الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب (1-3)
تاريخ النشر: ٢٠ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 1937
مرات الإستماع: 2112

قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي صدر باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكر المؤلف -رحمه الله- جملة من الآيات على عادته، ومن ذلك قوله -تبارك وتعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104 واللام هنا لام الأمر، وما أمر الله به فالأصل فيه الوجوب، وهذا مما يستدل به على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ، و"مِن" هذه يحتمل أن تكون للتبعيض، أي: لتكن منكم طائفة تقوم بهذه الفريضة، وعلى هذا المعنى يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ويحتمل أن تكون "مِن" هنا بيانية، "ولتكن منكم" أي: ينبغي أن تكونوا، كما يقول الإنسان لأولاده: أريد منكم أبناء بررة، يعني أن تكونوا كذلك، ولا يعني أنه يريد أن يكون بعضهم من البارين به، وكما يقول الإنسان مثلاً لمن تحت يده: أريد منكم عاملين بإخلاص، أي: ليس المقصود أريد من بعضكم أن يعمل بإخلاص، وإنما أريد منكم أن تتحولوا وأن تصيروا بهذه الصفة، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ، أي: نريد منكم أن تكونوا بهذه الصفة، من القيام بهذه الفريضة، وأن تقوم الأمة بهذا الواجب، وهذا هو المعنى الثاني، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول، أن "مِن" للتبعيض، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ أي: ولتكن منكم طائفة يقومون بهذا الواجب، فإذا وجد ذلك وتحقق سقط الإثم عن الباقين، فإن لم يتحقق ذلك -أو تحصل الكفاية- فإن التبعة والإثم لا ينفك منه أحد من المستطيعين، كل مستطيع فإنه يلزمه أن يغير وأن ينكر إن لم يحصل المقصود بالطائفة التي تأمر وتنهى، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، والأمة هنا بمعنى الطائفة أو الجماعة، وعلى المعنى الآخر وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ أي: جميع الأمة يدعون إلى الخير، وهذا عام لكل ما يحبه الله ويرضاه، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ والمعروف الذي يأمرون به يدخل فيه هذا الخير، ويدخل فيه أيضاً ما يتعلق ببعض الأمور التي لا يتعلق بها التحريم أو الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة، وإنما يكون ذلك من قبيل حفظ المروءات، أو عدم مخالفة العرف، بحيث لا يفضي بالإنسان إلى أن يكون بمثابة من يلبس مثلاً ثوب شهرة، أو نحو ذلك، فيدعون إلى الخير، وإلى طاعة الله ومحابِّه، ويأمرون بالمعروف: كل ما عُرف من طاعة الله وما تدعو إليه الفطر، وما يقره أصحاب العقول السليمة، فكل ذلك داخل في المعروف، وينهون عن المنكر: والمنكر كل ما نهى الله عنه فهو منكر، كل ما نابذ الفطر وخالفها فهو من المنكر، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، "أولئك" الإشارة إلى هؤلاء بالبعيد ربما لرفعة شأنهم وعلو مرتبتهم، ورفيع مكانتهم، وكأن هذا الأسلوب يشبه الحصر؛ لأنه جاء بـ"هم" بين طرفي الكلام لتقوية المعنى، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كأنه لا مفلح سوى هؤلاء، والفلاح: كلمة جامعة لا يقوم غيرها من الألفاظ في لغة العرب مقامها، وتعني: الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب، فمن قام بهذه الفريضة حصل له الفلاح في الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم الذين ينجيهم الله من الكروب في الدنيا والآخرة، ويحفظ بهم المجتمع من أن تنزل عليه العقوبات العامة.

قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...}

وقال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران:110]، وهنا ذكر الله الأوصاف التي أهلتهم للخيرية، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، وإنما "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، وهذه الصفة الأولى، "وتؤمنون بالله"، وهذه الصفة الثانية.

 ولما ذكر الله أوصاف الطائفة التي أثنى عليها من أهل الكتاب قال:  ولما ذكر الله أوصاف الطائفة التي أثنى عليها من أهل الكتاب قال: لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]، ثم قال: يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:114]، فذكر الإيمان أولاً ثم ذكر بعده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهل العلم من يقول: إن السبب في أن الله قدم في صفة هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص صفات هذه الأمة التي تميزها عن غيرها، فإذا تركوه فإنهم يكونوا قد ضيعوا ما ميزهم وفرقهم عن غيرهم من سائر الأمم، ثم ذكر الإيمان بعده؛ قالوا: لأن الإيمان يشترك فيه المسلمون ومن سبقهم من أتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام-.

قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}

وقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] أمر بثلاثة أشياء، وهذه من أجمع الآيات في القرآن، وقد سئل بعض السلف ما أجمع ما قيل في المروءة؟ فقال: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، خُذِ الْعَفْوَ، قال بعضهم: أي: ما عفا من أموال الناس، بمعنى الزائد على قدر حوائجهم وما أشبه ذلك، والصحيح أنها تفسر بأن خُذِ الْعَفْوَ أي: من أخلاق الناس، ولا تستقصِ؛ لأنك إذا استقصيت أفضيت بهم إلى لون مما يخرجهم عن طورهم، ويودي بهم إلى لون من الهبوط في أخلاقهم، وقوله: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالمعروف، وهو: كل ما عرف من طاعة الله ، وقوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ لأن الإنسان الذي يأمر بالعرف لابد أن يجد من السفهاء ما يحتاج معه إلى صبر وإعراض، وإلا فإنه إن وقف مع كل سفيه تحول أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر إلى لون من المخاصمات، والمهاترات فينزل بأخلاقه إلى أخلاق هؤلاء، ويكون مدانياً لهم ومساوياً لهم وقِرناً لهم، فيهبط معهم ويطاولهم السباب بالسباب والشتائم وما لا يليق من القول القبيح، وإنما يعرض عن هؤلاء، فيكون بذلك مكملاً لنفسه، ومترفعاً عن جميع الدنايا.

أسال الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يصلح أعمالنا وأحوالنا وأحوال المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة