الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب (1-2)
تاريخ النشر: ٢١ / جمادى الأولى / ١٤٢٦
التحميل: 2617
مرات الإستماع: 2585

قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكنا في الأسبوع الماضي قد ابتدأنا الكلام على باب اليقين والتوكل، وبينا المراد باليقين، والمراد بالتوكل، ووجه الملازمة بين البابين.

ثم ذكر الإمام النووي -رحمه الله- على عادته بعض الآيات التي صدر بها هذا الموضوع، فمن ذلك قول الله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]، فهؤلاء من أهل الإيمان لما تم توكلهم، وكمل لهم من اليقين كانوا بهذه المنزلة من الثقة بوعد الله -تبارك وتعالى- لهم بالنصر، مع أنهم لم يروا شيئاً من بوادره وأماراته، وإنما رأوا عدواً قد أحاط بالمدينة من كل جانب، كما أنهم رأوا نقضاً من اليهود، ورأوا أيضاً بوادر الخيانة من المنافقين، مع تضعضعٍ من ضعفاء الإيمان وتراجع.

فهؤلاء من المؤمنين حينما رأوا هذه الأمور وهي لربما تنبئ لأول وهلة، أو لربما يستشف منها من يأخذ بظواهر الأمور أن الهزيمة محققة، ولهذا قال المنافقون: مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب:12].

كان النبي ﷺ قد وعدهم في أثناء حفر الخندق بفتح الممالك العظيمة، من قصور الشام وفارس، واليمن، وهي أعظم الممالك آنذاك، فكان المنافقون يقولون: الواحد منا لا يأمن على نفسه إذا خرج لقضاء حاجته، فكيف يعدنا بقصور كسرى وقيصر؟!

فقص الله خبرهم، وذكر مقالتهم التي تدل على سوء ظنهم بالله -جل جلاله، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ۝ وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [الأحزاب: 12-13]، يعني: لماذا ترابطون على الخندق؟، لا مقام لكم فارجعوا، فهؤلاء ملأ الخوف قلوبهم.

أما أهل الإيمان فقالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22]، والمقصود بذلك: أن الله وعدهم بالابتلاء الذي تكون عاقبته النصر، فإذا كانت هذه مقالة أهل الإيمان في أحلك الظروف والأحوال، وفي الشدائد، والأمور الصعاب، فكيف يكون يقينهم في حال الاستقرار والنعمة والعافية؟!

فأقول: هذا أمر لا يحصل للإنسان إلا إذا كمل إيمانه، وطرد عن قلبه جميع الأمور التي من شأنها أن تضعف الإيمان، ولم يعلق ذلك القلب بأحد من المخلوقين، فلا يرجوهم، ولا يخافهم، ولا يتوكل عليهم، فيكون ما يراه من الشدائد والبلايا سبباً لزيادة إيمانه وكمال يقينه، عكس المتضعضع كلما ابتلي ببلية كلما انكسر وانفت عضده، وتراجع إلى الوراء، حتى ينتكس.

قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ...}

وقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، هؤلاء بعد أُحُد، وبعد ما أصابهم من الهزيمة، والألم والجراح، وخرج المشركون وفي طريقهم إلى مكة ندموا أنهم لم يستأصلوا المسلمين، والتقى أبو سفيان بنعيم بن مسعود وهو متوجه إلى المدينة، وأعطاه حمل بعير من طعام إذا هو بلّغ ذلك الخبر عن أبي سفيان إلى المسلمين، فلقي ذلك الرجل أبا بكر الصديق ، فقال: إن الناس قد جمعوا لكم -يقصد أبا سفيان، جمعوا لكم، وأعدوا العدة من أجل الكرة، والرجوع إلى المدينة لاستئصالكم، والمسلمون فيهم ما فيهم من التعب والإصابات، فقال أبو بكر الصديق : حسبنا الله -أي: كافينا الله- ونعم الوكيل، هو نعم الملجأ الذي يُركن إلى جنابه، هو حسبنا، هو كافينا.

فالله هو الذي يكفي عبده ويقيه كل المخاوف؛ لأن أزمّة الأمور بيده، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]، على القول الراجح في تفسير هذه الآية: حسبك الله أي: كافيك الله، وهو كافٍ من اتبعك من المؤمنين، وليس المعنى: حسبك الله، وحسبك من اتبعك من المؤمنين، التأييد يكون بالمؤمنين هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:62]، وأما في الكفاية والحسب فالله وحده، حسبك الله، ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله: أي كافيهم، وليس معنى ذلك أن الله يكفيك وأن المؤمنين يكفونك، فالكفاية ممن يملك الكفاية وهو الواحد الأحد .

إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران: 160]، وبناء على ذلك يوحّد المؤمن الوجهة، ويوجه قلبه إلى بارئه وفاطره، فينتظر منه المدد والعون والنصرة، وأن يقويه، وما أشبه ذلك مما يفتقر إليه العبد، وكلما صوب نظره إلى المخلوقين، وانصرف عن الخالق كلما كان ذلك من خذلانه، فيحصل له عكس مقصوده ومطلوبه.

فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فكانت النتيجة: فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174]، ثم قال بعدها: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ [آل عمران:175]، فالأرجح في معناها والأشهر من أقوال أهل العلم: أي: يخوفكم من أوليائه، ويعظمهم ويضخمهم، ويجعل لهم هالة وسمعة كبيرة جداً يتقاصر دونها كثير من الخلق من الضعفاء ممن لا يعرفون الله، فيرون أنهم ذر بالنسبة لهؤلاء المخلوقين الذين يملكون القوى العظيمة.

هذا كلام رب العالمين، من يعلم السر وأخفى، فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]،   لا تخشوهم، ولا تلتفتوا إليهم، فليكن خوفكم مني، فأنا الذي أملك نصركم وهزيمتهم.

والحديث له بقية، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة