الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث "رأيت رسول الله ﷺ يظل اليوم يلتوي.." ، "توفي رسول الله ﷺ وما في بيتي.."
تاريخ النشر: ١٧ / ربيع الأوّل / ١٤٢٩
التحميل: 1726
مرات الإستماع: 6567

رأيت رسول الله ﷺ، يظل اليوم يلتوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الزهد أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث النعمان بن بشير -ا- قال: ذكر عمر بن الخطاب ، ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله ﷺ، يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطنه[1]، رواه مسلم.

ذكر عمر   ما أصاب الناس من الدنيا، أي: ما حصل لهم من الغنى والسعة والمال، وما إلى ذلك مما أنعم الله به على المسلمين، حينما فتح عليهم الفتوح.

فيقول: لقد رأيت رسول الله ﷺ، يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطنه.

يلتوي يعني: من الجوع، ما يجد من الدَّقَل، والدَّقَل هو التمر الرديء، من أي نوع كان يقال له: دَقَل، التمر اليابس الذي لا يلتئم بعضه على بعض، رديء التمر يقال له: دقل، لا يجد من التمر الرديء ما يملأ به بطنه ﷺ وهو أعظم الأمة، وأشرف الأمة، وأكمل الأمة، وأعظمهم منزلة عند الله ما يجد من التمر الرديء، يلتوي من الجوع، فلو كان العطاء من الدنيا يعني منزلة العبد عند الله -تبارك وتعالى- لكان أكثر الناس عَرَضاً هو رسول الله ﷺ.

لو كان العطاء من الدنيا يعني منزلة العبد عند الله -تبارك وتعالى- لكان أكثر الناس عَرَضاً هو رسول الله ﷺ.

توفي رسول الله ﷺ وما في بيتي

وذكر بعده:

حديث عائشة -، قالت: توفي رسول الله ﷺ، وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني[1].

توفي وما في بيتي من شيءٍ يأكله ذو كبدٍ، هذا بيت رسول الله ﷺ بيت أحب زوجاته إليه، وهي الصديقة بنت الصديق، وما في بيتها شيء يأكله ذو كبد يعني: حتى الحيوان، ما في شيء يؤكل إلا شطر شعير في رف، أي: شعير يسير قليل في رف، ومَن اليوم يأكل الشعير؟ شعير قليل في رف، والرف معروف، في رف لي.

قالت: فأكلت منه حتى طال عليّ، أكلت منه يعني: على قلته كانت تأكل منه، إلا أن الله قد جعل فيه البركة، فكان يكفيها، ولا ينفد.

تقول: فأكلت منه حتى طال عليّ، يعني: أكلت زمناً طويلاً، فكِلْته ففني. متفقٌ عليه.

فكلته بالمكيال ففني، كأنه ذهبت بركته، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ذهبت بركته لما كالته.

وهذا لا يعارض قول النبي ﷺ في الحديث الذي أخرجه أحمد وغيره، حيث أمر فيه أو وجّه بكيل الطعام فقال: كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه[2].

 فالمقصود بكيله: يعني عند الشراء، أو عند البيع من أجل الإيفاء، إيفاء الناس الحقوق وألا يَنقص من حقهم شيء، والله يقول: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1]، فعند المعاطاة بالبيع والشراء يكال الطعام، يبارك لكم فيه.

وأما هنا فليس ذلك في مقام البيع والشراء، وإنما في مقام الإحصاء، فالذي يكيل الطعام الذي عنده أو إن كان شيئاً معدوداً يجلس يعد كم بقي من حبة، فهذا يدل على الحرص، وإذا وُجد هذا الحرص فقد يكون ذلك سبباً لنزع البركة، ولهذا قال النبي ﷺ: لا تحصِي فيحصي الله عليكِ، ولا توكي فيوكي الله عليكِ[3].

وهذه قضايا مهمة جدًّا في البركة لمن يطلب البركة في الرزق، وفي المال، وفي الطعام في بيته، ونحو ذلك، فإذا جلس الإنسان يعد كم بقي، وهذه لكذا، وهذه لكذا، وهذه لكذا، وهذه أوفرها لكذا، ويجلس يعد وكل يوم يفتح الحساب ينظر كم بقي منه، كم نقص، كم صرف من ريال أو مائة، أو نحو هذا أو وضعها في صندوق، وكل يوم يعد ما بقي منها، فهذا قد تُنزع منه البركة وتتلاشى وتطير لا يعرف كيف ذهبت، لا تحصي فيحصي الله عليكِ، ولا توكي فيوكي الله عليكِ[4].

