الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «إن الكافر إذا عمل حسنة..»
تاريخ النشر: ٢١ / ذو القعدة / ١٤٢٨
التحميل: 1384
مرات الإستماع: 2408

إن الكافر إذا عمل حسنة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الرجاء أورد المصنف -رحمه الله:

حديث أنس : أن النبي ﷺ قال: إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طُعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله -تعالى- يدخر له حسناته في الآخرة، ويُعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته، وفي رواية: إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة، يُعطَى بها في الدنيا، ويُجزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله -تعالى- في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يُجزى بها[1]رواه مسلم.

قوله ﷺ: إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طُعمة من الدنيا، هذا من تمام عدل الله -تبارك وتعالى، أنه لا يظلم الناس شيئًا، فمن أحسن في هذه الحياة فإن الله  يجازيه على إحسانه، والأعمال التي تكون من قبيل الإحسان فمنها: ما يوجد معه نية التقرب إلى الله -تبارك وتعالى، وهذا يتصور من الكافر، يفعل أعمالاً يريد بها ما عند الله ، فقد ينفق نفقات، وقد يبذل أشياء يقصد بها القربة، لكن الله لا يقبل منه ذلك؛ لأنه مشرك، والله -تبارك وتعالى- يقول عن الكافرين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، فليس لهم نصيب عند الله في الآخرة.

ويستثنى من هذا ما جاء في حق أبي لهب لما أعتق ثويبة؛ لما بشرته بمولد النبي ﷺ بولادته، فرآه بعض أهله، وقيل: إنه العباس، رآه في المنام، وسأله عن حاله، فأخبر أنه بعدهم لم يلقَ خيرًا، وإنما سقي بمثل هذه، أو بهذه[2]، فسره بعضهم، أو جاء في بعض الروايات: ما بين الإبهام والمسبحة، هذا الموضع، وبعضهم بهذا، يعني: الحفرة التي تحت الإبهام، وبعضهم بهذا: ما يقع بين الإبهام والمسبحة، فالشاهد: أنه شيء يسير يسقى به، هذا حصل له في الآخرة.

وأبو طالب في ضحضاح من نار، عليه شراكان من نار، يغلي منهما دماغه، وهو أخف أهل النار عذابًا، وهو يظن أنه أشد أهل النار عذابًا[3]، هؤلاء من أجل حسنة، أو من أجل إحسان كان في الدنيا، بقية الكفار لا نصيب لهم عند الله في الآخرة، إلا أن عذابهم يتفاوت، يعني: أن أبا لهب وأبا طالب مخلدون في النار، لكن بقية الكفار كلهم في النار، وإن كانوا يتفاوتون فيها، فإن الله يعذبهم على إجرامهم، وسيئاتهم، كما قال الله -تبارك وتعالى- حينما يسألون في النار: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ۝ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ۝ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:42-46]، فعُذبوا وزيد في عذابهم على ترك الصلاة، وما شابه، مع أنهم لو فعلوها في الدنيا ما قبلت منهم، ولا نفعتهم في الآخرة، فإذا كان الكافر عنده مزيد من الإجرام والعدوان والظلم، فإن عذابه يكون أشد، والنار دركات، ليست جميعًا على مستوى واحد، والذين فيها ليس عذابهم بمتحد.

الشاهد أن الله يجزي الكافر على ما عمل وقدم في هذه الحياة الدنيا مما قصد به وجه الله ، أو مما قصد به الإحسان مطلقًا، وإن لم يقصد به وجه الله -تبارك وتعالى، فإن الله يجزيه على ذلك في الدنيا.

وقد ذكرت في بعض المناسبات: أن بعض الأعمال لا يشترط فيها نية، فالمرأة التي قسمت التمرة بين بنتيها[4]، لم يُذكر أنها نوت، والنبي ﷺ قال: وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم إن وضعها في حرام؟[5]، ومثل هذا: الرجل الذي قطع غصن شوك بطريق المسلمين كان يؤذيهم[6]، والمرأة البغي من بني إسرائيل التي سقت الكلب بخفها[7]، والرجل الذي كان يتصبب عرقًا، فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله؟ قال: إنْ كان يسعى على أبوين شيخين كبيرين...[8]إلى آخره.

فكل هذه الأشياء تدل على أن من الأعمال ما يزاوله الإنسان ويؤجر عليه، ولو لم تكن له نية، بشرط ألا يوجد له فيه نية سيئة، نية فاسدة، فلو أن أحدًا قام ببر أبيه وأمه مثلاً، ولم يقصد بذلك وجه الله، لكن بدافع المروءة، والبر، والإحسان، والوفاء، وما إلى ذلك، ورد الجميل، وفعل هذا، هل يؤجر أو لا يؤجر؟ يؤجر، فإن قصد به وجه الله، فذلك أعظم، وأكمل، لكن إن قصد به الرياء والسمعة، فإنه لا يؤجر على هذا، بل يأثم، فالرياء والسمعة سيئة، وهي شرك بالله -تبارك وتعالى.

