الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة..»
تاريخ النشر: ٢٢ / ربيع الأوّل / ١٤٢٩
التحميل: 2048
مرات الإستماع: 31001

لو كانت الدنيا تعدل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما أورده المصنف -رحمه الله- في باب الزهد:

حديث سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله ﷺ: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء[1] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

هذا الحديث أشرت إلى بعض ما يتعلق به عند الكلام على بعض الأحاديث السابقة.

لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة البعوضة لا شأن لها، وجناح البعوضة من باب أولى ألا يكون له شأن، فلو كانت تعدل جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء.

و"لو" تدل على امتناع، دلت على أن ذلك لو كان كما ذكر لامتنع ما ذكره النبي ﷺ يعني: لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، إذاً مفهوم مخالفته: لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولهذا سقى منها الكافر شربة ماء، وأكثر من شربة الماء، وأيضاً هذا الحديث "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء"، شربة الماء لا شأن لها، وهي مما يبذل مجاناً وليس لها عند الناس قيمة، فلو كان للدنيا أدنى قيمة عند الله لما أعطاهم أدنى الأشياء، وهي شربة الماء، فدل ذلك بمجموعه على أن الدنيا عند الله لا شأن لها، وأنها لا تبلغ هذا المقدار وهو جناح البعوضة عند الله ، ولذلك أعطاهم منها ما أعطاهم، فكل هذا الذي يعطيهم من أول الدنيا إلى آخرها وما يعطي لغيرهم كله لا يساوي جناح بعوضة، لو كان لها أدنى قيمة لامتنع على الكافر منها أدنى الأشياء، وإذا عرف المؤمن هذا المعنى اطمأنت نفسه، ولم تذهب حسرات على فائت من هذه الحياة، فليس لها شأن.

فإنها إذا تعاظمت في قلب الإنسان تفرّق عليه قلبه، واجتمعت عليه همومه على ما فاته منها وعلى ما وجد، لربما يتحسر من يتحسر على أنه لم يحصّل فيها ما حصله الآخرون، ولم يكتسب من المكاسب ما حصل لفلان وفلان، وآخرون يتحسرون على ما فاتهم مما حصل لهم من الخسائر في التجارات، وما إلى ذلك، وآخرون لربما تفرقت قلوبهم على ما بأيديهم من الدنيا، خوفاً عليه أن ينقص، أو يستلب، أو يخسر، أو تهتز الأسوار، وتتغير الأسعار، فقلبه يهفو على هذه الدنيا ويشتغل بها وكأنه خلق من أجلها، ولربما إذا نظر الإنسان إلى ما فيه الكفار من التمكين في الحياة الدنيا، وما هم فيه من المتع حيث تيسر لهم وتسهل لهم منها الكثير، ذللت لهم دنياهم، فإن المؤمن الذي ينظر إلى الأمور بنظر سطحي قد يتحسر ويحزن، أولئك أين يعيشون، وكيف حال الأمة فهي بمنأى عن ذلك التمكين، حتى المطر مدرار عليهم، وبلاد في غاية الجمال والزينة، وفيها من المباهج وفيها من الإحكام والإتقان في عمرانها وفي سبلها وطرقها، تأتيهم مصالحهم، وهم في غاية الراحة ما يحتاج أن يشقى من أجل أن يحصل مصلحة من المصالح في معاملة من المعاملات، ما يحتاج، كل شيء يأتيه بأيسر الطرق.

فأقول: إذا تذكر الإنسان هذه المعاني لم يتحسر، وقد تذهب النفس حسرات أيضاً إذا رأى أن هؤلاء الكفار إنما أقاموا حضارتهم وماديتهم والرغد الذي هم فيه على حساب غيرهم، هذه الحضارة التي يقيمونها، وهذا التمكين من أين؟ أموال المسلمين مكدسة عندهم في البنوك يشتغلون بها كما يشاءون، هي مرصودة في بنوكهم، ليست مجمدة في البنوك، هم يعملون فيها ويستثمرونها غاية الاستثمار، يستثمرونها باللحظة، بالثواني تستثمر، فيشيدون منها هذه الحضارة، أضف إلى ذلك ما يستحوذونه من أموال الأمة بالقهر والغلبة والقوة مما نعرفه، ومما لا نعرفه أشياء هائلة، وإن شئت انظر على سبيل المثال إلى أفريقيا بلاد شاسعة خضراء جنات، ومن الذي يستحوذ على ما فيها؟ هم أولئك الكفار، وأهل البلد في غاية الفقر، المزرعة الواحدة من أحدث المزارع تصل إلى أكثر من مائتين وخمسين كيلو متر، أكثر من ساعتين ونصف حتى تقطعها بالسيارة، الإشراف عليها بطائرات صغيرة، مزرعة واحدة تتعب وأنت تمشي في شجر الحبال، شجر الصنوبر، شجر جوز الهند، وهكذا بالسيارات مسافات هائلة، هذه لشخص واحد من هؤلاء الكفار الذين احتلوا تلك البلاد وأخذوا ونهبوا، وهم الذين يسرحون ويمرحون فيها، وأهل البلد في غاية الحرمان.

فالإنسان إذا نظر إلى هذا فإنه قد يحزن، كيف يستحوذ هؤلاء على أموال هؤلاء الفقراء المساكين، الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وإلا ما وجدوا ماءاً يشربونه.

ولهذا قال الله : وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أي: على الكفر لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ۝ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ۝ وَزُخْرُفًا أي: ذهباً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

فلولا خشية افتتان المؤمن بما عند الكافرين لجعل الله بيوت الكفار بهذه الهيئة من الذهب والفضة، فالناس قد فُتنوا بهم وبيوتُهم من الخشب والطوب، فكيف لو كانت بيوتهم من الذهب والفضة؟

ماذا سيصنع كثير من الناس؟.

ولكن رحمة من الله بالمؤمنين أن أعطى الكفار هذا العطاء المحدود، ومع ذلك حصل هذا الافتتان، هذه جنتهم، وأما أهل الإيمان فلهم دار الكرامة، دار النعيم المقيم، وليس معنى ذلك أن يترك الإنسان إقامة الدنيا وعمارتها، وإقامة الحضارة والمحافظة على مكتسبات الأمة وما أشبه ذلك، هذا كله واضح ولابد منه، لكن أنا أتحدث عن القلب، وعن تفرق القلب، وأن يعرف الإنسان حقيقة الدنيا، فما اشتغل كثير من المشتغلين بهذه الحياة، وأشغلتهم عن ذكر الله، وعن طاعته وعبادته إلا لأنهم ما عرفوا حقيقتها، فقطع القريب قراباته، وحصل بين الناس الشرور، والآثام، وتكالبوا على الكسب الحرام، وحصلت الشحناء بين أفراد المجتمع، كل ذلك بسبب هذه الحياة الدنيا.

تجد الرجل لربما يكون طالب علم يشتغل بالعلم يفتح له ضيعة أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك ما يلبث أن ينشغل، ثم شيئاً فشيئاً، فيبحر مع ضيعته هذه حتى يلهو، فينشغل عن العلم، ثم ينشغل عن العمل، ثم ينشغل عن أهله، كل هذا من أجل شيء لا يذكر.

فنسأل الله أن يبصرنا وإياكم بما ينفعنا، وألا يلهينا عن طاعته وذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله (4/ 560)، برقم: (2320)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2/ 299)، برقم: (686).

مواد ذات صلة