الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب
تاريخ النشر: ١٤ / شعبان / ١٤٢٨
التحميل: 1691
مرات الإستماع: 2242

قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جديد من أبواب هذا الكتاب المبارك وهو باب الخوف، ثم بعد ذلك أعقبه المؤلف -رحمه الله- بباب يرتبط به كل الارتباط وهو باب الرجاء، وقد تحدثنا عن موضوع الخوف والرجاء وسائر الأعمال القلبية في دروس كثيرة في نحو أربع سنوات، وقد صدر المصنف -رحمه الله- هذا الباب كعادته بجملة من الآيات، كقوله -تبارك وتعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، والرهبة: هي بمعنى الخوف من حيث الأصل إذ إنها تتفق معه في أصل المعنى، إلا أنها تختلف من جهة المعنى التكميلي الذي يقال له: المعنى الخادم أو الثانوي، فالرهبة خوف خاص، خوف عظيم شديد، فليس كل خوف يقال له: رهبة، إذا اشتد الخوف فإنه يكون رهبة، وقد يعظم حتى يملأ الصدر فيكون رعباً، وإذا كان مع علم بالمخوف منه فإن ذلك يكون من قبيل الخشية، فإن كان معه شيء من الحنو في بعض معانيه فإنه يكون بمعنى الشفقة، وذلك في خوف الوالد على ولده، أو نحو ذلك، أو ممن يشفق عليه، يقول: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، فهنا قدم المعمول على عامله، أي أن أصل الكلام في ترتيبه: ارهبوني، وتقديم المعمولات على عواملها إنما يكون لمعنى.

والمعنى المقصود هنا -والله تعالى أعلم- هو الحصر، أي أن الخوف ينبغي أن يكون من الله -تبارك وتعالى- وحده، فالخوف من غير الله تارة يكون من قبيل الإشراك، فهو محرم، وذلك كأن يخاف الإنسان شيئاً من المخلوقات أكثر من خوفه من الله -تبارك وتعالى، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، أو أن يخاف مخلوقاً كخوفه من الله ، والله -تبارك وتعالى- عاب المنافقين بقوله: أَ نتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ، ذلك لقلة معرفتهم بالله ، وما له من صفات الكمال، وهناك خوف يخل بإيمان العبد لكنه لا يكون مخرجًا له من الإسلام، وذلك كأن يؤدي به هذا الخوف لفعل شيئًا من المعصية أو ترك شيئًا من الطاعة، وهناك خوف يكون طبيعيًا لا يسلم منه أحد كخوف الإنسان من الحية ومن الهوام ومن السباع ومن السراق وهذا لا يضر الإنسان، كما قال الله  عن موسى  عندما ألقى عصاه وتحولت إلى حيه: وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل:10]، ولم يعقب، فقال الله: يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ، فالحاصل أن موسى لا يؤثر فيه هذا الخوف الطبيعي.

قوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}

وقال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]، فهذه من الآيات التي تخوِّف من الله وهي من دواعي الخوف، فإن الخوف يُستجلب بالنظر في معاني الأسماء الحسنى الدالة على عظمة الله تعالى، وكذلك أيضاً في مثل هذه الآيات التي تذكر شدة بأسه وما أوقعه بالمكذبين، والظالمين والمجرمين من ألوان المَثُلات والنكال والعقوبات العظيمة، وكذلك ما أعد للكفار في الآخرة.

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ...}

وقال تعالى:  وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ۝ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ [هود:102-103]، يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ۝ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود:105-106]، فَمِنْهُمْ أي: أهل الموقف، وإن لم يكن له ذكر إلا أن ذلك يدل عليه السياق، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [هود:106-107]، فمثل هذه الآيات إذا تأملها الإنسان في القرآن، وكذلك الأحاديث التي يذكر الله  فيها ما يفعله بالمكذبين والكافرين فإن ذلك ينمي الخوف من الله -تبارك وتعالى- في نفسه، وهذا معنى كبير يحتاج الإنسان أن يعتني به، وقد ذكرت لذلك أي: للطرق التي يتوصل بها إلى زرع الخوف من الله في النفوس أسباباً كثيرة في الكلام على الخوف ضمن الأعمال القلبية.

قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ}

وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].

قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ...}

وقال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ۝ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ۝ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ۝ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ...}

وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم ۝ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحـج:1-2]، فهذه أيضاً من الآيات التي تذكر ما يحصل من الأهوال والأوجال في الآخرة، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم ۝ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، والعرب تلحق به التاء فتقول: مرضعة، والمرضعة: هي المرأة التي تقوم بالإرضاع وتباشره، والمرضع: هي المرأة التي من شأنها الإرضاع، والفرق بينهما أنك تقول لامرأة تراها في السوق مثلاً أو تراها في أي مكان في الشارع تقول: هذه امرأة مرضع، أي: من شأنها الإرضاع، يعني أن عندها ولد في بيتها ترضعه مثلاً، لكن إذا قلت: هذه مرضعة فالمعنى: أنها الآن تحمل الولد وتباشر الإرضاع، هذا هو الفرق، وأجلى صورة تكون فيها مظاهر الأمومة والحنو والشفقة تتجلى في حال مباشرة الإرضاع، فالمرأة لو أخذت طفلاً صغيراً وهي ليست بمرضع، يعني هي مثلاً في الشهر التاسع من الحمل، ولم تلد بعد، وليس فيها حليب، ولكن بمجرد أن تضع الطفل في حجرها يبدأ الحليب يسيل، هذا شيء معروف، تبدأ مشاعر داخلية عندها، لا تشعر هي، ولا تستطيع أن تعبر عنها، وهو ليس طفلها، فكيف إذا كانت ترضع طفلها؟ إنها تفيض عليه من ألوان الحنان والإشفاق والحنو والرحمة ما لا يقادر قدره ولا يوصف، تصور هذه الآية ماذا تقول؟ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ قد يكون ولدها في البيت وهي في الشارع تمشى وتنساه، لكن كل مرضعة تنساه في هذه اللحظات الأم التي تفيض من العطف والحنان؟!، هذا يدلك على شدة هول الساعة، إذا كانت المرضعة تذهل عن الولد وتنساه وتقوم بلا شعور، إذاً ما حال الآخرين؟ شيء طبيعي أن يفر الإنسان من أبيه وأمه وأخيه وصاحبته وجاره وصديقه وما أشبه ذلك، تترك ولدها الذي في حجرها وهي تباشر إرضاعه!، فهذه المعاني إذا تأملها الإنسان عرف شدة الهول، وخاف من الله -تبارك وتعالى.

وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى، هو هيئته سكران، لا يفقه شيئًا، تكلمه وهو لا يدري أين هو من شدة الخوف، وهذا تجده أحياناً -نسأل الله العافية- إذا حصلت بعض الأهوال العظيمة، حينما تأتي الأهوال والحروب، قاذفات من الأصوات والانفجارات الرهيبة تجد الناس يخرجون الواحد منهم لا يدري أين هو، وتجد هذا في حوادث السيارات المفجعة، الناس يخرجون لا يدرون أين هم، حتى بعض من شاهد هذه المواقف -نسأل الله أن يعافينا وإياكم وكل مسلم- يذكر أشياء عجيبة، يقول: بعضهم يخرج من السيارة ويصطدم في الشبك ويسقط وهو لا يدري، لا يرى شيئاً أمامه، وبعضهم يقوم ويكبّر، يجلس يكبّر ويصلي، ولو سألته ماذا صنعت؟ يقول: لا أدري، أنتَ قمت وكبرت وجلست تركع وتسجد، يقول: أنا لا أدري ماذا أفعل، كنت أفعل هذا من غير اختيار، وبعضهم يجلس يؤذن، وهو لا يدري ماذا يصنع، حينما يقال له بعد أن يفيق: أنت قمت وأذنت في الحادث، يقول: لم أكن أدري عن شيء، من شدة الهول، فالله ، يقول: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى، أي: ذهبت عقولهم ليس من شرب المسكر، فهم لم يشربوا الخمر، ولكن لهول هذه الأحداث، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم، قال بعض أهل العلم: أي: هذا حينما تقع الساعة، وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77]، أي: حينما تبدأ، وينفخ في الصور النفخة الأولى التي هي نفخة الصعق، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68]، وهذه التي ذكر النبي ﷺ أن الرجل يلوط حوضه لا يسقيه[1]، والآخران: يتبايعان الثوب[2]، والآخر يرفع اللقمة إلى فيه فلا يأكلها، عند ذلك تقع الأهوال وتقع الزلزلة، وتنشق السماء وتنكدر النجوم، وتُسجر البحار، وتغير ملامح ومظاهر هذا الكون الذي نشاهده، فعندئذ تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وبعض أهل العلم يقول: هذا بالنفخة الثانية، إذا قاموا من القبور يقومون في حال من الهول والهلع والخوف إلا أهل الإيمان فإنهم يكونون في حال من الأمن. 

قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}

ولهذا قال الله : وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، جنة لإيمانه بالله ، وجنة لخوفه من الله -تبارك وتعالى، وقيل غير ذلك.

قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ...}

وقال تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ [الصافات:27]، هذا بالنسبة لأهل الجنة، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ۝ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُوم [الطور:26-28]، أي: حر النار الذي يتخلل المسام من شدته وحرارته -أعاذنا الله وإياكم منها،  إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ولهذا يقول بعض السلف: ينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن يكون من أهل النار؛ لأن الله قال عن أهل الجنة إنهم يقولون بعد ذلك: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ، أي: يوم كنا في الدنيا كنا خائفين من الله ، ما كنا في غفلة ولهو وأمن من عذاب الله ، ولا نخافه، ونأمن سطواته وعقوباته وأليم أخذه.

هذه هي الآيات التي أوردها المصنف -رحمه الله، وقوله: هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]، أي: يقوم على العباد بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، فالله مطلع عليهم محيط بهم، لا تخفى عليه منهم خافية، وهذا هو معنى الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك[3]، مَقَامَ إلى الفاعل، أي قيام ربه عليه، هذا المعنى، وكلاهما صحيح، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، ولهذا يقال: الآية دلت على المعنيين، خاف مقامه بين يدي ربه، وخاف أيضاً قيام ربه عليه واطلاعه، فاحتاط وعمل لذلك، فهذا هو الأقرب، ولا نحتاج إلى ترجيح بين المعنيين، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 
  1. أخرجه ابن حبان، (15/ 259)، رقم: (6844)، وأحمد، (11/ 114)، رقم: (6555 )، وصححه الألباني في صحيح ابن حبان، رقم: (6806).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط  الساعة، باب قرب الساعة (4/ 2270)، ر قم: (2954).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، (1/ 19)، رقم: (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة، (1/ 37) رقم: (8).

مواد ذات صلة