الحياة، سواء كان هذا الضر مما يتأذى منه ببدنه، كالآلام، والأمراض البدنية، أو كان ذلك مما تتأذى به النفس، كالذي يصيبه الحزن الشديد، أو تنزل به مصيبة، أو يحصل له أمر يكرهه، حيث إنه كان معظَّماً وله مراتب ورتب، ثم بعد ذلك بين غمضة عين وأخرى إذا هو يبعد عن كل شيء، فيحصل له لربما شيء من الاكتئاب، والحزن، والجزع، ونحو ذلك، وقد يكون ذلك بسبب ضغوطات مما يعافس في هذه الحياة، فتصيبه الهموم، والأمراض النفسية، فيتمنى الموت على الحياة، وقد يطلق الزوج زوجته أو يتزوج عليها فتتسخط وتتمنى الموت على الحياة، وهكذا في كثير من الصور التي يجزع أصحابها.

لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه سواء كان ضراً حسياً في بدنه، أو كان شيئاً معنوياً مما يكرهه، فيؤثر عليه، وينغص راحته، ويكدر عيشه، وانظر كيف قيده في هذا الحديث قال: لضر أصابه فإذا عرفنا هذا القيد انحلت عنا إشكالات كثيرة؛ لأن العلماء يختلفون في حكم تمني الموت، فالنبي ﷺ مثلاً خيره الله فاختار الرفيق الأعلى، وأخبر النبي ﷺ أصحابه أن رجلاً خيره الله فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر الصديق، وعرف أن المراد به النبي ﷺ، فهل هذا من تمني الموت؟ الجواب: لا، النبي ﷺ ما تمنى الموت لضر نزل به، إنما خيره ربه -تبارك وتعالى- بين ما عنده وبين البقاء في الحياة الدنيا، فاختار ما عند الله فقط، وإلا فهو أطيب الناس عيشاً ﷺ وأشرحهم صدراً، وأزكاهم نفساً.

وكذلك ورد عن بعض السلف مثل الإمام أحمد -رحمه الله- لما ابتلي وحبس وضرب وأوذي في فتنة خلق القرآن، ثم رفعت الفتنة بعد ذلك، ثم صار يُقرب من الخليفة، وكان الخليفة يتمنى أن يلتقي بالإمام أحمد، وأن يجلس معه، وصار يطلبه من أجل أن يجلس مع ابنه الصغير، ويدعو له؛ رجاء حصول البركة في زعمه، فكان الإمام أحمد حينما كانوا يرسلون إليه الأموال، كان يردها ويأباها ويقول: هذه أشدّ من تلك، يعني: فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، وكان من حوله يقولون: إن هؤلاء لا يقبلون منك ذلك، أي: لا يقبلون أن ترد عليهم عطاياهم، سيفسرونها بتفسيرات أخرى، بأنك لا تحبهم، ولا تريدهم، وما إلى ذلك من التفسيرات، وأنت لا تقصد هذا، أنت تقصد الزهد والتقشف ولا تريد هذه الأمور التي تتبادر إلى أذهانهم دائماً.

فالمقصود أن الإمام أحمد كان في ذلك الحين يقبض يده، ثم بعد ذلك يفتحها، يقول: لو أن نفسي بيدي لأطلقتها، وهذا يدل على أنه كان يتمنى الموت، وورد عن جماعة من السلف أنهم تمنوا الموت فكيف نجمع بين هذا وبين النصوص؟

أولاً: النصوص محكمة في كل حال، لا نوفق بين النصوص وبين أفعال الآخرين، لكن هل هذه الأشياء منهم تعدّ من قبيل المخالفة؟

الجواب: لا؛ لأن الحديث مقيد "لضر نزل به"، معنى ذلك أنه يجزع، أما إذا كان تمني الموت لخوف فتنة، نحو "وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون"، يخاف الفتنة على نفسه في الدين، فإذا وقعت الفتن يتمنى الإنسان أن يخرج من هذه الحياة دون أن يلابسها، ويتلطخ بها، فهذا لا إشكال فيه، وهذا الذي تمناه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى، أي إذا كان ذلك ليس على سبيل الجزع والتسخط، وإلا فقد أخبرنا النبي ﷺ أن خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وأن شر الناس من طال عمره وساء عمله[2]، فالإنسان إذا طال عمره لعله يستعتب ويتوب إن كان مسيئاً، وإن كان محسناً فإنه يزداد إحساناً، تصور حال اثنين: واحد مات وعمره سبع عشرة سنة لربما لم يحج أو حج مرة واحدة، واعتمر مرة واحدة، وحسناته قليلة؛ لقصر العمر، بينما واحد مات وعمره تسعون سنة، حج خمسين حجة، وكل خمسة أيام يختم ختمة، وصام رمضان ثمانين مرة تقريباً، فأيهما يأتي يوم القيامة وقد عبَّأ من الحسنات، لا شك أنه الذي عاش تسعين سنة، فهو غني ثري بالحسنات بينما الآخر ليس عنده منها إلا القليل، ولذلك المؤمن لا يتمنى الموت إذا أصابه مرض، ولا يجزع لسوء ما نزل به.

