الثلاثاء 22 / جمادى الآخرة / 1446 - 24 / ديسمبر 2024
حديث «إن الصدق يهدي إلى البر..»
تاريخ النشر: ٢٣ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 65863
مرات الإستماع: 58928

قوله تعالى: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكنا ابتدأنا في الليلة الماضية في باب الصدق من كتاب رياض الصالحين، وبينا المراد بالصدق، وبعض ما يتعلق بقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، وذكر النووي -رحمه الله- آيتين بعدها ثم ساق الأحاديث.

والآية الثانية هي قوله: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ [الأحزاب: 35]، هذه الآية من سورة الأحزاب، وقد ذكر الله فيها أوصاف المؤمنين الذين أعد لهم الأجر والثواب والدرجات العلى، فارتقى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فابتدأ بالمسلمين إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وهو من أسلم بلسانه وظاهره لله -تبارك وتعالى، وانقاد له، وفوق هؤلاء من أذعن باطنه وهم أهل الإيمان، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وفوق هؤلاء من حصلوا صفة القنوت وذلك بالدوام على الطاعة، الثبات على الإيمان، والاستقامة على دين الله ، والاستمرار على العبادة والطاعة لله .

وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ثم ذكر الخاشعين إلى أن ذكر الصادقين، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ، فهم الصادقون بإيمانهم، وهم الصادقون أيضاً بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، هم صادقون في الأمور الأربع.

قوله تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ}

وقال تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [محمد:21]، هذه الآية في المنافقين في سورة محمد ﷺ، فهؤلاء لو صدقوا الله بإيمانهم، وصدقوه في نيتهم وقصدهم وجاهدوا مع رسوله  ﷺ الجهاد الحق الذي أمرهم الله به لكان خيراً لهم في العاجل، وكان خيراً لهم في الآجل، ولكنهم نقضوا ذلك فخالفت ظواهرهم بواطنهم، وخالفت أفعالهم أقوالهم، وخالفت أحوالهم جميعاً وأقوالهم وأعمالهم لما في قلوبهم، فصاروا في غاية التناقض.

إن الصدق يهدي إلى البر
عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا[1].

إن الصدق يهدي إلى البر، بمعنى: أنه يدل عليه، ويقود صاحبه ليوصله إلى البر، والبر كلمة جامعة لكل محابّ الله من الأعمال الصالحة، والأمور المقربة إلى وجهه، فالصدق يهدي إليها، إذا صدق الإنسان في قصده ونيته، وصدق في إيمانه، وصدق في كلامه مع الناس، وصدق في مواعيده، وصدق في كل حالاته فإن هذا الإنسان يكون بلا شك ملتزماً بطاعة الله ، مؤدياً للأمانة، ومؤدياً لكل ما افترضه الله عليه، ويكون محاسباً لنفسه، فلا يأتي أموراً يجعل لنفسه خط رجعة بأنه يكذب ليتخلص من الحرج والتبعة فيها، ولكنه يصدق.

فإذا صدق فإن ذلك يقوده إلى الثبات على الحق في أموره كلها، ولذلك كان الكذب في أصل منشئه في داخل الإنسان إنما هو بسبب ضعف وجبن في هذا الإنسان الذي يكذب، فهو لا يستطيع أن يواجه، وبالتالي فإنه يلجأ إلى الكذب ليتخلص من الإحراج، أما الصادق فإنه لا يأتي إلا إلى كل فعل جميل، وإلى كل قول جميل، وإلى كل خلق جميل، بحيث إنه لا يحتاج إلى أن يعتذر، فهو لا يقصر في حقوق الخلق من والد وولد وقريب وجار وما أشبه ذلك، ثم يلجأ بعد ذلك إلى الكذب ليتخلص من الحرج.

فإذا التزم الصدق قاده ذلك إلى أداء ما افترضه الله عليه، ثم هو لا يفعل القبائح، ولا يدخل في مداخل الرِّيَب؛ لأنه يعد للسؤال جواباً، فهو صادق في كل حالاته، ظاهره كباطنه، قوله يصدق عمله، وبالتالي فإن هذا الإنسان ليس بحاجة إلى الكذب ليتخلص من الحرج.

حينما يُسأل ماذا كنت تفعل في المكان الفلاني؟ أين ذهبت في الساعة الفلانية؟ فالكذاب استمرأ الكذب فالجواب عنده جاهز، يلفق، أما الصادق فإنه لا يفعل ذلك ولا يلجأ إليه.

قال: وإن البر يهدي إلى الجنة العمل الطيب، والعمل الصالح هو الذي يوصل إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله، أي: أنه يكثر من ذلك، ويكون ديدنه وعمله الدائم المستمر حتى يكتب عند الله، أي: يثبت عنده، فيكون محكوماً عليه بالصديقية، ويكتب عند الله صديقاً، والصديق هو من كمل تصديقه، وكثر صدقه في أقواله وأفعاله وأحواله، وكثر تصديقه عن الله ، يصدق الله -تبارك وتعالى- فيما أخبر به، ويصدق نبيه ﷺ، فهذه مرتبة عالية جداً في أهل الإيمان، وبها لقب أبو بكر الصديق ، والله يقول: وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].

