الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
بعض ما ورد عن السلف في توقير العلماء والكبار (2-3)
تاريخ النشر: ٢٥ / جمادى الأولى / ١٤٢٨
التحميل: 1702
مرات الإستماع: 5319

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما جاء من آثار السلف في باب توقير العلماء وأهل الفضل ما جاء عن سعيد بن جبير وقد ذكرنا من قبل أن بعض علماء الصحابة كابن عمر كان يحيل إليه إذا استُفتي، مع أن ابن جبير -رحمه الله- كان من التابعين، سعيد بن جبير -رحمه الله- يقول: لو خُيرت مَن ألقى الله تعالى في مسلاخه لاخترت زَبيد اليامي.

وجاء عن الزهري -رحمه الله- وهو من صغار التابعين قال: كنت أحسب أني قد أصبت من العلم[1]، يقول: كنت أظن أن عندي علمًا حتى جالست عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فكأنما كنت في شعب من الشعاب. يقول: أدركت أني كنت لا أحمل علماً كثيراً في مقابل ما رأيت، ما كان يجحد أو يأخذه الحسد، وإذا خرج من المجلس بدأ يذكر بعض الملاحظات والانتقادات والأشياء التي ينتقصه فيها، إطلاقاً، هذه الأمثلة قد ننساها، لا نحفظ المثال، ولكنها تحيي شيئاً في النفوس من التربية الصحيحة، وتهذيب هذه النفوس وتشذيبها عن الشوائب والأمور المكدرة.

عن عبيد الله بن عمر قال: كان يحيى بن سعيد يحدثنا فيَسِحُّ علينا مثل اللؤلؤ، وإذا طلع ربيعة قطع حديثه إجلالاً لربيعة وإعظاماً، يحيى بن سعيد الأنصاري مع ربيعة شيخ الإمام مالك، الملقب بربيعة الرأي، فإذا رآه سكت إجلالاً وتقديراً واحتراماً[2].

وجاء أن هشام بن عروة وهو أيضاً من التابعين، هشام بن عروة بن الزبير بن العوام أهوى إلى يد أبي جعفر ليقبلها، يد أبي جعفر المنصور، الخليفة العباسي، فمنعه وقال: يا ابن عروة إنا نكرمك عنها، ونكرمها عن غيرك[3].

وجاء عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: كان يحيى بن سعيد -يعني: الأنصاري- يجالس ربيعة، فإذا غاب ربيعة حدثهم يحيى أحسن الحديث، وكان كثير الحديث، فإذا حضر ربيعة كف يحيى إجلالاً لربيعة، وليس ربيعة أسن منه، وهو فيما هو فيه، وكان كل واحد منهما مبجِّلا لصاحبه[4].

وجاء عن الأعمش: كنت آتي مجاهداً فيقول: لو كنت أطيق المشي لأتيتك[5].

وبلغ الثوري وهو بمكة مقدم الأوزاعي، فخرج حتى لقيه بذي طُوى، طرف مكة، يعني في الناحية الآن لربما قريباً من الزاهر، فلما لقيه حلّ رسَن البعير من القطار، يعني القوافل كانت مقطورة، هذا البعير يربط بهذا البعير، وهذا، فحل رسن البعير من القطار، فوضعه على رقبته، عالم إمام وضعه على رقبته، فجعل يتخلل به، فإذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ، تواضُع، ما قال: أنتظر أن يأتيني وأن يبادر هو بزيارتي، لا، خرج إليه بذي طوى، ولوي الحبل على رقبته[6].

هذه أخلاق عالية أيها الأحبة.

وهذا عبد الرحمن بن مهدي يقول: ما كنت أقدر أن أنظر إلى سفيان الثوري استحياءً وهيبة منه، هؤلاء أئمة المسلمين، كلهم علماء، يقول: ما كنت أستطيع أن أنظر إليه هيبة منه.

ويقول أبو زرعة الرازي: كنت عند أحمد بن حنبل، فذكر إبراهيم بن طهمان وكان متكئاً من علة، مريضًا، فجلس، وقال: لا ينبغي أن يُذكر الصالحون فيُتكأ[7]، هذا الإمام أحمد، واليوم تجد في مجلس العلم يجلس الواحد ويمد رجله في وجه أو أمام الشيخ.

وجاء عن الإمام مالك أنه قال: دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين، وقد نزل على مثال له، أي فراش، فإذا على بساطه دابتان ما تروثان ولا تبولان، وجاء صبي يخرج ثم يرجع، فقال لي: أتدري من هذا؟ يعني الخليفة أبو جعفر المنصور، وهو من أقوى خلفاء بني العباس، يقول للإمام مالك: أتدري من هذا الصبي؟ قلت: لا، قال: هذا ابني، وإنما يفزع من هيبتك، هذا ولد الخليفة، ثم سألني عن أشياء منها حلال ومنها حرام، ثم قال لي: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس، قلت: لا والله يا أمير المؤمنين[8]، لاحظ التواضع، ما قال: نعم، أنت عرفت الآن قدري ومنزلتي، قال: بلى، ولكنك تكتم، ثم قال: والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثن به إلى الآفاق، فلأحملنهم عليه، طبعاً الإمام مالك نهاه عن هذا، وذكر أن الصحابة  والفقهاء اختلفوا، فصار أهل كل بلد يأخذون بأقوال فقهائهم وعلمائهم.

