الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «إن مما أخاف عليكم من بعدي..» ، «إن الدنيا حلوة خضرة..»
تاريخ النشر: ١٧ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 1843
مرات الإستماع: 9102

إن مما أخاف عليكم من بعدي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الزهد في الدنيا أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي سعيد الخدري قال: جلس رسول الله ﷺ على المنبر وجلسنا حوله فقال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها[1]متفق عليه.

قوله ﷺ لأصحابه: إن مما أخاف عليكم من بعدي فـ(من) هنا تبعيضية، فالأشياء التي يتخوفها النبي ﷺ على أصحابه وعلى أمته أمور كثيرة من ذلك أنه كان يخاف عليهم فتنة الدجال، وكان يحذرهم منه، وكان يقول: ما من نبي إلا وقد حذر أمته من الدجال[2] أو كما قال ، إلى غير ذلك مما كان يذكره، كقوله ﷺ: ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء[3].

فهنا النبي ﷺ قال: إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها وزهرة الدنيا يعني: بهجة الدنيا، وقيل لها زهرة؛ لأنها كالزهرة تستهوي من نظر إليها، وتجذبه وتعجبه، وهي كالزهرة أيضاً في سرعة ذبولها وتحولها وتغيرها، ولكنّ الكثيرين ينظرون إلى ما فيها من الحسن والجمال والبهجة فتأسرهم أسراً وتشدهم إليها شدًّا فيقعون في وثاقها، ثم بعد ذلك يغفلون ويلهيهم ذلك عن ذكر الله وطاعته والتقرب إليه ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها وهذا موافق للحديث السابق حيث قال لهم ﷺ: فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم[4].

وإذا حصل هذا التنافس حصل التسارع إلى عرضها الزائل، وحصل بسبب ذلك أيضاً قسوة القلوب، وما يضاف إلى ذلك من الوحشة في قلوب أهل الإيمان والعداوة والبغضاء، فإن الكثيرين إنما صارت علائقهم ومودتهم بسبب هذه الدنيا كما قيل:

وقد صار إقبالُ الورى واحتيالُهم على هذه الدنيا وجمعِ الدراهمِ

وابن عباس  يقول: "صار عامة مؤاخاة الناس على الدنيا" على مصالح وتجارات ومكاسب، ولكن المؤاخاة التي تكون لله وفي الله فحسب هذه قليلة، ويحتاج الإنسان أن ينظر في حاله ونفسه حينما يزور أحداً من الناس هل هذه الزيارة لله فقط، ليس فيها أي مصلحة من مصالح الدنيا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ليس الاجتماع على دنيا كالزمالة في العمل أو التجارة أو نحو ذلك من المصالح المتبادلة، هي زيارة فقط لله خالصة لا يريد غير وجه الله بزيارة هذا الإنسان؟، هذا قليل، لا ننكره لكنه قليل مقارنة بما آل إليه أكثر علائق الناس، ولذلك لا تكاد تجد الزيارات المتبادلة بين الناس التي تنطبع بطابع المؤاخاة في الله فحسب، كل إنسان يكاد يغلق بابه، لا يقف عند بابه أحد، لا ترى الناس يدخلون بيته، انظر، اعتبر هذا في حال من حولك من جيرانك، كل إنسان لاهٍ في الدنيا، فإذا اجتمع مع الآخرين إذا واعدهم إذا التقى بهم غالباً على مصلحة دنيوية، في أرصدة تباع، في سمسرة، في صفقة في كذا، في مساهمة، ويأتي ويتفق معه في هذه المصالح.

إن الدنيا حلوة خضِرة
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: إن الدنيا حلوة خضِرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظرَ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء[1] رواه مسلم.

قوله: الدنيا حلوة خضرة جمع النبي ﷺ بين أمرين في وصفها: الأول هو الحلاوة، وهذه تستهوي الإنسان وتشده، ولعلي ذكرت في بعض المناسبات مثلاً ذكره بعض أهل العلم -ولعله الحافظ ابن حجر- لهذه الحياة الدنيا: مثّلها بإنسان ينطلق وسبع يطارده، فتعلق هذا الإنسان بغصن شجرة، وبينما هو كذلك إذا به ينظر إلى أسفل منه وإذا بحفرة وفيها تنين قد فغر فاه ينتظر متى يسقط، ونظر إلى الغصن الذي تعلق فيه وإذا بأصله -بأصل الغصن- يرى فأرين أسود وأبيض يقرضانه بانتظام بلا توقف، فبدلاً من أن يفكر في الخلاص والمخرج ويعلم أين سيقع نظر وإذا حوله خلية نحل فيها عسل فذاقه، فأعجبه حلاوته فجعل يلعق من هذا العسل، ويلعق من هذا العسل، ونسي ما ينتظره.

