الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
حديث «اعبدوا الله وحده لا تشركوا به شيئًا..»
تاريخ النشر: ٢٧ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 3025
مرات الإستماع: 10934

يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحديث الثالث في باب الصدق هو:
حديث أبي سفيان صخر بن حرب في حديثه الطويل في قصة هرقل، قال هرقل: فماذا يأمركم - يعني: النبي ﷺ قال أبو سفيان: قلت: يقول: اعبدوا الله وحده لا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة.
ترجمة أبو سفيان بن حرب

أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية، من قريش، بل هو من أوسطهم نسباً -كما هو معلوم، وقد ولد قبل عام الفيل بعشر سنين، وعادى النبي ﷺ كما هو معروف- معاداة شديدة، وهو الذي قاد الحرب في يوم أحد، ثم بعد ذلك في يوم الأحزاب، ثم أسلم بعد ذلك في عام الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، وقد أعطاه النبي ﷺ مائة من الإبل، وأعطاه أربعين أوقية، وذلك في الغنائم التي حصّلها النبي ﷺ بعد غزوة حنين والطائف، وأعطى أيضاً ابنيه يزيد ومعاوية -رضي الله تعالى عنهما.

ثم بعد ذلك صلحت حاله وحسن إسلامه، وفُقئت عينه في يوم الطائف، ثم فقئت عينه الأخرى في يوم اليرموك، ثم أقام بعد ذلك في مدينة رسول الله ﷺ وبقي فيها إلى وفاته، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، وصلى عليه عثمان بن عفان ، هذا أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية راوي هذا الحديث.

قصة أبي سفيان مع هرقل

وخبره في هذا الحديث هو أن النبي ﷺ لما كان في السنة السادسة من الهجرة كتب إلى قيصر، وقيصر لقب على كل مَن ملَكَ الروم، كما يقال: كسرى لكل من ملَكَ الفرس، فكتب النبي ﷺ إلى هرقل ملك الروم، وهو القيصر، كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، كتب إلى ملك الغساسنة، فدفعه إلى هرقل.

فهرقل كان رجلاً له بصر بهذه الأمور، وكان رجلاً يتكهن أيضاً، وكان قد رأى رؤيا فأصبح خبيث النفس في ذلك اليوم، ودعا بعض الكهنة وسألهم، فقالوا: إن نجم ملك العرب قد خرج، أو ملِك الختان، فأمر أن ينظروا فيمن يختتن من الأمم، فقالوا: إنما هم اليهود، وهم في مملكتك، يعني: حفنة قليلة تستطيع أن تقتلهم، وكذلك العرب وهم لا شأن لهم.

حتى إنهم فتشوا في بلاد الشام في ذلك الحين، ونظروا فوجدوا أبا سفيان ومن معه قد قدموا في تجارة من مكة إلى بلاد الشام، فأخذوهم، وهم لا يدرون ما الخبر، حتى أتوا بهم إلى القيصر، وكانوا قد فتشوا عنهم، ونظروا في عورتهم فوجدوهم مختونين، فجيء بهم، فسألهم عن أقربهم إلى رسول الله ﷺ فأخبروه أنه أبو سفيان، فوضعه أمامهم ووقف أصحابه خلفه، من أجل أن يردوا عليه إن كذب، وكانوا يتحرزون من الكذب، فسأله عن عشرة أمور معروفة، مشهورة، وعن حال النبي ﷺ وعن حالهم معه، فأجابه أبو سفيان بواقع الحال، وحقيقة الأمر، ولم يستطع أن يغير خشية أن يؤثر عنه الكذب.

وكان مما سأله عنه أنه قال له: فماذا يأمركم؟ هو يريد أن يعرف هل هو نبي أو أنه رجل يفتري على الله، فماذا يأمركم؟، يعني النبي ﷺ قال أبو سفيان: قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً.

الإنسان يُعرف صدقه وصحة ما جاء به مما يدعو الناس إليه، وإذا أردت أن تعرف حال الإنسان فانظر إلى أي شيء يدعو الناس، وبماذا يخاطبهم، وبماذا يطالبهم؟ فإن كان يطالبهم بالمعروف والصدق والخير والبر فلا يمكن أن يكون هذا ساحراً أو نحو ذلك.

يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، لو قال: اعبدوا الله فإن ذلك يحتمل أن يعبدوا الله وأن يعبدوا غيره معه، وكأن أبا سفيان أتى بهذه الجملة: ولا تشركوا به شيئاً ليحرك نفس هرقل تجاه النبي ﷺ، لأن النصارى -كما هو معروف لاسيما من غَلب على أمرهم- كانوا على الإشراك؛ لأن قسطنطين -كما هو معلوم- لما دخل في النصرانية -أو إن شئت أن تقول: هو ملك الروم، أو إن شئت أن تقول: إنه لما سحب النصرانية وأدخلها في وثنيته- صارت عقيدة التثليث هي العقيدة الرسمية في بلاد الرومان، وصار القلة الذين كانوا على عقيدة التوحيد مستضعفين، مضطهدين في مملكة الرومان، وذلك بعد الاجتماع التاريخي المعروف الذي اجتمع فيه كبارهم، وأقروا فيه قضية التثليث، وأن عيسى ﷺ قد صلب إلى آخره.

فالمقصود أن أبا سفيان جاء بهذه الجملة، من أجل أن يحرك نفس هرقل تجاه النبي ﷺ لأن النصارى كانوا يشركون، فهو لو قال: اعبدوا الله، فسيقول النصارى: نحن نعبد الله.

