الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث "لقد رأيت سبعين من أهل الصفة.."
تاريخ النشر: ٠٩ / ربيع الأوّل / ١٤٢٩
التحميل: 1506
مرات الإستماع: 3515

لقد رأيت سبعين من أهل الصفة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الزهد في الدنيا أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد رَبطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته[1] رواه البخاري.

أبو هريرة كان من فقراء الصحابة، وكان إسلامه متأخراً بعض الشيء، حيث قدم على النبي ﷺ في عام خيبر ولزمه ملازمة تامة على ملء بطنه، ما كان عنده شيء من الدنيا حتى إنه كان يصرع بمسجد رسول الله ﷺ من شدة الجوع، ولربما جاء الرجل وجلس على صدره وخنقه يظن أن به مسًّا، وليس به بأس، وإنما هو الجوع.

وكان لربما تبع عقيل بن أبي طالب وكان رجلاً جواداً كريماً يحب الفقراء، فيخرج ويتعرض له هو وبعض فقراء أهل الصفة، يتعرضون له، فرآهم ذات مرة، فدعاهم فلم يجد شيئاً في بيته، أعني عقيلاً ما وجد شيئاً فأخرج لهم عُكّة -وهي التي يوضع فيها السمن، معروفة- ليس بها شيء فشقها واعتذر إليهم، فجعلوا يلعقون بأصابعهم، ما عندهم شيء.

وها هو يقول : "لقد رأيت سبعين من أهل الصفة" والصفة سقيفة في آخر مسجد رسول الله ﷺ يجتمع بها فقراء المهاجرين، تركوا كل شيء وراء أظهرهم، ما عندهم شيء، هاجروا لله وكانوا يتفاوتون في العدد يزيدون وينقصون، جاءوا نصرة لله ولدينه ولرسوله ﷺ، ومعلوم أنه خرج منهم مجموعة يقربون من السبعين أو خرج سبعون، وحصل الغدر بهم، وذلك في وقعة بئر معونة، قُتلوا، وكانوا من القراء ، فأبو هريرة  يصف سبعين غير الذين قتلوا؛ لأن هؤلاء قُتلوا قبل أن يأتي، كانت وقعة بئر معونة والرجيع بين أُحد والخندق، فالشاهد أنه يتحدث عما شاهده بعد ذلك.

يقول: رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء، يعني: ليس لأحد منهم ثوبان إزار ورداء، ما عندهم، إما إزار فقط أو كساء أي: ثوب عريض، ليس الثوب الذي نلبسه هذا يقال له قميص، وإنما قطعة قماش عريضة يربطها بعنقه وتستر عورته هكذا.

يقول: "وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم" ربطوا الكساء في أعناقهم "فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده، كراهية أن تُرى عورته" وفي بعض الروايات أنه إذا سجد قال بيده من أجل ألا ينكمش الإزار أو الكساء فتظهر عورته لشدة قصره.

هؤلاء هم الذين فتحوا الأمصار والممالك، وهم الذين انتصروا على فارس والروم، وهم الذين أدبوا الملوك والكبراء والجبابرة من أعداء الله ، وما كانوا يتمتعون بالدنيا، وما كانوا يتوسعون فيها، وما كانوا يجدون تلك المتع واللذات التي أفاضها الله على من بعدهم.

وكانوا لا يجدون بلغةً يسدون بها الرمق، والنبي ﷺ وهو أكرم الخلق على الله يخرج ويجد أبا بكر وعمر فيسألهما وهما خير الأمة بعد النبي ﷺ ما أخرجكما؟فيقولان: والله ما أخرجنا إلا الجوع، فيقول: وأنا والله ما أخرجني إلا الجوع فيذهبون إلى رجل من الأنصار يأتيهم بعذق من رطب، ثم يذهب ويذبح لهم شاة أو نحو ذلك، ثم بعد أن أكلوا يقول لهم النبي ﷺ: والله لتسألن يوم القيامة عن هذا النعيم[2].

