الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «تعس عبد الدينار..»
تاريخ النشر: ٠٧ / ربيع الأوّل / ١٤٢٩
التحميل: 3142
مرات الإستماع: 64089

تعس عبد الدينار والدرهم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الزهد أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إنْ أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ[1] رواه البخاري.

قوله ﷺ: تعس عبد الدينار ومعنى تعس عبد الدينار يعني: الذي يتعلق قلبه بالمال سواء كان ديناراً أو ريالاً أو دولاراً أو غير ذلك، بحيث إنه يكون مسخراً لهذا المال يتفانى في جمعه من غير نظر في طرق تحصيله هل هو من الحلال أو من الحرام، وإذا وقع في يده فقلبه مشغول بهذا الدينار، فهو يخاف عليه البوائق، ويخاف عليه التحول من يده إلى يد غيره، وقد يصل الأمر ببعض هؤلاء كما صرح به بعضهم أنه لا يستطيع حتى في البيع والشراء فضلاً عن الصدقة أن يدفع لأحد بنقد، وإنما يقول: لا أقوى على نفسي فيشتري أو يبيع عن طريق البطاقة، أو عن طريق الشيكات ويقول: لا أستطيع أن أدفع النقد، هذا وُجد، هو يصرح بهذا عن نفسه، فبلغ التعلق بالمال إلى هذا الحد، ثم بعد ذلك لا يؤدي حقوق الله -تبارك وتعالى- بهذا المال، فيمنع الزكاة الواجبة والنفقات الواجبة فضلاً عن النفقات المستحبة، فإذا كان الإنسان بهذه المثابة يقطع الأرحام ويقطع ما أمر الله بصلته ويقارف كل ما لا يليق من أجل تحصيل هذا المال فإنه يكون بهذه الحال عبداً للدينار والدرهم.

تعس عبد الدينار فهو وإن لم يصل للدينار ويسجد، لكنه في الواقع قد عبّد قلبه ونفسه و جوارحه لهذا الدينار، فحياته مسخرة من أجل كسبه، والحلال عنده ما حل باليد بغير نظر في طرق هذا الاكتساب، أهله لا يعرفونه، جيرانه لا يعرفونه، قراباته لا يعرفونه، المسجد لا يعرفه، وإن صلى فقلبه مشغول، يصلي وهو يحسب الحسابات ويخطط للصفقات، فمثل هذا يكون عبداً للدينار بهذا الاعتبار، فالعبودية هي عبودية القلب، والحرية هي حرية القلب، فمن كان قلبه مسترَقاً للدينار والدرهم فإنه في حال كما وصف النبي ﷺ، تعس عبد الدينار أي: هلك عبد الدينار والدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم.

قال: والقطيفة كما في الرواية الأخرى تعس عبد القطيفة وهي الثوب الذي قد أخمل يقال له: قطيفة، تعس عبد القطيفة بمعنى أن هذه القطيفة كما قال القرطبي -رحمه الله: من الناس من ترتبط همته وترتفع بثوب يلبسه أو بمركب يركبه، فالمرأة -مثلاً- حينما تستعبدها الأزياء، ويتعلق قلبها بها، وتبقى مشغولة تتبع آخر الصيحات والموضات، وما أنتجته دور الأزياء العالمية، وتقتني الكتلوجات وحياتها مسخرة في هذا، وفي كل مرة إذا لبست شيئاً فإنها لا تعود إلى لبسه مرة ثانية؛ لأن الناس قد رأوه عليها، فما عندها من أموال، ما عندها من أوقات، ما عندها من تفكير، ما عندها من اشتغال، من ذكاء كل ذلك مختزل جميع الاهتمامات في هذه الحياة بالأزياء، ما هي آخر الصيحات، ما هي آخر الموضات، فهي مشغولة بها، سواء كانت ترضي الله أو لا ترضي الله، سواء كانت هذه باهظة الثمن أو لا، لربما وصل الحال بالمرأة أن تفصل الثوب لربما بمئات الألوف وتفتخر، وقد لا يكون فيه شيء زائد إلا أنّ مِن الدور ما وُضع وهُيئ ليكون لطبقات يكون دفع المليون عندهم كدفع الريال أصلاً، ولو قيل لهم: هذا زهيد الثمن ما اشتروه ولا قبلوا به، وإنما هي تريد أن تقول: إن هذا قد فصل بالبلد الفلاني، فصل بسويسراً، بباريس، في لندن قد لا يساوي خمسمائة ريال لا في مادته -في قماشه، ولا في طريقة تفصيله، بل لو قيل لعاقل: خذه بعشرة ريالات ما قبله، لكن يكفي أنه خرج من تلك الدار كما هو معلوم.