فالفأران الأسود والأبيض الليل والنهار يقرضان عمر ابن آدم، والحفرة التي تنتظره هي القبر سيقع فيها في يوم لا محالة، ما في كلام، والذي يطارده -هذا السبع- هو الموت ليس منه مفر ولا مهرب، إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، والحفرة التي دخل فيها غيرنا سندخل فيها لا محالة، وكما شيعنا غيرنا ودفناهم، ونفضنا التراب من أيدينا، سيأتي من يدفننا وينفض التراب، لكن من الذي يفكر، ومن الذي يعقل، ومن الذي ينظر في مستقبله الحقيقي؟!.

فجمع بين حلاوة الطعم وبين ما يستهويهم من جهة المنظر وهي الخضرة، فالخضرة هي أحسن الألوان، وأعظم ما يكون مناسبة لمرأى العين، فالإنسان إذا رأى منظر الخضرة ابتهج وسر وانشرح صدره، ولهذا يحب الإنسان الأماكن الخضراء، وإذا نزل المطر بأرض وأنبتت الربيع خرج الناس وانجفلوا إليه، كل ذلك من أجل أنهم رأوا خضرة يسيرة يمتعون بها أبصارهم، فالدنيا حلوة خضرة تستهوي، لكن ذلك لا يلبث إلا قليلاً.

وإن الله مستخلفكم فيها فينظرَ كيف تعملون مستخلفكم فيها كما قال : قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ  [الأعراف:129] في تعاطيكم مع هذه الدنيا كيف تكتسبون المال، وكيف تتصرفون فيه وكيف تنفقونه، وكيف تقومون بوظائف العبودية مع هذه الشهوات والملهيات وما ركب في الغرائز من دواعي الإقبال عليها، كل ذلك فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ينظر، وكل فترة يأتي طُعم جديد من هذه الدنيا، ينظر كيف يتصرف هذه صفقة لكن فيها شبهة، هذه أسهم فيها شبهة، وانظر إلى تهافت الناس على الأسهم المحرمة شيء هائل، إذا جاءت مساهمة شيء عجيب في إقبالهم عليه، وهي كم؟، كم يعطونه في السهم؟ عشرة، وكم قيمة السهم؟، وكم سيحصّل من الفقر من وراء هذه الأسهم؟، أسأل الله أن يفتح على المؤمنين من خزائن فضله من المباح الطيب الذي لا يشغلهم ولا يفتنهم، شيء هائل يتعجب الإنسان منه إلى اليوم، الذي يريد أن يستأجر بطاقة واحد، أول مرة أرى بطاقة تُستأجر لأجل أن يقدم أسماء له، والذي يريد أن يَدخل شريكًا يأخذ بطاقته ويُدخله مع شريك، والذي يريد أن يأخذها من باب الهبة يقول..، ما هذا التنافس عليها؟، وما هذا الحرص على فتات الفتات؟، ماذا سيجني من وراء العشرة الأسهم هذه؟ ولا أجرة عامل يمسح السيارة، يعني: يروح يكتب ورقة لأجل أن يساهم فيها، هل هذه مساهمة؟ لكن حب الدنيا، فكيف بهؤلاء لو أتيحت لهم المليارات والملايين ماذا سيصنعون؟ شيء عجيب.

فيقول: إن الدنيا حلوة خضِرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا ثم قال:واتقوا النساء والنساء من الدنيا لكنه خصهن؛ لأنهن أعظم فتنة الدنيا، كما قال النبي ﷺ: فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء[2]، ولهذا كان بعض أعداء الإسلام يقول: كأس وغانية تفعل في المسلمين أكثر مما يفعله ألف مدفع، فالمرأة يمكن أن تستهوي الإنسان وتصرفه عما هو بصدده من طاعة الله وتوقعه في ألوان من الرذائل والأمور التي ترديه وتذهب بشرفه وكرامته، وكم من إنسان ضيع أهله وطار لبه وصار أسيراً لامرأة، وضيع أولاده وبذل ماله وكل ذلك من أجل امرأة يذهب حسنُها وجمالها وما فيها من البهجة، ولربما فتن الرجل بامرأة دون امرأته بمراحل، لا تساويها لا في الجمال، ولا في الأخلاق، ولا في نسبها، وشرفها ولا في دينها، ومع ذلك يفتن غاية الفتنة، فهذه فتنة عظيمة.

