الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
بعض ما ورد عن السلف في باب قضاء حوائج المسلمين (2-3)
تاريخ النشر: ١٤ / رجب / ١٤٢٧
التحميل: 1721
مرات الإستماع: 2422

الحمد لله، والصلاة و السلام على رسول الله، أما بعد:

فمما ورد عن السلف في باب قضاء حوائج المسلمين ما جاء عن الشعبي -رحمه الله، الإمام الحافظ الكبير وهو وعاء من أوعية العلم، يقول: ما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلا وقضيت عنه، ولا ضربت مملوكاً لي قط،ومن باب أولى أن لا يكون قد ضرب زوجة أو خادماً، ولا حللت حبوتي إلى شيء مما ينظر الناس، وهذا يدل على كمال التعفف والتنزه، أي: أنه ليس بصاحب طمع، كلما لاح له طمع، تحول إليه، ونهض إليه، وامتدت نفسه، و استشرفت كما يفعل بعض الناس، يقضي ديون الأقارب ولا يضرب مملوكاً، ولا حللت حبوتي إلى شيء مما ينظر الناس.

وجاء عن عمرو بن دينار أنه قال: دخل علي بن الحسين زين العابدين، على محمد بن أسامة بن زيد، فجعل محمد يبكي فقال: ما شأنك، قال: علي دين، قال: وكم هو؟، قال: بضعة عشر ألف دينار، قال: فهي علي، ودخل دخل عطاء بن أبي رباح -رحمه الله- على عبد الملك بن مروان وهو جالس وحوله الأشراف، وذلك بمكة، في وقت حجه في خلافته، فلما بصر به عبد الملك، قام إليه وسلم عليه وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال: يا أبا محمد، حاجتك، أي: سل حاجتك، قال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، يعني أصحاب الحوائج، فقال: أفعل، ثم نهض وقام فقبض عليه عبد الملك، وقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها فما حاجتك، قال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج، فقال: عبد الملك هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد، أي: أنه كان يسعى في حوائح الناس، أما هو فعفيف النفس.

يقول: وعن عمرو بن أسيد قال: والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح حتى يرجع بماله كله، وقد أغنى عمر الناس، كان يتفقدهم، تقول زوجته فاطمة: بأنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه يده على خده، سائلة دموعه، فقالت: يا أمير المؤمنين ألشيء حدث، قال: يا فاطمة، إني تقلدت أمر أمة محمد ﷺ فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، و المظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد ﷺ، فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي، فبكيت.

وكان شعبة بن الحجاج -رحمه الله- يعطي السائل ما أمكنه، وكان إذا قام سائل في مجلسه لا يحدث بالحديث وهو من أئمة السنة، حتى يعطى أو يضمن للسائل، وهذا آخر يقال له: أبو حمزة السكري، قيل له ذلك لعذوبة حديثه، حديثه جيد، وهذه مواهب من الله ، لا شك أن الاكتساب له أثر في هذه القضايا، لكن من الناس من يكون كذلك موهبة من الله ، تجد أحياناً أهل بيت كبيرهم وصغيرهم في غاية العذوبة في الحديث، وغاية التلطف مع الناس، وهو شيء وهبهم الله لا يبلغ إلى هذا الحد بالتربية، لكن الناس منابت، ومن الناس من لا يبالي بالكلام، يرسل لا أقول السهام، بل الرماح، يطعن ويجرح ويؤذي ولا يبالي بأحد، سواء كان مازحاً أو جاداً.