إذن! هذا الكافر يُعطَى ويطعم بحسناته، كما قال النبي ﷺ: أُطعم بها طُعمة من الدنيا، يُعطَى مالا، أو لربما يجد شيئا من اللذات والمسرات، ويجد شيئًا من النعيم في الدنيا، والسعة، ويأتيه من الأموال والضيعات، وأشياء من هذا القبيل، كل ذلك ينعم به في الدنيا، فإذا قدم عند الله لا يكون له نصيب: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20].

وأما المؤمن فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة، ويُعقبه رزقًا، يعني: يعطيه، "في الدنيا على طاعته"، لاحظوا: يدخر له الحسنات، ويعطيه في الدنيا.

جاء عن بعض الصحابة : أنهم كانوا يتخوفون، وذلك مثل عمر ، كان لا يرى التوسع في الدنيا، في مطاعمها، ومراكبها، ومساكنها، وما إلى ذلك، وكان يتأول قول الله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف: 20]، فيرى أن ذلك يكون لنقص حظهم في الآخرة، هذا رأي لعمر ، ولكن هذه المسألة ليست محل اتفاق بين الصحابة ، وبين أهل العلم، وبعض العلماء مثل ابن القيم -رحمه الله- يرى: أن ما يقارفه الإنسان في الدنيا من المعاصي من المسلمين، أن ذلك يكون بخسًا ونقصًا من حقه في اللذات التي هي نظيرة لهذه في الجنة، إذا مات ولم يتب، وهذا ليس عليه دليل، وإنما ورد في بعض الأِشياء، مثل: من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها، حرمها في الآخرة[9]، وتكلم على هذه المسألة الشاطبي في كتاب الموافقات عند الكلام على المباح، وكذلك في آخر الكتاب بكلام مفصل.

فالحاصل: أن التوسع في الدنيا، والتوسع في المباحات أمر مذموم، لا لأنه يكون نقصًا بحد ذاته من نعيم الآخرة، وإنما يكون مذمومًا لأمرين:

الأمر الأول: هو أن هذا الإنسان الذي يتوسع في المباح يجعله ذلك على طرف، أو على شفا حدود الحلال، فقد يقع في الحرام، إذا توسع فهذا مظنة في أن يقع في المحظور، وهذا مشاهد، الناس الذين يتوسعون في المباحات جدًّا فإن ذلك مظنة إلى أن يوقعهم فيما حرم الله -تبارك وتعالى، يتساهلون.

الأمر الثاني: أن هذا التشاغل بالمباحات، والتوسع فيها، سيكون على حساب العمل للآخرة، فتنقص مرتبتهم في الآخرة بسبب انشغالهم عنها بهذه المباحات، ذهبت أيامه في بناء القصور، وفي تحصيل الأموال، والتوسع فيها، الأموال التي ليست هي القدر الذي يحتاج إليه، وإنما التوسع فيها، يريد أن يكون من أصحاب الملايين، وإذا صار من أصحاب الملايين يريد أن يكون من أصحاب المليارات، هذا ليس بمحرم، لكن من اشتغل هذا الاشتغال فسيكون قطعًا على حساب العمل للآخرة، والآخرة تحتاج إلى عمل وجهد وبذل.

فالشاهد: أن النبي ﷺ ذكر العطاء في الدنيا، والأجر في الآخرة للمؤمن، مع أن بعض الصحابة كانوا يتخوفون، لما فتحت الفتوح كان بعضهم يبكي، ويذكر مصعبَ بن عمير حينما استشهد، وأرادوا أن يكفنوه، فما وجدوا إلا بُردًا، إن غطوا رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطوا رجليه ظهر رأسه، فكانوا يخشون أن تكون حسناتهم قد عجلت لهم في الدنيا، ولا شك أن من مات ولم يحصِّل من ذلك شيئًا كالأولين كحمزة ، ومصعب، وأمثال هؤلاء ممن قتلوا، أو ماتوا في أول الإسلام، ووجدوا المشقة، والأذى، وهاجروا من ديارهم، لا شك أن أجرهم أوفى عند الله -تبارك وتعالى.

قال: وفي رواية: إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة، يُعطَى بها في الدنيا، ويُجزَى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله تعالى في الدنيا، لاحظوا هنا في هذه الرواية: بالقيد: ما عمل لله، لكن نحن إذا قلنا بأن الإنسان يؤجر في أمور هي من قبيل العمل الصالح أصلاً، ولو لم يكن له فيها نية، كبر الوالدين، فإن هذا الكافر إذا بر والديه، يجد أثر ذلك في حياته، وفي معيشته، وهكذا.