ويذكره أصحاب المتاجر، تجد الثوب الواحد عند التاجر الواحد يوجد في مكانين، عنده محل لا يأتيه إلا أناس من أهل الرفاهية من أهل النعيم، يبيع نفس هذا الثوب أو هذا القميص بثمانمائة ريال، ويوجد في سوق شعبي آخر لنفس البائع -هو يصرح بهذا- بخمسة وعشرين ريالا، نفسه، هو يصرح بهذا، البائع أحياناً حينما تأتيه تقول: هذا يوجد بخمسة وعشرين ريالا يقول: لا، في فرق في الخام، في فرق في التفصيل، هذه أمور قد لا تدركها أنت، وتضيع في هذه الأشياء التي قالها، ولربما استخرج لك عيوباً دقيقة قد لا يشاهدها الإنسان العادي، يقول: هؤلاء يأتون بأشياء يقال لها: "استُكّات" أو فيها عيوب بسيطة في التصنيع تنزل قيمتها -مثلاً- من خمسمائة ريال إلى أربعين ريالا، ويشترونها من البلاد المنتجة ويأتون بها ويبيعونها، ويربحون كثيراً أيضاً، ويوجد أشياء تقليد، هذه الحقيبة التي تضعها المرأة في خاصرتها، يمكن أن تشتريها بسبعة آلاف، بثمانية آلاف، بعشرة آلاف، بأكثر؛ لأنها ماركة، ويوجد نفس هذه إلا أنها مقلدة فقط ونفس الشعار بعشرين ريالا، فالمقصود أنه حينما تكون القلوب معلقة بهذه الأمور يسخر الإنسان جهوده وأمواله من أجل هذا، ماذا تكون هذه المرأة؟ كل مدة قصيرة تخرج هذا القميص أو الفستان وتنظر إليه، معجبة به، فتلبسه تارة وتنظر في المرآة ثم تخلعه وهكذا، هذه حياة؟!.

تعس عبد الخميلة قد نستغرب حينما نسمع هذا الكلام كيف يكون الإنسان عبدًا للخميلة؟، وكيف يكون الإنسان عبداً أيضاً للخميصة -وهي الكساء المربع-؟ انظروا إلى حال بعض النساء تعرفوا كيف يكون الإنسان عبداً للثياب.

قال: تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعطَ لم يرضَ هذه الأشياء ليست للحصر، القطيفة، والخميصة، والدينار والدرهم إنما هي على سبيل التمثيل، ولك أن تقول: تعس عبد السيارة، تعس عبد العقار، تعس عبد الملاهي، تعس عبد الصور الذي يتعلق بالصور الجميلة، سواء الرجال أو النساء، قد يكون الرجل عبداً لامرأة يعشقها، بل قد يصرح يقول: أقدم لك عبوديتي، بل قال أحدهم في امرأة له حينما طلقها وندم، قال أبياتاً مكسرة وكان في ضمنها يقول: أنت قِبلتي، وأنت صلاتي، هذا الذي حفظته من هذه القصيدة أنت قبلتي، وأنت صلاتي، هل يعقل هذا؟، يقوله إنسان لامرأة تذهب إلى الخلاء، وتنام وتتغير ويحصل لها ما يحصل للإنسان، أنت قبلتي، وأنت صلاتي؟!، ولكن النفس والقلب إذا كان فارغاً من معرفة الله تعاظمت هذه الأمور في قلبه، فصارت حُجبًا تحجبه عن الله والدار الآخرة.

وهكذا الذين يتعلقون بالصور قد يرسل لصاحبه في الجوال الذي يعشقه ويظنها أخوّة في الله، أو البنت ترسل لصاحبتها، أو شاب يتعلق بفتاة، عبارات لا تصلح أبداً من جهة العقيدة، بل بعضهم يقول: ليتني أحب الله كما أحبكَ، وآخر يقول: ليتني أحب النبي ﷺ كما أحبكَ، وآخر يقول: لا أريد أن أدخل الجنة إذا ما كنتَ معي فيها، إلى هذا الحد؟!، فهذا ماذا يقال له؟ يقال له: عبد الصورة.

هذه الأمور التي ذكرها النبي ﷺ تعلَّقَ القلب بها من نتيجة ذلك قال: إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ بمعنى: أن الرضا عنده والسخط ليس متعلقاً بمحابّ الله ومساخطه، ليس متعلقاً بانتصار الإسلام، وظهور الدين على سائر الأديان أو نحو ذلك، إنما ذلك مرتبط عنده بالأخذ والمنع، كما قال الله عن المنافقين: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ [الأحزاب:19] بمعنى: أنهم لا يقدمون شيئاً على قول الجمهور في تفسير الآية، لا يقدمون لكم شيئاً لا مالا، ولا رأيًا، ولا غير ذلك مما تنتفعون به.