قال: ولا تشركوا به شيئاً، فهم كانوا يشركون به عيسى ، ويقولون: هو ثالث ثلاثة.

اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، هذه دعوة طيبة، هذا رأس الأمر، وهي أفضل دعوة على الإطلاق.

قال: واتركوا ما يقول آباؤكم، يقصد ما يقول آباؤكم من الباطل والكذب على الله ، والبهتان والزور، وما أشبه ذلك، لكن لربما يكون عبر بهذه العبارة أيضاً من أجل أن يحرك نفسه؛ لأن الناس كثيراً ما يعتزون بآبائهم ويتبعونهم ويفتخرون بمآثرهم وما أشبه ذلك، كما قال الله : وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [الأعراف:28]، وسكت على القضية الثانية التي هي وجدنا عليها آباءنا، فدل على أنها صحيحة، وجدوا آباءهم على الفواحش، وكذلك هنا قال: اتركوا ما يقول آباؤكم، فآباؤهم كانوا يقولون بالإشراك، وبالبهتان على الله .

قال: ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة، متفق عليه.

الشاهد من الحديث هو الصدق، فالنبي ﷺ كان يأمرهم بالصدق، وقد يسأل البعض ويقول: الصدق لا ينكره أحد، تتفق جميع الأمم على حسن الصدق وأنه مطلوب، فكيف قال: يأمرنا بالصدق؟

ولهذا فإن بعض الروايات في صحيح البخاري: "يأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف"[1] فجاء بالصدقة بدلا من الصدق، وهي أمر يشق على نفوسهم.

ولهذا أخرجه البخاري في بعض المواضع في الزكاة بهذا اللفظ –الصدقة، أن النبي ﷺ كان يأمرهم بالصدقة، ولكن على كل حال جاء في بعض الروايات بهذا وهذا معاً، أنه يأمرهم بالصدقة والصدق، ولا مانع أن يذكر هذه القضية المتفق على أنها أمر طيب ومطلوب.

قوله: والعفاف والصلة، الصلة أمر متفق عليه بينهم وبينه ﷺ، وهو أمر يقرون به وبحسنه وبفضله، وأنه أمر يُثنَى على الإنسان فيه، ولذلك قالت خديجة -رضي الله تعالى عنها- أول ما جاء النبي ﷺ بعدما نزل عليه الوحي فجاءها وهو ترعُد فرائصه: كلا والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم وتكسب المعدوم وتقري الضيف[2]، فذكرت الصلة.

وهنا ذكر العفاف، والعفاف يشمل ما يتعلق بالعفاف من ناحية الأموال، والعفاف عما في أيدي الناس، والعفاف بحفظ الفرج عن مواقعة ومقارفة ما لا يليق، إلى غير ذلك.

قوله: ويأمرنا الصلاة والصدق والعفاف والصلة، وهذه الأمور التي يأمر بها النبي ﷺ هي ما يسميه العلماء -رحمهم الله- بدلائل النبوة، وذلك أن هرقل لم يسأل عن المعجزة، لكن سألهم عن حاله ﷺ، وسألهم عن الأشياء التي يقولها ويدعو الناس إليها، فذكروا له هذه الأمور، فعرف بها نبوته ﷺ حتى إنه قال لهم: إن كان كما قلتم فسيملك ما تحت قدمي هاتين، ولو أستطيع أن أخلص إليه لأتيته ولغسلت عن قدميه، وجمع قومه وكبراء مملكته في دَسْكَرة وأغلق الأبواب، ثم عرض عليهم دعوة النبي ﷺ والإيمان به، فنفروا نفرة عظيمة، واتجهوا إلى الأبواب فوجدوها مغلقة، ثم قال: إنما أردت أن أختبركم، وأختبر ثباتكم على دينكم، فسجدوا له.

دلائل النبوة

فقد عرف صدق ما جاء به النبي ﷺ من خلال ما يدعو إليه النبي ﷺ ويأمر به، هذه دلائل، لكنه شح بملكه.

ولما رأى عبد الله بن سلام النبي ﷺ حينما قدم إلى المدينة قال: فنظرت إلى وجهه فعرفت أنه ليس بوجه كذاب[1].

فدلائل النبوة تعرف من الوجه، فوجوه الظلمة وجوه مسودة، لا تستطيع أن تنظر إليها، ويعرف بصدق الإنسان كما قالت خديجة: كلا، والله لا يخزيك الله، وذكرت حال النبي ﷺ، ويعرف بأعماله، يدعى بالأمين قبل النبوة ﷺ.

هذه العلامات هي التي تسمى بدلائل النبوة، وهي قسمان:

  • قسم من قبيل المعجزات، مثل انشقاق القمر للنبي  ﷺ، ونبع الماء من بين أصابعه ﷺ، وتكثير الطعام، وتسليم الحجر، قال ﷺ: إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ بمكة قبل أن أبعث[2]، وكذلك انقياد بعض المخلوقات وبعض الجمادات له -صلى الله عليه وسلم، فهذه معجزات.
  • القسم الثاني: ليست من قبيل المعجزات، لكنها دلائل وآيات تدل على صدق نبوته ﷺ.

هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 652)، رقم: (2485)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل (1/ 423)، رقم: (1334).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (4/ 1782)، رقم: (2277).

مواد ذات صلة