الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة..»
تاريخ النشر: ١٨ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 2614
مرات الإستماع: 32626

الإيمان بِضع وسبعون أو بضع وستون شعبة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث التاسع في هذا الباب الذي عقده الإمام النووي -رحمه الله- في بيان كثرة طرق الخير، وهو حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: الإيمان بِضع وسبعون أو بضع وستون شعبة...[1].

الإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل، يصدق على قول القلب، وعلى عمل القلب، ويصدق على قول اللسان، ويصدق أيضاً على عمل اللسان، وعمل الجوارح، قول وعمل، فالاعتقاد والانقياد والإقرار والتصديق كل هذا من الإيمان، فهذا قول القلب وتصديقه وانقياده وإقراره، وكذلك يدخل فيه عمل القلب كالتوكل والخوف والرجاء والمحبة وما أشبه ذلك، ويدخل فيه قول اللسان، وهو قول لا إله إلا الله، ويدخل فيه عمل اللسان أيضاً كالذكر والتسبيح والقراءة، كما يدخل فيه سائر أعمال الجوارح كالصلاة والحج والصدقة ونحو هذا على توسع في الإطلاق، وإلا فالصدقات هي من العبادات المالية، وبعضهم يقسم العبادات إلى مالية وبدنية.

فالأعمال منقسمة على القلب واللسان والجوارح، فهذا كله يقال له: إيمان، فالإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، فيدخل فيه قول لا إله إلا الله وهو أعلاها الذي هو مفتاح الجنة، وهو أول واجب على المكلف، وهي الكلمة التي لا يُقبل من أحد عملٌ إلا إذا جاء بها: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله[2]فهي مبدأ الدخول في الإسلام، وهي آخر ما يخرج به من الدنيا، من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة[3]، فهي مفتاح الجنة، ومفتاح السعادة، وهي أصل قبول الأعمال.

الإيمان بضع وسبعون، الصلاة إيمان كما قال الله : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة:143]، يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، لما حُولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة سألوا عن صلاتهم في السابق، وشغب عليهم اليهود وأثاروا الشبهات وسألوا عن صلاة إخوانهم الذين ماتوا قبل تحويل القبلة حينما كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله : وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي: هذه الصلاة صلاتكم إلى بيت المقدس، فالصلاة إيمان، والذكر إيمان، والصدقة إيمان، والصيام إيمان، والوضوء إيمان، والغسل من الجنابة إيمان، ولهذا لما ذكر الله كفارة الظهار في سورة المجادلة قال الله بعد أن ذكر الخصال الثلاث عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً، قال: ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [المجادلة:4]، ما علاقة الإيمان بالله ورسوله بذكر خصال الكفارة في الظهار؟.

لعل أحسن ما يقال في هذا -والله تعالى أعلم: إن التوقف عن وطء الزوجة من قبل أن تمسوهن إيمان، والتصديق بهذا الحكم والانقياد إيمان، وإخراج الكفارة إيمان، فلا يقربها حتى يكفّر، ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.

فإذا عرفنا هذا نعرف الأصل الكبير عند أهل السنة، وهو أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإذا ازددت من طاعة الله زاد إيمانك، وإذا أكثرت من المعاصي نقص من الإيمان بحسب ذلك، فأهل الإيمان يتفاوتون فيه غاية التفاوت، ينبني عليه تفاوتهم في المنزلة عند الله ، وتحقيق درجات العبودية، وتفاوتهم في الآخرة، قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات [المجادلة:11].

يقول: الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، هذه الرواية على الشك، وفي بعض الروايات بالجزم: بضع وسبعون شعبة، فمن أهل العلم من يقول: نأخذ بالمتيقن وهو رواية الجزم "بضع وسبعون"، وبعضهم يقول: المتيقن هو الأقل "بضع وستون"، و"بضع وسبعون" محتمل، قد يكون هذا شكًّا من الراوي، بل هو شك من الراوي.

وبعضهم يقول: لا، نأخذ الأعلى؛ لأن هذا ثقة قد روى هذه الرواية فنقبل ذلك، فنقول: الإيمان بضع وسبعون شعبة.

والبِضع المشهور أنه من الثلاثة إلى العشرة، ومعنى بضع وستون أو بضع وسبعون يعني قد يكون ثلاثًا وستين شعبة، ثلاثًا وسبعين، أربعًا وسبعين، خمسًا وسبعين، ستًّا وسبعين إلى التسع.

ومن أهل العلم من يقول: من الواحد إلى الأربعة، ومنهم من يقول: من الاثنين فما فوق إلى العشرة، يعني ما دون العشرة، ومنهم من يقول: من الأربعة إلى التسعة، ومنهم من يقول: من الخمسة، ومنهم من يقول بغير ذلك، والمشهور أنه من الثلاثة إلى التسعة.

