الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره..» ، «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره..»
تاريخ النشر: ١٥ / صفر / ١٤٢٨
التحميل: 1644
مرات الإستماع: 7617

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب حق الجار أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرمْ ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقلْ خيراً أو ليسكت[1]، متفق عليه.

هذا الحديث من الأحاديث الجامعة، التي هي من جوامع كلمه ﷺ، فالحقوق منها ما يكون لله ، ومنها ما يكون للخلق، وهذا الحديث قد بيّن ما يتعلق بكثير من حق المخلوقين، فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر...، هذا الصيغة تدل على أن ذلك مما يجب على الإنسان، وأنه من الكمال الواجب، وكما سبق أن ما أُنيط به الإيمان أو ما نُفي الإيمان عمن قارفه -الأفعال التي يقول: لا يؤمن من فعل كذا- أنه إن دلت الأدلة على أن الإيمان موجود، وأنه لم يبطل فإن ذلك يحمل على الإيمان الواجب، بمعنى أنه إن أخل به نقص من إيمانه الواجب، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، يدل على أن هذه الأمور المذكورة في هذا الحديث أنها مما يجب على الإنسان، وأنه إن أخل بها فهو مستحق لعقوبة الله -تبارك وتعالى، فقوله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر...، جمع بين الأمرين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، وذلك أن مَن رجا يوماً يحاسَب فيه على أعماله، ويجازى عليها فإنه يحاسِب، ويؤدي الحقوق إلى أصحابها، ويعلم أنه مجزيٍّ بكل ما يأتي وما يذر، ولذلك كثيراً ما يقول الله : إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، فالإيمان باليوم الآخر هو المحرك الذي يجعل الإنسان يتهيأ، الذي يجعل الإنسان يستعد، الذي يجعله يحاسب نفسه؛ لأنه يعلم أنه سيصير إلى يوم يجزيه الله على كل ما فعل.

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره، وهذا يدخل فيه جميع أنواع الأذى، إما بالمباشرة وإما بالتسبب، لا يؤذيه بمد يده عليه بالضرب، أو بالسرقة، أو بإفساد متاعه، أو ماله، أو داره، أو أذية أولاده، أو يطلق أولاده، أو يترك امرأته تؤذي امرأة الجيران مثلاً بقبيح القول، تتطاول عليها، يسيء إليه بغيبته، والوقيعة في عرضه، يسيء إليه بما يصدر من بيته من أصوات مزعجة، أصوات المعازف، أصوات التلفاز، أو صياح الأولاد في أوقات متأخرة من الليل، لاسيما الذين يسكنون في الدور الصغيرة كالشقق، فإنّ تحرك هؤلاء وجلبة هؤلاء الصبية لربما يتسبب عن ذلك أذية للجيران، لاسيما إذا كانوا يسكنون تحت سقفهم الذي يعيشون عليه.

فالمقصود أن مثل هذا كله من أنواع الأذى، فكل ما يمكن أن يتصور من الأذى بالمباشرة فهو داخل، وكذلك الأذى الواصل إليهم بالتسبب، يتسبب في أذيتهم، كأن يغري بهم بعض السفهاء، كأن يدل على عوراتهم، كأن يكون مشاركاً لغيره في أي لون من ألوان الأذية التي يمكن أن تحصل لهؤلاء، كذلك بما يحصل منه ولو كان من غير قصد إن كان مفرطاً، مثل الذي يُجرِي ماء من بيته ثم بعد ذلك يصل إلى الجيران ويتأذون به، فمثل هذا ينبغي أن يراعيه الإنسان، وهكذا حتى في الأمور اليسيرة من إيقاف سيارته -إذا كانوا يتأذون بهذا- أمام دارهم، أو أن يقفل عليهم مخرج سيارتهم، ويتأذون بهذا، أو غير ذلك يعني يكون فاحشاً متفحشاً في التعامل معهم، ومن الناس -نسأل الله العافية- مَن لا يبالي لا بالجار، ولا بغير الجار، كل يوم وهو مُوقِف الشرطة عند بيت جيرانه يشتكي من أجل أن صبيًّا من الجيران لربما حصل منه بعض الأذى، أو نحو ذلك، فينبغي أن يكون هناك تحمل بين الناس، والصفح والصبر والحلم، والعفو والإحسان.