فمن كثر صدقه فإنه يكون صديقاً، كما أن من كثر تصديقه لربه ولنبيه ﷺ لما جاء عن الله، فإنه يكون صديقاً، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً.

قوله: وإن الكذب يهدي إلى الفجور، الفجور كل عمل قبيح، كل معصية لله ، يدله الكذب عليه؛ لأنه حينما يكذب صار له أكثر من وجه، وأكثر من حال، وصار ظاهره يخالف باطنه، فهو يتملص من مواقف الحرج، ويدخل في مواطن الريب، بسبب هذا الكذب الذي استمرأه، فيراوغ.

يعطيك من طرف اللسانِ حلاوةً ويروغُ منكَ كما يروغ الثعلبُ

فلا تعرف له وجهاً من قفا، فمثل هذا لا تتصور كيف يرديه هذا الكذب ويلقيه في أودية الهلكة.

وإن الفجور يهدي إلى النار، لأن العمل السيئ هو الذي يدخل النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، يكذب يعني لا يزال يكذب، ويستمر ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، أي: يحكم عليه بذلك، ويوصف به، ولربما أُلقي ذلك في قلوب الخلق؛ لأن الله إذا أبغض عبداً نادى جبريل بأنه يبغضه، فيبغضه أهل السماء، ويجعل له الكراهية في الأرض، كما أن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلاناً، فيحبه، ويحبه أهل السماء، ويجعل له القبول في الأرض[2].

فهذا الإنسان الكذاب لا يؤمن عليه أن يقع في مثل هذا، فالناس إذا رأوه تذكروا الكذب بل أكثر من هذا، إن من أعطاه الله شيئاً من الفراسة فإنه يعرف الكذابين بوجوههم؛ لأنه ما أخفى سريرة إلا أظهرها الله على صفحة وجهه، وفلتات لسانه، فالوجه مرآة لما يكنه الإنسان في داخله، فيظهر عليه أمارات الخير والصلاح والفجور والمعصية، حتى إن الإنسان أحياناً لا يستطيع أن ينظر إلى بعض الوجوه لما يرى فيها من الظلمة، وهذا شيء مشاهد، وأهل الصدق يظهر ذلك في وجوههم، ويظهر في أعمالهم، ويظهر ذلك في أقوالهم، والناس يميزون بين الصادق وبين غير الصادق بمجرد نبرته أو لهجته، فإذا تكلم عرفوا أنه صادق.

وعبد الله بن سلام لما رأى النبي ﷺ في أول مهاجره إلى المدينة، يقول: فما أن رأيت وجهه حتى عرفت أنه ليس بوجه كذاب[3].

فوجوه الكذابين معروفة، ووجوه الصادقين معروفة، فماذا يقول من طبع عليه في الكذب، وحكم عليه عند الله، وصار يعرف بذلك بين الخلائق؟

فهذا أمر في غاية الشناعة، فلذلك أقول: ينبغي للعبد أن يكون متحرياً للصدق في حالاته كلها، وأن يكون الصدق هو ديدنه وشغله، ولو كان مراً، ولو كان فيه كلفة على النفس، وكان ثقيلاً، فإن العاقبة لأهل الصدق دائماً، وأما الكذب فحبله قصير، يمكن للإنسان أن يلبّس على الناس، وأن يتخلص من بعض المواقف الحرجة، لكنهم في النهاية سيعرفون أنه لم يصدق، وتكون الرزية هي عاقبته، هذا في كل شيء.

إذا لم تستطعْ شيئاً فدعْهُ وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ

لا تقل للناس: أنا أستطيع أن أعمل لكم هذا الشيء، وأنا أستطيع أن أخدمكم بهذه الخدمة، يكلفونك بأمور ثم تَنتدب لها، ثم بعد ذلك يتبين أنها وعود فارغة، ثم تغلق الجوال، ثم إذا اتُّصل عليك يقولون: غير موجود، أو  هو مسافر أو نحو ذلك، تعدهم أن تعطيهم الأمانات أو أن تعطيهم أموالهم التي يطالبونك بها بعدما اقترضت منهم أو أحسنوا إليك.

ثم بعد ذلك يتحول صاحب الحق إلى شحاذ، يتصل ويلقى كل إهانة، ويبحث عنك هنا وهناك، ويذهب يمنة ويسرة، ويتصل ولا يجد رداً.

ولو كان الإنسان صادقاً لتكلم بالحق وقال: أنا لا أستطيع القيام بهذا الأمر، لا أستطيع أن أفعل هذا الشيء، لا أستطيع أن أقف هذا الموقف، لا أستطيع أن أقدم لك هذه الخدمة، كنت أتمنى ذلك لكني لا أتمكن، من أجل أن لا يعده ثم يخرج في النهاية كذاباً عند الآخرين، ولا يثق الناس به على شيء، ولو كان يسيراً.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وما يُنهى عن الكذب (5/ 2261)، رقم: (5743)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (4/ 2012)، رقم: (2607).
  2. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (3/ 1175)، رقم: (3037)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده (4/ 2030)، رقم: (2637).
  3. أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 652)، رقم: (2485)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل (1/ 423)، رقم: (1334).

مواد ذات صلة