كفى بك داءً أن ترى الموتَ شافياً وحسبُ المنايا أن يكنّ أمانيا

هناك أكثر من إنسان أمنيته الموت، يوجد أكثر من شاب من أمنيته الموت، حالة سيئة تحل بالناس اليوم.

فهذا لا يكون للمؤمن أيها الإخوان، خلاف ذلك الذي قال:

ألا موتٌ يُباع فأشتريه فهذا العيشُ ما لا خيرَ فيه
ألا رحم المهيمنُ نفْسَ حرِّ تصدقَ بالوفاةِ على أخيه

نسأل الله العافية.

وكما تسمعون الآن عن طرق يسمونها موت الرحمة، يموت الإنسان بطريقة لا يشعر فيها بألم، وهناك جدل يدور حول هذه القضية، وهل هي سائغة أو لا؟ يحدث هذا في البلاد الغربية، هناك من يموت بهذه الطريقة، ويشتري الشيء الذي يموت به بماله؛ من أجل أن يتخلص بطريقة لا يشعر فيها بالألم، ولا يرى فيها الدماء، أو يرى فيها ما يكره أبداً، وهو جالس على سريره يموت كأنه نائم، ولم يعلم ما يفضي إليه، فالمقصود: إذا كان ولابدّ فعلمنا النبي ﷺ كيف نقول، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي وكثيراً ما تظلم الدنيا في عين الإنسان، وتنغلق في وجهه الأبواب، وتنقطع عليه الآمال، في لحظة احتدام النفس، ومعايشة الألم أو المصيبة، فيظن أن ذلك هو نهاية المطاف، فيتمنى أن يموت، بينما يمكن لهذا الإنسان أن يبدأ حياة جديدة لربما تدوم عشرات السنين، ويكون أسرة جديدة إذا كانت مشكلته من أسرته الأولى، ويرزق بأولاد، وكم من إنسان سمعنا به قد تزوج بعد الثمانين، ورزق بذرية قرت بهم عينه، وبدأ حياة جديدة.

الإنسان لا يدري ما هو مستقبله؛ لأن الأحوال تتغير، وإذا نظرت إلى إنسان قد تقدم به العمر وسألته عن أيامه السابقة لقال لك: إنه مر بعدة حالات كان يرى فيها العسر، والتعب، والضنك في العيش، وقلة ذات اليد، وكان يظن أن هذا هو قدره الذي لا يستطيع أن يتجاوزه، ولن يقدَّر له شيء سوى هذا، بينما تغيرت الأحوال، فنظرة الإنسان قاصرة؛ حيث إنه محجوب عن الغيب، لا يدري ما الذي يكون له في مستقبل حياته، فينبغي على الإنسان أن يحسن ظنه بالله، وأن يروض نفسه على الصبر دون أن يتسخط ويجزع، فهذه الحياة مجبولة على الكدر والآلام، إن لم تقع بك المصائب وقعت فيمن تحب، فأنت لابدّ أن تعاين أشياء من الكدر، وكلما طال عمرك كلما زاد كدرك لا شك، روض نفسك على هذا، وأقل ذلك أن ترى أحباءك يموتون الواحد بعد الواحد، وأنت أطولهم عمراً، فإذا أدرك الإنسان هذا المعنى هان عليه ذلك، وخف أثره ووطأته على النفس، أما أن تتمزق النفس بالأحزان، والأتراح، والآلام، ويدعو الإنسان بالويل والثبور فإن هذا لا يجدي عنه شيئاً.

نسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن يعيذنا وإياكم من مضلات الفتن، وأن يهدينا جميعاً لما يحب ويرضى، وأن يرينا ما تقر به أعيننا في ذرارينا ومن نحب، وأن يصلح حال المسلمين، ويغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.

وصلى الله على نبينا محمد.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت (7/ 121) برقم (5671)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به (4/ 2064) برقم (2680).
  2. أخرجه الترمذي،  أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن (4/ 566) برقم (2330)، وأحمد، مسند البصريين، حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة (34/ 58) برقم (20415).

مواد ذات صلة