الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ١٦ / ذو الحجة / ١٤٢٧
مرات الإستماع: 2090

مقدمة باب الوصية بالنساء

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فضمن هذه الأبواب التي يذكر فيها الإمام النووي -رحمه الله- ما يتعلق برحمة الضعفاء والمساكين والفقراء واليتامى ذكر أيضاً باب الوصية بالنساء؛ وذلك أن المرأة ضعيفة، مَهِيضة الجناح، وكما قال النبي ﷺ في وصفهن: إنهن عوان عندكم[1] يعني: عند الرجال، والعاني هو الأسير، فهي أسيرة، إذا تزوجها الرجل وعقد عليها صار أمرها بيده يتصرف فيها، وحكمه نافذ فيها، فإذا كان لا يتقي الله -تبارك وتعالى- فإن هذه المرأة تكون رهن عسفه وإذلاله وقهره وتسلطه، بعد أن كانت عزيزة في بيت أبيها مكرمة، أصبحت في حالٍ يَرثي لها عدوُّها، ودمعتها لا تفارق خدها بسبب هذا الظلم والتسلط والقهر والعسف من هذا الزوج الذي أسرها، ولم يتقِ الله في إسارها، ولهذا أوصى النبي ﷺ بالنساء.

قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

وقد صدر المصنف -رحمه الله- كعادته هذا الباب بآيات تتعلق بالموضوع، فأول ذلك قوله -تبارك   وتعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19].

المعاشرة: تعني المخالطة، أن يعيش الرجل مع امرأته بالمعروف، وذلك حينما يرِدُ في كتاب الله أو حينما يذكر في سنة رسول الله ﷺ يكون الشارع قد أحال المكلفين فيه إلى أمر يتفاوت من عصر إلى عصر ومن بلد إلى بلد، فالمعاشرة بالمعروف لا تُحد بحد في كل زمان وفي كل مكان، وإنما أحالهم إلى الشيء الذي تصلح المعاشرة فيه بحيث تكون هذه المرأة تحيا حياة كريمة في مثل هذا الزمان، في مثل هذا البلد 

فالمعاشرة بالمعروف لا تُحد بحد في كل زمان وفي كل مكان، وإنما أحالهم إلى الشيء الذي تصلح المعاشرة فيه بحيث تكون هذه المرأة تحيا حياة كريمة في مثل هذا الزمان، في مثل هذا البلد، بمعنى في زمن النبي ﷺ لربما يكون نصيب المرأة من زوجها حجرة واحدة من الطين، سقفها يُمس بالأيدي لقصره، ولربما يكون عندها جرّة من ماء، أو زير في أحسن الأحوال، وقد يكون عندها دابة تركبها، وغالباً ليس عندها شيء تركبه، وتطحن وتعجن وتخبز بيدها وتقوم على بهائمه وعلفها، وما يتصل بالدار وتنظيفها، كل ذلك تقوم به بنفسها، وهذه معاشرة بالمعروف في ذلك الزمان، في زماننا هذا لو أن أحداً من الناس أراد أن يتزوج امرأة ويضعها في حجرة من طين، بهذه الصفة، وبمثل هذه الطريقة، وضع لها جرة من ماء، وشيئاً يسيراً من التمر إذا وجدت شيئاً في أول النهار لم تجد في آخره، ولربما تبيت طاوية ليس عندها شيء، هل هذه في عصرنا هذا تعتبر معاشرة بالمعروف؟، الجواب: لا، لماذا؟ لأن الزمان قد تغير، وأحوال الناس قد تغيرت، فالمعروف في هذا الوقت غير المعروف قبل ثلاثمائة سنة، غير المعروف قبل خمسين سنة، فيعاشرها معاشرة تصلح لمثلها في زمانها، وفي المكان الذي تعيش فيه، في البلد الذي تعيش فيه، ولذلك المرأة التي تعيش هنا في هذه البلاد من جهة المعاشرة بالمعروف غير المرأة التي تعيش في بلد آخر كإندونيسيا مثلاً، أو بنجلادش أو الهند أو نحو هذا، هناك قد يجمع الرجل النساء الأربع في أربع حجر، وليس عندهن إلا قليل من الطعام، وتعتبر معاشرة بالمعروف، أما في زماننا هذا في هذه البلاد فالأمر يختلف، فالشارع إذا أحال إلى مثل هذا -إلى المعروف- فإن ذلك يتوجه إلى كل زمان بحسبه وإلى كل مكان بحسبه، وهذا من كمال الشريعة، ومن صلاحيتها للدوام في كل حين، في كل عصر، بحيث إن المعاشرة التي أمر الله بها تكون متلائمة، تختلف من ناحية إلى ناحية، من وقت إلى وقت، فلم يحدد فيها شيئاً بعينه، الرجل إذا كان غنيًّا فله ما يصلح لمثله، المرأة إذا كانت غنية مخدومة مكفية فإنه يصلح لها ما لا يصلح لغيرها من النساء اللاتي كن يعملن بأيديهن في بيوت أهلهن، فإذا كان عندها في بيت أهلها الخدم فإنه يأتيها بخادمة، إذا كانت تعيش في قصر واسع فإنه لا يسكنها في حُجرة، وهكذا إذا كان الرجل غنيًّا ولو كانت فقيرة فإنه يحيا معها حياة متوسطة، والله قال: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7].

قوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ...}

وقال: وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 129]، وذلك أن من الأمور التي تتعلق بالمعاشرة ما لا يستطيع الإنسان السيطرة عليه، ومن ثمّ فإنه لا يدخل في التكليف، وذلك الميل القلبي -المحبة- يميل إلى هذه أكثر من هذه، هذا شيء مدرك، قد يميل إلى معاشرة هذه ولا يميل إلى معاشرة الأخرى، قد يتزوج الرجل بعدما تصل زوجته إلى الستين مثلاً، ويتزوج شابة لم تتجاوز العشرين، فإنه لا يميل إلى الأولى بطبيعة الحال في المعاشرة، هذه أمور جبلت في فطر الناس، ولكن الله حرم الظلم.

فالميل القلبي لا يؤاخذ عليه الإنسان؛ لأن هذه الأمور من الحب والبغض والنفرة وما أشبه ذلك هذه تقع في قلب الإنسان من غير تطلُّب، ولهذا فإن الله  لا يكلف الناس فيها، ولهذا كان النبي ﷺ يعدل مع أن العدل لا يجب عليه في القسم، وذلك من خاصته ﷺ، تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ [الأحزاب:51]، بمعنى أن النبي ﷺ رخص الله له أن يرجي بعض الأزواج فلا يجامعها، ويدني من شاء فيجامعهن، ومع ذلك فقد كان النبي ﷺ يعدل بين أزواجه، وكان يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك[2]، فيكون القسم بالعدل هذه عندها ليلة وهذه عندها ليلة، ويعدل بينهن في النفقة، ولا يحابي إحداهن دون الأخرى، كل هذه الأمور، ولكن الميل القلبي لا يستطيع أن يسيطر عليه الإنسان، وهكذا أيضاً المعاشرة -الجماع، فإن الإنسان ليس مطالباً إذا عاشر هذه في الفراش أن يعاشر الأخرى، ليس ذلك من واجبه، لكنه يعاشرها بالمعروف، بحيث إنه لا يتركها حتى تتأذى بذلك وتتضرر، ويفضي بها ذلك إلى أمر غير محمود شرعاً.

يقول: وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ، يميل كل الميل بمعنى أن هذا الإنسان أصبح لا يدخل على هؤلاء، أصبح لا يجامعها مثلاً، أصبح لا ينفق عليها، فتبقى هذه المرأة معلقة لا متزوجة ولا مطلقة، ومن الناس من يدخل مجرد دخول أمام الناس، تسجيل حضور أنهم رأوه يدخل على أهله، وإلا فلا حاجة له فيها، فمثل هذا لا يجوز، فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ، وإنما يعدل الإنسان فيما يدخل تحت طوقه وقدرته.

قوله: تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ، الإصلاح والتقوى بحيث إن الإنسان يعمل ما بوسعه من أجل أن يعدل، فإن بدر منه أمر خارج عن إرادته، خارج عن طاقته فإنه يرجع عنه، ويستغفر الله ويتوب، وإن حصل بينهم اتفاق بحيث إن الرجل قال لامرأته: أنا لا حاجة لي بك، سأطلقك، فقالت: أظل في كنفك ويمكن أن أسقط بعض حقي، كأن تقول: أسقط ليلتي في المبيت، أو أسقط حقي في النفقة مثلاً أو نحو هذا، فمثل هذا هو من الإصلاح والتقوى، كما قال الله وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا [النساء:128]، بمعنى أنها تسقط عنه بعض حقها، فإن لم تتنازل عن شيء من حقها فهو أيضاً يمكنه أن يطلقها، لكنه لا يتركها مظلومة معلقة، يضيِّع حقوقها، ويعسفها، ويجعلها في حال لا هي متزوجة ولا مطلقة.

قال: فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا لهؤلاء الذين يصلحون ويتقون، ولو أن الناس عملوا بمقتضى هذه الآية لصحت أحوالهم واستقامت أمورهم، ولكن الإنسان من طبعه أنه ظلوم جهول، كما قال الله إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] أي: كثير الظلم وكثير الجهل، يتعدى حدوده، ويتعدى ما كان يجب عليه أن يقف عنده من حدود الله ، فيجهل ويتجاوز ذلك كله.

والله أسأل أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يغفر لنا أجمعين، ويتولانا ويرعانا.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، باب ما جاء في حق المرأة على زوجها (3/ 459)، برقم: (1163)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (7/ 96)، برقم: (2030).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء (3/ 470)، برقم: (2135)، وضعفه الألباني، في ضعيف أبي داود (2/ 221)، برقم: (370).

مواد ذات صلة