قال: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرمْ ضيفه، إكرام الضيف واجب، وحقه الواجب يجب أن يؤدى إليه، ولا شك أن هذا من محاسن الأخلاق التي دعا إليها الإسلام، وهو يدل على كمال النفس ورفعتها، وسعة الصدر، ويدخل في إكرام الضيف ما يوضع له من طعام وقِرى، ويدخل فيه أيضاً طلاقة الوجه، وإزالة الوحشة من نفسه، والترحيب به، وإكرامه بالقول والفعل، والحشمة وما أشبه ذلك، قد يضع الإنسان لغيره طعاماً ولكنه يقابله بعبوس وتقطيب وضجر، وما أشبه هذا، فما يكون قد أكرمه.

قال: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت، متفق عليه. فليقل خيراً، إذا تكلم يتكلم بالمعروف، يتكلم بما لا يضر، يتكلم بما فيه نفع، فيدخل في هذا الخير ما استجمع شروطاً: أن يريد بهذا الكلام وجه الله ، لا يريد الرياء، ولا السمعة، وأن يكون هذا الكلام مما يحصل فيه نفع للسامعين، قد يكون هذا الكلام الذي يقوله الإنسان حقًّا، ولكن لا يحسن أن يقال، ما كل حق يقال، وما كل ما يُعلم يتكلم به، ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، فيتكلم الإنسان بالكلام الذي يعيه السامعون، لا يتكلم كلاماً لا يُفهم على وجهه، ولا يتكلم كلاماً كان ينبغي أن يكون في غير هذا الوقت، فيختار الوقت المناسب، يختار الظرف المناسب، يختار العبارة المناسبة، التي لا تجرح، لا تسيء، يختار إذا تردد بين عبارتين يختار العبارة الواضحة، العبارة السهلة، العبارة البينة، العبارة التي ليس فيها إساءة لأحد، فليقل خيراً، يأمر بمعروف، ينهى عن منكر، أو ليسكت، والسكوت عن الشر صدقة، ولهذا كان الحسن وطائفة من السلف كانوا يحاسبون أنفسهم عند الكلمة، ماذا أردت بهذه الكلمة؟ بل إن بعضهم كان يحاسب نفسه إذا أراد أن يتكلم، فإذا وجد في نفسه إقبالاً على الكلام لم يتكلم؛ لأن للنفس فيه شهوة، وإذا وجد في نفسه في المجلس إحجاماً عن الكلام تكلم، من أجل أن لا يكون له هوى، وكم من كلمة قالت لصاحبها: دعني، وكم من كلمة أذهبت دنيا الإنسان وآخرته، والنبي ﷺ يقول: إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً...[2]، وفي بعض الروايات: لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار[3]، أو أبعد ما بين المشرق والمغرب[4].

فالإنسان الذي يطلق لسانه يتكلم في كل شيء فإن هذا الإنسان يكون بلا خطام، ولا زمام فيسبق قولُه فكره وعقله، فلا يتبصر بما يقول، فتنطلق منه الكلمات ولربما تكون في غاية السوء، تسيء إليه هو، وتسيء إلى الآخرين، ولو أنه تبصّر وتعقّل ما تفوه بها، ولهذا فإن أهل العلم والحكماء يرون أن قلة كلام الإنسان تدل على كمال عقله، فليقل خيراً أو ليسكت.

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره

ثم ذكر بعده:

حديث أبي شريح الخزاعي وهو يشبهه تماماً، أن النبي ﷺ قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليسكت[1].

هناك قال: فلا يؤذِ جاره، هناك في النهي والكف من باب التخلية، وهنا من باب التحلية، لا يؤذِ جاره، فليحسن إلى جاره، وهذا يدل على أن تحقيق الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي عدم أذية الجار، ويقتضي الإحسان أيضاً إلى الجار؛ لأن الإنسان قد لا يؤذي جاره، لكنه لا يحسن إليه، قد يكون الإنسان بالنسبة لجاره كالجدار، كالجماد، لا يحصل منه لا خير ولا شر، لكن هل هذا مطلوب؟، هذا غير مطلوب، فليسحن إلى جاره، ثم ذكر الأمور الأخرى قال: ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت، رواه مسلم بهذا اللفظ، وروى البخاري بعضه، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف، ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان (1/ 69)، رقم: (48).

مواد ذات صلة