وذكرت في بعض المناسبات أحوال بعض هؤلاء، لربما مثلما قال الفرزدق وغير الفرزدق حينما تعرضت له امرأة، فوقع عليها دون أن يشعر أنها امرأته، فلما أخبرته قال: ما ألذّكِ حراماً وما أقبحك حلالاً، نسأل الله العافية.

والآخر الذي تعرضت له امرأته في مكان خرب كان يقف ويصطاد النساء فيه عند غروب الشمس، فدخلت معه وهو لا يعرفها، محتشمة متغطية، فلما قضى وطره وخرجت قبله إلى البيت جاء فقالت: أين كنت؟ قال: أنا كنت عند فلان، فقالت: وما فعلتَ؟، ومن هي المرأة التي دخلت عليك؟، قال: أيّ امرأة؟ أنت دائماً تشكين وتتهمين وكذا، فقالت: إنها هي التي دخلت معه وكذا، لكن هذا كان سبباً لتوبته؛ لأنه كان مستمتعًا بها جدًّا، وجاء لامرأته وهو زاهد فيها، والتي دخلت عليه كانت امرأته، فالشاهد أن فتنة النساء فتنة لا تقاوم، ولا عاصم من ذلك إلا من عصمه الله .

ولا نعلم زماناً صارت فيه هذه الفتنة أكثر خطراً من هذا العصر، والسبب أن الناس صاروا يرون ذلك، يعني: في القديم ماذا سيصنع؟، يرى امرأة تعجبه لربما في أطمارها أو في ثيابها، أو نحو ذلك فيواقعها، أما اليوم فعبر القنوات، قنوات إباحية، قنوات أخرى لربما تفعل أكثر من القنوات الإباحية مما يقارب الفاحشة ولكنه يكون كالذي يقرب للعطشان الشراب، ثم بعد ذلك لا يشفي منه غليلاً، فيبدأ يتتبع كالذي يتبع السراب، ثم بعد ذلك تجدون في مواقع كثيرة في الإنترنت هذا البلوتوث، ممكن طلاب الابتدائية يرون أشياء لا يعرفها آباؤهم ولا تخطر لهم على بال، فمثل هؤلاء حينما يرى الإنسان هذه المشاهد بغاية الفتنة والإغراء، ما الذي يبقى من قلبه؟، ما الذي يبقى من إيمانه؟، ما الذي يتماسك من دينه؟، نسأل الله العافية، يُمسخ مسخاً ويتحول إلى حال أشبه ما يكون بالحيوان يبحث عن شهوته بأي طريقة، وأعرف من الوقائع وإن كان لا يحسن التحديث بتفاصيل ذلك، أعرف من الوقائع من الوقوع على المحارم من الأم فما دونها بسبب هذا، والذين يحدثون بهذا هم أصحاب المشكلة، لا أنقله بوسائط، السبب أنه يخرج مثل الأعمى يريد أن يطفئ هذه الشهوة. اتقوا الدنيا واتقوا النساء وكلمة اتقوا هذه كلمة في غاية البلاغة اتقوا اجعل بينك وبينها وقاية، بمعنى تباعد، ما قال: لا تقارف، قال: اتقوا فكيف تتقيها؟ بغض البصر، التباعد عن محادثة النساء ومخالطتهن، التباعد، من عرض نفسه للفتنة أولاً لم ينجُ منها آخراً، لا تقل: هذه في البداية علاقة عادية، هذه في البداية كذا، علاقة عمل، أتصل بها من أجل مصلحة العمل، من أجل كذا، من أجل أن أنصحها، لا تقل هذا، هذه حبائل الشيطان، هذا الفخ، هذا حبل المشنقة الذي يضعه الشيطان، ثم يشدك شيئاً فشيئاً حتى تختنق، ثم بعد ذلك يقضي عليك، فإذا سحب الإنسان في هذه الفتنة -نسأل الله العافية- انكسر، وبعد ذلك قد لا تنهض له همة في طاعة ولا يوفق لكثير من الأعمال، فالقضية خطيرة اتقوا الدنيا واتقوا النساء.

أسأل الله أن يحفظنا وإياكم وذرارينا وإخواننا المسلمين بحفظه، وأن يكلأنا برعايته، وأن يقينا وإياكم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يفيض على المسلمين من بركاته وجوده ورحماته ما يغنيهم به عن الحرام، وأن يعيذنا وإياكم من شر الشيطان وشركه.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الرقاق، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساء، (4/ 2098)، برقم: (2742).
  2. المصدر السابق.

مواد ذات صلة