وقال عنهم: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أعطونا، أعطونا، أعطونا، أعطونا، يعني: من الغنائم مما أفاء الله عليكم، ويقول: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58]، هذه صفتهم، فالرضا والسخط عندهم بالعطاء، ولذا وُجد طائفة يقال لها: المؤلفة قلوبهم، وهؤلاء من غير المسلمين مَن يُتألفون على الإسلام، إما استجلاباً، وإما دفعاً لشرهم، وقد يعطى بعض ضعفاء الإيمان ممن يرف قلبه لهذه العطايا، ويتعلق بها ويتشوف إليها، ولهذا لما أعطى النبي ﷺ كبراء المشركين وحدثاء العهد بالإسلام من كبراء قريش، وغيرهم من مسلمة الفتح، أعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى معاوية مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وعيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى العباس بن مرداس أقل من هذا فقال: 

أتجعلُ نهبي ونهب العُبيد بين عُيينةَ والأقرعِ
وما كنتُ دون امرئٍ منهما ومَن تضعِ اليوم لا يُرفعِ

يقول: ماذا سيقولون عني؟، أعطاني أقل منهم، فقال النبي ﷺ: اقطعوا عني لسانه[2].
فكملوا له المائة، فهؤلاء الذين لم تتشرب نفوسهم الإيمان تتعلق قلوبهم بهذه العطايا، ولذلك لما حسن إسلام هؤلاء ما كانوا بهذه المثابة، فلما رجع النبي ﷺ من الفتح قالوا: إن محمداً ﷺ يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ولما أراد النبي ﷺ أن يعوض صفوان بن أمية -وقد أعطاه مائة من الإبل، كما أعطى الحارث بن هشام، وأمثال هؤلاء، وكان استعار منه النبي ﷺ أدرعاً، فقال: أعارية يا محمد؟، أعارية مؤداة أو مضمونة؟ فالشاهد أن النبي ﷺ أراد أن يعوضه عن بعض الأدرع التي ضاعت، قال: لا يا رسول الله، إني أجد في قلبي اليوم ما لا أجده قبل ذلك، يعني: طابت نفسي، هي لله.

فأقول: هذا الإنسان الذي يكون عبداً لهذه الأمور يكون رضاه وسخطه بها، ومستعد أن يقارع ويصارع ويعارك ويقاتل ويقاطع، ويقوم في المسجد يخطب أمام الجماعة يتبرأ من أولاد أخيه، أو من أولاد أخته، وينابذهم، ويتكلم بكلام يستحي السامع من سماعه، يُشهد الجماعة أنه بريء من أولاد أخيه، وهذا موجود وحصل.

تتبرأ منهم أمام جماعة المسجد لماذا؟ تخاصَمْ معهم عند القاضي إن كان ولابد، لكن براءة وقطيعة من أجل ماذا؟ من أجل أشبار من الأرض، هي الأرض كلها صغيرة لا تتجاوز مائتي متر، وعلى جبل مدرج، والزرع الذي يزرع فيها كم يُخرج؟ كيسين من البر، ويقوم يخطب على شبرين أو ثلاثة أشبار يتبرأ من قرابته، هذا عبد الدينار وعبد الدرهم، لو أن أحدًا أخذ منه شيئاً يسيراً، أو لمس سيارته -حكّها- أو أخذ عليه شيئاً من المال، قامت الدنيا ولم تقعد -نسأل الله العافية.

أنا رأيت من يحجّر على سيارته، إذا وقف يضع حصى شيئًا هائلا، إذا رأيته تقول: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم حوالينا ولا علينا، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لا تتكلم معه، ولا تقْرب له شيئًا، أو تلمس له حلالا من هذا المال، هذه مشكلة كبيرة لا تستطيع أن تتخلص، وكل يوم الشرطة يأتون يوم على هذا الجار، ويوم على هذا الجار، وهذا الولد لمس السيارة، وهذا الولد رمى حجرًا في البيت، وهكذا مع الجيران، وعند البيت حصى من أجل ألا يقف أحد في حدود البيت، هذا ماذا يقال له؟ يقال له: هذا عبد الدينار، عبد الدرهم، عبد البيت، عبد السيارة، هذه هي العبودية عبودية القلب، قلبه مشغول بهذا، فإن صلى فهو لا يفقه ما صلى، ترى حاله من الصلاة إذا صليت بجانبه أحياناً تكاد تقطع صلاتك، وتخرج منها من أجل كثرة انشغاله وحركته، والله المستعان.

نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، (4/ 34)، برقم: (2886).
  2. دلائل النبوة للبيهقي (5/ 183).

مواد ذات صلة