فكيف بنا في هذه النعم المستفيضة؟، وقد ذكر بعض الإخوان في بعض الأماكن أن سيارته قد علقت ليلاً في الرمال، وكانوا قد ذهبوا إلى مكان قد اجتمع فيه أناس كثير، فلما أصبحوا وأرادوا أن يخرجوها، وإذا هي بمكان قد ملئ من اللحم والطعام، وأهيل عليه التراب، فمرت به سيارتهم فنزلت، وهذا موجود، موجود ولكن خفف من هذه الظاهرة بعض الشيء وجود هذه المستودعات الخيرية، والمبرات والجمعيات التي صارت تأخذ هذا الطعام وتعطيه للمحتاجين والفقراء، وإلا كان هذا يرمى في المزابل.

فأقول: لو كانت الدنيا تعني شيئاً عند الله ، لو كان العطاء على قدر الإنسان وتقواه ومحبة الله له كان أعظم الناس سعة في الدنيا وعطاء هو رسول الله ﷺ ومن معه من أصحابه من أهل الصفة وغيرهم، لكن الدنيا لا تعني شيئاً والعطاء منها لا يدل على كرامة العبد على ربه -تبارك وتعالى، فمن فاته منها شيء فلا تذهب نفسه حسرات، فهذا أكرم الخلق ﷺ ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبه، ويبيت ﷺ يبقى الهلال والهلال والهلال، وما يوقد في بيته نار، ما عندهم شيء، وما شبع ﷺ قط من الطعام الذي نجده.

هذا الخبز المنقى المصفى الأبيض الطري ما عرفوه في وقتهم، ولما فتحوا فارس لما وجدوا الكافور وضعوه في الطعام، يظنونه ملحاً، ما عرفوه، ولما أسر أحدُهم أحدَ قادة الفرس الكبار -أحد فرسانهم- قال له: اطلب ما تشاء، وهو لا يعرفه، لكن لما رأى زينته وثيابه طمع فيه، قال: اطلب ما تشاء وأعطيك فتطلقني: فقال له: بألف.

هو لا يدري ماذا يقول، لا يعرف الأرقام الكبيرة، والحسابات العظيمة، فحاول أن يظهر رقماً كبيراً، فقال له ذلك.

هكذا كانت حياتهم، وما ضرهم، فالأجساد المنعمة المترفة ليس ذلك سمة مدح وثناء يتوجه إليها إطلاقاً، إنما قيمة الإنسان هي بقدر ما يحمله من الإيمان والتقوى والخوف من الله ومحبته والإقبال عليه.

وهؤلاء هم كرام الخلق على الله ، هذه حياتهم، وليس معنى ذلك أن الإنسان يترك الطيبات، أنا لا أقصد ذلك، ولكن أقصد ألا يقيس الناس بالمقاييس المادية، وألا تذهب نفسه حسرات على ما فات منها، أنا ما عندي ملايين مثل فلان، أنا ما عندي كذا، أنا ما عندي كذا، اطمئن، وأيضاً ألا يتهافت الإنسان على الدنيا فتكون هي أكبر همه، مشغول دائماً بجمعها وطلبها.

لكن لا يعرض الإنسان عن الطيبات التي عنده، كان النبي ﷺ يحب الحلو البارد[3]، وإذا تيسر له شيء أكل منه ﷺ.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لكن فرق بين هذا، وبين تحول المقاييس بقدر ما يلبس الإنسان ويأكل ويبني ويملك في رصيده أن هذه منزلته، يصير أبا فلان إذا صار عنده أرصدة، ويقوم له الناس ويعظمونه وكذا، لا، قيمته هي ما يحسنه، تقوى الله والخوف منه، هذه الأمور هي المقصودة، لا أن الإنسان يقول: أنا أنام على حصير وعنده فراش جيد، ما قلنا هذا، وليس هذا هو المراد.

فأسأل الله ألا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنياناً.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب نوم الرجال في المسجد، (1/ 96)، برقم: (442).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، (3/ 1609)، برقم: (2038).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الأشربة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أي الشراب كان أحب إلى رسول الله ﷺ (4/ 307)، رقم: (1895).

مواد ذات صلة