الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «مروه فليتكلم وليستظل..»
تاريخ النشر: ١٧ / ذو الحجة / ١٤٢٦
التحميل: 1973
مرات الإستماع: 5113

مروه فليتكلم وليستظل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بينما النبي ﷺ يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل -هذه كنيته واسمه يُسيْر وهو رجل من الأنصار، نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي ﷺ: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه[1]، رواه البخاري.

هذا الحديث من جملة الأحاديث التي أوردها المصنف -رحمه الله- في هذا الباب الذي يذكر فيه الاقتصاد في الطاعة، ونبذ الغلو والتشديد على النفس بما لم يأذن به الله -تبارك وتعالى، فالصوم قربة، ولكن الإنسان إذا تابع الصوم فصام الدهر، فإن ذلك يكون مذموماً؛ لأنه يحمل نفسه على لون من المشقات ربما يفضي به إلى كراهية العبادة والزهد فيها، وقد ذكرنا قبلُ أن من مقاصد الشريعة الاستمرار على الطاعة، مع أن الصوم محبوب لله ، ولهذا ذكر النبي ﷺ كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- السابق ذكر له ﷺ آخر ما ذكر أن يصوم يوماً وأن يفطر يوماً، وذكر أن أفضل الصيام هو صيام داود ﷺ[2].

هنا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، والقيام في الشمس ليس بقربة، لا يتقرب به إلى الله لا في قليل، ولا في كثير اللهم إلا إن كان الرجل حاجًّا فإنه يحسن أن يَضْحَى لمن أحرم له -أن يكون ضاحياً لمن أحرم له، كما جاء في بعض الآثار، فمثل هذا كما يكون في حال الحاج أن يكون ضاحياً، أشعث أغبر، لكنه لا يتطلب ذلك على وجه الاستقلال ليقف الإنسان في الشمس تقرباً إلى الله ، فهذا غير مطلوب، بالنسبة للحاج أن يكون ضاحياً قد يُطلب ذلك، وأما كونه يكون أشعث أغبر فإن هذا يحصل تبعاً، لكنه لا يعفر رأسه بالتراب، أو بالغبار من أجل أن يكون أشعث.

فالوقوف في الشمس غير مطلوب شرعاً، الإنسان نذر أن يصوم، وأن يقف في الشمس هذا يُرَدُّ عليه، لا يفي به، قال: ولا يقعد، كذلك القيام إنما يطلب في الصلاة، أما أن يقف الإنسان هكذا على سبيل التعبد فلا، إلا على ما ذكره بعض أهل العلم من أنه يحسن القيام بعرفة، أن يقوم على قدميه، وهذا عند من قال بذلك، والأقرب أنه بحسب حاله، إن كان يجد قلبه في حال الركوب ركب، وإن كان يجده في حال الجلوس جلس، وإن كان يجده في حال القيام قام، فيتفاوت ويختلف باختلاف الناس، أما أن ينذر الإنسان أن يقف ولا يجلس، فهذا لا معنى له شرعاً، ولا يستظل: الوقوف في الشمس، لا يضع فوق رأسه شيئاً يظلله من الشمس.

قال: ولا يتكلم، وهذا أيضاً من البدع؛ لأن ترك الكلام ليس مطلوباً في شريعتنا، إنما نهينا عن الكلام في حال الصلاة، وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238]، أمّا ما عدا ذلك أن ينذر الإنسان ألا يتكلم يومه، أو نحو هذا فإن ذلك غير مشروع، سواء كان ذلك في الصيام، أو كان ذلك في الحج، أو كان استقلالاً.

يقول الإنسان: نذرت اليوم أن لا أتكلم، فإن هذا يرد عليه، فلا يتقرب إلى الله بترك الكلام مطلقاً، بل حتى على الطعام، فقد اشتهر عند الكثيرين أن من الأدب ترك الكلام على الطعام، وهذا غير صحيح، فإن ذلك من عادة اليهود، أنهم لا يتكلمون على الطعام، أما نحن فنتكلم على الطعام، لكن مع مراعاة الأدب اللائق فيما يقال مما لا ينفر الناس من طعامهم، أو حينما يكون في فم الإنسان لقمة فإنه لا يتكلم؛ حتى لا يخرج شيء مما في فمه، ولكنه يتكلم على الطعام، ولا إشكال في هذا، قال: ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي ﷺ: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، هذه الأمور الثلاثة: الكلام، والاستظلال، والقعود نفاها، وأما الصوم، فقال: وليتم صومه رواه البخاري. 