ويقول أبو مصعب: كانوا يزدحمون على باب مالك حتى يقتتلوا من الزحام، وكنا إذا كنا عنده لا يلتفت ذا إلى ذا، ما أحد يلتفت إلى الثاني، قائلون برءوسهم هكذا، وكانت السلاطين تهابه، وكان يقول: لا، ونعم، يعني يجيب بلا أو نعم، ولا يقال له: من أين قلت هذا؟.

ويقول خالد بن عبد السلام الصدفي: شهدت جنازة الليث بن سعد مع والدي فما رأيت جنازة قط أعظم منها، رأيت الناس كلهم عليهم الحزن، وهم يعزي بعضهم بعضاً ويبكون، فقلت: يا أبتِ كأن كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة، فقال: يا بني لا ترى مثله، يعني ما سترى مثل الليث بن سعد.

وكان الأوزاعي إذا سئل عن مسألة وسعيد بن عبد العزيز حاضر قال: سلوا أبا محمد[9].

الإمام الكبير الأوزاعي، يا إخوان كثير من العامة إذا طُرح سؤال على طالب علم في مجلس ابتدروا الجواب قبل أن يتكلم، والله المستعان. 

ولربما يُسأل طالب العلم ويوجد له أقران في المجلس، ويفرح أنه هو الذي يُسأل، وأن غيره لم يسأل، والصحابة كان الرجل يدخل المسجد ويسأل أحدهم فيحيل إلى الآخر، ثم يحيل الآخر إلى غيره، حتى تدور وترجع إلى الأول، فهذه أمور يحتاج إليها الإنسان، ليس العلماء فقط وطلبة العلم، لا، الجميع يحتاج إلى مثل هذه القضايا، الجار كيف يتعامل مع جاره، الإنسان الذي يدرس كيف يتعامل مع زملائه، الإنسان الذي يعمل كيف يتعامل مع أقرانه في العمل، كيف يتعامل الولد مع إخوانه في البيت، مشكلات كبيرة جداً تجدها بين الولد الكبير، والولد الثاني الذي هو أصغر منه، تكاد توجد في كل بيت، هذا كأنه متربع بكل ثقة على المبادرة والأخذ بزمام السيطرة، وهذا الولد الثاني يحاول أن يخرج، أنا موجود، وهذا دائماً يضغط، فتقع مشكلات ومنافسات وحدّة، أين هذه الأخلاق؟.

النساء الضرائر مع بعضهن، الجارة مع جارتها، كيف تكون التعاملات والأخلاق ومعرفة القدر والفضل وما أشبه ذلك، كيف يكون هذا، المنافسات، بعض الناس لو قال لزميله: يا فلان، ما قال له: يا مهندس فلان، قامت الدنيا ولا قعدت، قدِّم اللقب، ويرى أن هذا إساءة إليه غاية الإساءة، وأن هذا ما احترمه ولا كذا، وتقع مشكلة ومشادات، ومقاطعة، ويتدخل أناس للإصلاح على أساس قضية تافهة، وبعض الناس لربما -ورأيت هذا- يقال له: يا شيخ، يقول: قدِّم اللقب؛ لأنه هو دكتور، قدم اللقب، وقضية ومشكلة وغضب، وترى ذلك في حماليق عينيه، فقط لأنه ما قيل له: يا دكتور، أو كتبتَ اسمه على وجه السرعة وما وضعت (د/...) يرى أن هذه إهانة وأن هذا استخفاف بحقه .

أين هؤلاء العلماء، على منزلتهم؟، ما الذي عندنا من العلم والحفظ والرصيد في مقابل ما عند هؤلاء؟، الواحد منهم بحر متلاطم، وكل واحد يحيل إلى الآخر، ويعرف قدر الآخر، وإذا ذكر الآخر عنده أثنى عليه وذكره بالخير، ودل الناس عليه ليستفيدوا منه، وما شابه ذلك.

فنسأل الله أن يعيننا على هذه النفوس، نفوس ضعيفة، وكل إنسان أدرى بنفسه، والله عالم بما في النفوس وما في السرائر، والعاقل هو الذي يتبصر بعيوبه، ويتأمل دائما في كل ما يجري عليه وما تتوجّس منه نفسه، وما يقع لها عند كلام المتكلمين، والمواقف التي تمر عليه، فيعرف عللها وأمراضها إذا وفقه الله ، وكثير من الناس لا يبصر، فلعل مثل هذه الأشياء أن توقظ النفس، ويبدأ الإنسان يفكر، وينظر إلى أي حد وصل من التربية.

فنسأل الله أن يعفو عنا ويغفر لنا ويرحمنا، وأن يلطف بنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح (2/ 888).
  2. تهذيب الكمال في أسماء الرجال (31/ 353).
  3. المصدر السابق (30/ 240).
  4. سير أعلام النبلاء (6/ 251).
  5. وفيات الأعيان (2/ 401).
  6. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 208).
  7. سير أعلام النبلاء ط الرسالة (7/ 381).
  8. المصدر السابق (8/ 61).
  9. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (21/ 200).

مواد ذات صلة