والشعبة هي: القطعة من الشيء، والطائفة منه والجزء، يعني: أن الإيمان أجزاء وأبعاض وأعمال متنوعة، أعلاها شهادة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، كما قال النبي ﷺ: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير[4]، فهذه أفضل كلمة قيلت على الإطلاق، هي كلمة التوحيد، أعدل كلمة قيلت على الإطلاق كلمة التوحيد.

قوله: وأدناها... يعني: أن أقل هذه الشعب: إماطة الأذى عن الطريق.

لماذا قال: "وأدناها إماطة الأذى من الطريق"؟ لماذا صارت أدناها؟ من أهل العلم من يقول: أدناها إماطة الأذى من الطريق بمعنى: أن ذلك يُتصور فيه أقل الضرر، كما سبق في الروايات التي ذكرناها من قبل في إزالة العظم -الشوكة- من الطريق، كل هذا من الحسنات، فقالوا: هذا أقل ما يتصور من العمل الذي يقوم به الإنسان، من الضرر والأذى الذي يدفعه ويزيله.

قوله: والحياء شعبة من الإيمان، الحياء خصلة حميدة تحمل صاحبها على فعل ما يزين، وتحجبه من فعل ما لا يليق، تحمله على مكارم الأخلاق، وعلى محاسن الأمور، وتصرفه عن مساوئها، هذا هو الحياء.

من أهل العلم من يقول: إن النبي ﷺ ذكره هنا لأنه وسطٌ في شعب الإيمان، ذكر الأعلى، وذكر الأدنى، وأفعال الإيمان هي إما أشياء يفعلها الإنسان، فالحياء يدفع الإنسان إلى فعل ما يحسن ويصرفه عما لا يجمل، قالوا: هذا في الوسط بين الأشياء التي تُفعل والأشياء التي تترك، يدفعه لهذا ويصرفه عن هذا، فيكون قد ذكر الأعلى، والأدنى، والوسط، هكذا قال بعض أهل العلم.

أقول العلماء في شعب الإيمان

ومن العلماء من حاول أن يعدد شعب الإيمان ومنهم البيضاوي وابن حبان حتى إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- قال: أحسن من ذكر عدها ابن حبان، فابن حبان أوصلها إلى تسع وسبعين شعبة،، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- حاول أن يعددها فقسمها على القلب واللسان والجوارح، فقسمها إلى سبع، وأربع وعشرين، وثمان وثلاثين، فأوصلها إلى تسع وستين شعبة، قال: وإذا فرقنا بين بعض الأمور التي دمجناها -هو دمجَ بعض الأشياء في بعض، جعلها خصلة واحدة- فإنها تصل إلى تسع وسبعين شعبة، يكون موافقًا لابن حبان، وكل هذا ما خرج عن قول النبي ﷺ: الإيمان بضع وسبعون شعبة، فحاول ابن حبان والحافظ ابن حجر أن يتتبعا ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل الأعمال ومن شعب الإيمان، كل عمل أمر الله به ورسوله ﷺ، ابتداء من قول لا إله إلا الله، فذكرا الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وذكروا أموراً أخرى من الإخلاص وما أشبه ذلك، وهكذا ما يتعلق باللسان، صدق الحديث، والكلمة الطيبة، والذكر وقراءة القرآن وهكذا، وهكذا أعمال الجوارح كإكرام الجار، وإكرام الضيف، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والصدقات، والصيام، والصلاة وهلم جرا، هذا وأكثر شعب الإيمان ترجع إلى أعمال الجوارح، وكل ما يمكن أن يقال عنه: إنه أمر الله به ورسوله ﷺ فهو داخل في شعب الإيمان.

ولذلك تجدون أن من أهل العلم من جمعها في كتاب أو في رسالة، والحافظ البيهقي -رحمه الله- شرح شعب الإيمان "الجامع لشعب الإيمان" وهو كتاب عظيم جداً، استوعب فيه كثيراً من الشعب زادت على السبعين، وأصل ذلك للحَليمي له كتاب اسمه "المنهاج في شعب الإيمان"، وهذا "المنهاج" بنى عليه البيهقي -رحمه الله- كتابه في الشعب، وزاد عليه زيادة عظيمة من الآثار والأخبار والأحاديث في كل باب من الأبواب، إذا أتيت تقرأ مثلاً من شعب الإيمان: الإيمان بالقرآن مثلاً يتكلم عن كل ما يتعلق بالقرآن بنحو حوالي مائتي صفحة على أبواب: قراءة القرآن، الأدب مع القرآن، أن القرآن كلام الله منزل يجب أن نؤمن بهذا وما إلى ذلك، إذا جاء يتكلم مثلاً عن التوكل على الله يتكلم بكلام طويل ويورد الآثار وأقوال السلف في هذا، وأمور ترغّب في التوكل.

فالمقصود أن هذه خلاصة في معنى هذا الحديث، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 

مواد ذات صلة