فالصيام عبادة مشروعة مطلوبة، فإذا نذر أن يصوم وجب عليه أن يصوم، وأما هذه الزوائد فليس لها معنى شرعاً، وبناء عليه لم يأمره النبي ﷺ بالكفارة جبراً لهذه الثلاثة التي ما نفذها، وإنما يطالب بالصيام.

وهذا يسأل عنه الناس كثيراً، كثير من العامة لربما ينذر نذراً يُلحق بنفسه لوناً من المشقات لم يطلبها منه الشارع، كالذي يقول: إنه نذر أن يتصدق بحمل بعير من الأرز، أو بكيس من الأرز، وأن يضعه على ناقة على جانبيها في حملين، وأن يذهب به مارًّا بالسوق ثم يتصدق به، فلربما نذرت المرأة الكبيرة في السن قبل سبعين سنة هذا النذر ولا زال يحيك في قلبها من الذي يأتيها ببعير ويوضع عليه هذا الحمل من الرز، ثم يمر به من السوق، ويأنف أبناؤها أو يستحون أن يفعلوا هذا الفعل، فيقال: هذا لا يطلب أصلاً، وإنما غاية ما هنالك أنه يتصدق بهذا المقدار وفاء بهذا النذر فقط، يُخرج ذلك وفاء بالنذر، وما عداه أن يوضع على بعير، وما أشبه ذلك، أو أنه يحمل ذلك على كتفه ولا يركب، ولا يحمله على سيارة فهذا كله لا معنى له، فليس من شرعنا أن يطلب الإنسان المشقة، وأن يبحث عنها

ليس من شرعنا أن يطلب الإنسان المشقة، وأن يبحث عنها، نعم جاء في بعض الروايات قول النبي ﷺ لعائشة -رضي الله عنها: إن أجرك على قدر مشقتك[3].

لكن هذا فيما يحصل للإنسان، ويعرض له من غير قصد، وإلا فالنبي ﷺ: "ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً"[4].

فإذا كان الإنسان له طريقان إلى المسجد -مثلاً، أو طريقان إلى بيت الله الحرام، فهل يطالب أن يسلك الطريق الوعر، والصعب، والشديد، والشاق، والطويل، ويترك الطريق السهل الممهد؟.

الجواب: لا، فهذا على خلاف هدي النبي ﷺ، وقل مثل ذلك في أمور كثيرة جدًّا مما يعانيه الإنسان في تعبداته، وتقربه إلى الله ، وهذا من يسر الشريعة، ومن سهولتها.

وهذا آخر حديث في باب الاقتصاد في الطاعة.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يغفر لنا ولوالدينا ويتقبل منا ومنكم.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية (8/ 143)، رقم: (6704).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب صوم الدهر (3/ 40)، رقم: (1976)، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به أو فوّت به حقا أو لم يفطر العيدين والتشريق، وبيان تفضيل صوم يوم، وإفطار يوم (2/ 812)، رقم: (1159).
  3. قالت عائشة -رضي الله عنها: يا رسول الله، يَصْدر الناس بنسكين، وأصْدر بنسك؟ فقيل لها: انتظري، فإذا طهرتِ، فاخرجي إلى التنعيم، فأهلّي ثم ائتينا بمكان كذا، ولكنها على قدر نفقتك أو نصَبك. أخرجه البخاري،كتاب الحج، باب أجر العمرة على قدر النصَب (3/ 5)، رقم: (1787)، ومسلم، كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وجواز إدخال الحج على العمرة، ومتى يحل القارن من نسكه (2/ 876)، رقم: (1211).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله (8/ 160)، رقم: (6786)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب مباعدته ﷺ للآثام واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته (4/ 1813)، رقم: (2327).

مواد ذات صلة