وليس المقصود أن الإنسان يتعامل بشيء من التوسع، أو يكون أخرق في التصرف في المال، لكن يصرف المال في مصارفه الصحيحة، ويتصدق ولا يجلس يحصي إحصاء الشحيح كم بقي، ولهذا لما جاء رجل إلى النبي ﷺ كما روى مسلم في صحيحه فسأله سأل النبيَّ ﷺ فأعطاه النبي ﷺ شطر وسق من شعير، فأخذه الرجل فجعل يأكل منه هو وزوجته وضيفه -يعني الضيوف الذين يأتون- وهو لا يفنى، فقام فكاله، فنفد، فجاء إلى النبي ﷺ يسأل مرة ثانية، فسأله النبي ﷺ عن ذلك يعني قال له: هل كِلته؟ قال: نعم، قال: أمَا إنك لو لم تكله لقام لكم[5]. يعني: لبقي لكم، وهذا في صحيح مسلم، أو كما قال ﷺ.

وهكذا في أمور شتى لما ذهب النبي ﷺ في غزوة تبوك أخبرهم أنه سيأتي على عين تبوك، ونهى أن يسبقه أحد إلى الماء، فجاء فوجد رجلين فسألهما هل حركا الماء، أو هل أخذا من الماء؟ فقالا: نعم، فسبهما النبي ﷺ، هذا كله من أجل البركة، وهكذا أيضاً في حديث جابر بن عبد الله في يوم الخندق لما دعا النبي ﷺ أهل الخندق على عَناق، وشيء من بُرمة صنعها جابر بن عبد الله ، فالنبي ﷺ أمر جابر بن عبد الله أن يسبق، ويقول لامرأته: لا تخرجي ذلك من التنور حتى يكون النبي ﷺ هو الذي يخرجه[6].

فالشاهد أنه كفّى ذلك الطعام ووفى لأهل الخندق جميعاً، فكانوا يدخلون عشرة، عشرة، وما بقي كان في غاية الوفرة، فأطعموا جيرانهم.

وقل مثل ذلك في امرأة يقال لها: أم مالك كانت تهدي النبي ﷺ السمن، فكان يأتي بنوها يطلبون الأُدْم، يعني: الشيء يخلطونه مع الخبز ونحو هذا من أجل أن يأكلوه، يضعون الخبز بالسمن، فما كانت تجد شيئاً، فكانت تعطيهم من الإناء الذي كانت تهدي فيه إلى النبي ﷺ فكانوا يجدون فيه السمن، فعصرته ذات يوم فنفد، فأخبرت النبي ﷺ فسألها هل عصرتيه؟ قالت: نعم، فأخبرها أنها لو لم تفعل لوجدوا فيه ذلك، أي يجدون فيه السمن دائماً كلما أتوا إليه[7].

فالإنسان بمثل هذه التصرفات قد يُذهب البركة، ولهذا نهى النبي ﷺ أن يؤكل من وسط الطعام[8]؛ لأن البركة تنزل فيه وهكذا، فهذه أشياء يحتاج أن يراعيها المسلم.

نسأل الله أن يبارك لنا ولكم بالقرآن العظيم، وأن يبارك لنا ولكم فيما أعطانا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب نفقة نساء النبي ﷺ بعد وفاته، (4/ 81)، برقم: (3097)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2282)، برقم: (2973).
  2. أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب ما يستحب من الكيل (3/ 67)، رقم: (2128).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، (2/ 113)، برقم: (1433).
  4. أخرجه الترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في السخاء (4/ 342)، رقم: (1960)، وأبو داود، كتاب الزكاة، باب في الشح (2/ 133)، رقم: (1699).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي ﷺ، (4/ 1784)، برقم: (2281).
  6. انظر: صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، (5/ 108)، برقم: (4101).
  7.  انظر: مسند أحمد (14740).
  8. انظر سنن الترمذي، أبواب الأطعمة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كراهية الأكل من وسط الطعام (4/ 260)، رقم: (1805).

مواد ذات صلة