فالشاهد: يقول: حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يُجزى بها، وقد تكون الأشياء التي عُجلت لهذا الكافر: السمعة، يكون له ذكر وسمعة جيدة عند قومه، أو عند كثير من الناس، ويعلقون صوره، ويجعلونه في دعايات لرعاية الطفولة، أو لرعاية كذا، ويكون هذا مما عجل له في الدنيا -نسأل الله العافية، والكفار أصلاً هذه غاية بالنسبة إليهم، أن الإنسان يوضع في هذه الدعايات، وأنه يعرف بأنه إنسان باذل وخيِّر ومحسن، وهم لا يريدون ما عند الله -تبارك وتعالى.

الشاهد هنا أيضاً في قول النبي ﷺ عن المؤمن: ويُعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته، هذا يدل أيضاً على أن الأعمال الصالحة، وأن طاعة الله تكون سببًا في الرزق، والنبي ﷺ قال: إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه[10]، فالذنوب تكون سببًا لحرمان الرزق، والله قال: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ [طه:132]، وقد استنبط منها بعض أهل العلم: أن الصلاة تكون سببًا للرزق، لكن المؤمن لا يفعل العبادات، ويقصد بها عرضًا من الدنيا، فإنْ فعلها وكان ذلك على سبيل التبع، فإن ذلك لا تبطل معه العبادة في الأمر الذي يجوز الالتفات إليه، بخلاف غيره، يعني: لو أنه عمل العبادة وأراد الذكر عند الناس فهذه تبطل، لكن لو أنه فعل العبادة وأراد مع ذلك أن الله يوسع له في رزقه، أو أن ينسأ له في أثره، ويطيل في عمره، وأن يزكي ماله، وهو يريد ما عند الله، والتقرب إليه، وهو مع ذلك يريد البركة في المال، فهذا يجوز، لكنه دون من عمل الصالحات لا يريد إلا وجه الله -تبارك وتعالى، لا يريد شيئًا آخر في هذه الحياة الدنيا، وكثير من الناس يسأل عن هذه القضايا، يعني: من الناس من يقول: أنا أقرأ القرآن بنية البركة، وبعض النساء بل كثير تقول: أنا أقرأ سورة البقرة بنية الزواج، هل يجوز؟، ولا أدري من أين أخذوا هذا، هل أخذوا هذا لربما من: "أنّ أخذها بركة"[11]؟ ربما.

فالشاهد: أنهم يعملون أعمالا صالحة من أجل أمر دنيوي، تقرأ سورة البقرة لتتزوج، هل هذا يصح، بهذه الطريقة؟ أو يقول: أنا أقرأ سورة البقرة، أو دائمًا قراءتي للقرآن بنية الرقية، بالشفاء؟، فقط هذه هي النية؛ لأمر دنيوي، فهذا ما يصح، ولا يليق بالمؤمن، وهذا هو حظه منها إذا كانت كل قراءته للقرآن بهذه الطريقة، لكنه يقصد التقرب إلى الله ، ويقرن معه بالنية إذا كان ذلك لعارض يحتاج إلى رقية، فأما أن تبقى القضية طول العمر قراءة بنية الرقية فهذا الكلام فيه نظر، ولم يكن من عمل النبي ﷺ، ولا من عمل أصحابه، وهكذا كثير من الناس يحسن ويتصدق، ويقول: بنية الشفاء، هذا يجوز، لكن يقصد به التقرب إلى الله والشفاء، وهكذا، فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا، رقم: (2808).
  2. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء: 23]، رقم: (5101).
  3. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، رقم: (3885)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي ﷺ لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، رقم: (210).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة، رقم: (1418)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات، رقم: (2629).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم: (1006).
  6. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب من أخذ الغصن، وما يؤذي الناس في الطريق، فرمى به، رقم: (2472)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل إزالة الأذى عن الطريق، رقم: (1914).
  7. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، رقم: (3467)، ومسلم، كتاب السلام، باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها، رقم: (2245).
  8. أخرجه الطبراني في المعجم الصغير: (2/ 148)، رقم: (940)، والأوسط: (7/ 56)، رقم: (6835)، والكبير: (19/ 129)، رقم: (282)، والبيهقي في شعب الإيمان: (10/ 263)، باب بر الوالدين، رقم: (7469)، والسنن الصغير: (3/ 191)، كتاب النفقات، باب نفقة الأبوين، رقم: (2895)، والسنن الكبرى: (7/ 787)، جماع أبواب النفقة على الأقارب، باب نفقة الأبوين، رقم: (15742).
  9. أخرجه البخاري، كتاب الأشربة، رقم: (5575)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة، رقم: (2003).
  10. أخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، رقم: (4022)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته: (ص: 209)، رقم: (1452).
  11. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، رقم: (804).

مواد ذات صلة