فهذا أبو حمزة السكري إذا مرض عنده أحد طلابه الذين يرحلون إليه، ينظر إلى ما يحتاجه من الكفاية، فيأمر بالقيام عليه، وكان الليث بن سعد له في كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها، فهو إمام أهل مصر، وهو نظير الإمام مالك -رحمه الله، أما أول هذه المجالس فيجلس لنائب السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمراً أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين، فيأتيه العزل لهذا النائب، أو القاضي، ويجلس المجلس الثاني لأصحاب الحديث يحدث العلم، وكان يقول: نجح أصحاب الحوانيت، فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم، ومجلس للعامة يغشاه الناس ويسألونه، ويعطيهم حوائجهم لا يسأله أحد فيرده، سواء كبرت حاجاته أو صغرت، وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل، وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز في السكر، وجاء رجل إلى ابن المبارك أن يقضي ديناً عليه فكتب إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل كم الدين؟ فقال: سبعمائة من الدراهم، وإذا بعبد الله بن المبارك كتب خطأ أن يعطى سبعة ألاف، فراجعه الوكيل، وقال: هو طلب سبعمائة وأنت كتبت سبعة ألاف بالخطأ، وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضاً قد فني، فأجز ما سبق به قلمي، ولم يقل خفت وهانت علينا، بل قال: أمضي ما سبق، وكان ابن المبارك -رحمه الله، كثير التردد إلى طرطوس، وكان ينزل الرقة في خان، والخان مكان الاستراحة، فكان أحد الشباب يتردد عليه إذا جاء إلى هذا المكان، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يره، فخرج في النفير مستعجلاً ويذهب إلى الثغر يجاهد، فلما رجع سأل عن الشاب فقالوا: محبوس على عشرة ألاف درهم، فاستدل على الغريم ووزن له عشرة ألاف، وحلفه أن لا يخبر أحداً ما عاش، فأخرج الرجل، وسرى ابن المبارك، مشى في الليل، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال له: أين كنت؟ فقال: يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين، قال: وكيف تخلصت قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أدري، قال: فاحمد الله، وما علم أن ابن المبارك هو الذي قضى دينه.

وهذا محمد بن عبد الرحمن الهاشمي خطيب الكوفة، يقول: دخلت على أمي يوم الأضحى، وعندها عجوز في أثواب رثة، أنظروا العبر وتصاريف الأمور، وكيف تحولت الأحوال بالناس، فالإنسان لا يغتر بما عنده من غنى وعرض زائل، يقول: عندها عجوز في أثواب رثة، فقالت: هل تعرف هذه؟ قلت لا، قالت: هذه والدة جعفر البرمكي، وجعفر البرمكي كان وزيراً لهارون الرشيد، وكان في غاية الغنى، وكان يعطي الناس العطايا الجزلة، ثم بعد ذلك حصل لهم ما حصل كما هو معروف في التاريخ، يقول: فسلمت عليها، ورحبت بها، وقلت: حدثينا ببعض أمركم، قالت: لقد هجم علي مثل هذا العيد، وعلى رأسي أربعمائة جارية، وأنا أزعم أن ابني عاق لي، قال: فأعطيتها خمسمائة درهم، فكادت أن تموت فرحاً، وكانت أصلاً تريد قطعتين من جلود الأضاحي، واحدة تتوسدها وتنام عليها، والثانية تلتحف بها، وكذلك بنات بعض ملوك الطوائف في الأندلس كما هو معروف، أن بعضهم لما أطلت زوجته تنظر من شرفة القصر، فمرت بائعات الحليب، قرويات يمشين في الطين والوحل، فلزيادة البطر والطغيان عندها، أحبت أن تجرب المشي في الطين، فأمر فدق لها العود، وعجن، فوضع في صينية من ذهب، فصارت تمشي على العود المطحون كأنه طين، وقد جئن البنات إليه وهو في الحبس، وقد استولى الإفرنج على غرناطة، جئن إليه وهو محبوس، وكل واحدة معها مغزل في ثياب رثة، ووجوه شاحبة، يكتسبن بالمغازل، يغزلن للناس، فانظر إلى التحول، وقالت له وزوجته في يوم من الأيام لما غضبت، ما رأيت منك شيئاً، فقال: ولا يوم الطين، فالإنسان لا يغتر بما وقع في يده من هذه الدنيا وعرضها الزائل، فهي كثيرة التقلب و التحول بأهلها، كم من أناس أغنياء تحولوا إلى فقراء، أرهقتهم الديون، ولربما أودعوا السجون، وتحول ذلك البطر والطغيان إلى شيء آخر، ولا ترى إلا الوجوم والبكاء والحزن والحسرات.

نسأل الله أن يقينا وإياكم كل مكروه، وأن يحفظ علينا ديننا، ودنيانا، وأن يصلح لنا العاقبة في الأمور كلها، وأن لا يحوجنا لأحد من خلقه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

مواد ذات صلة