الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب (3-3)
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 1593
مرات الإستماع: 2037

قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب فضل الجوع وخشونة العيش أورد المصنف -رحمه الله تعالى- قوله -تبارك وتعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء:18]، مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ، أي: الدنيا، وقيل لها العاجلة؛ لسرعة تقضّيها ولسرعة زوالها، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55]، فإذا قارنتها بالآخرة فهي كالأحلام وكالسراب الذي ينقشع ويزول وما يلبث، والآخرة هي دار الخلود والبقاء الأبدي السرمدي بلا انتهاء.

مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ، يدل على أن هذه الإرادة تتجدد، فهو في كل شيء يقدم عليه في كل عمل من الأعمال تتجدد له هذه الإرادة.

عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ، هذه الآية في سورة الإسراء مقيدة بقيدين عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء، لا يُعطَى كل ما يريد وكل ما يتمنى، وأيضاً ليس كل طالب لهذه الحياة الدنيا يُعطَى، وإنما لِمَن نُّرِيدُ.

فالقيدان: الأول: في العطاء، عجلنا ما نشاء من العطاء، والقيد الثاني: في المعطيْن، في الطالبين، في الراغبين في الدنيا، لا يُعطَى كل من رغب، وإنما لمن نريد وفق حكمته -تبارك وتعالى، وإلا فالكثير من الخلق إنما مقصودهم الأعظم ومطلوبهم في النهاية هو الحياة الدنيا وحولها يدورون، آمالهم تدور عليها، وبعضهم يتشحط بالفقر والمسغبة والحاجة، ولم يُعطَ ما يريد، فهذا قيد في العطاء، وقيد في المعطيْن، وهذه القيود تنزَّل على الآيات الأخرى الثلاث في سورة آل عمران، وفي سورة الشورى، وفي سورة هود، فالله   -تبارك وتعالى- يقول في سورة هود: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ  [هود: 15-16].

وقال تعالى:مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى:20].

وفي آية آل عمران: وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145].

فهذه الآيات ليس فيها قيود، ولكن هذه الآية في الإسراء فيها هذان القيدان.

وهنا قوله: عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء، التعجيل كما يقال: عُرفي، ما معنى أن يكون التعجيل عرفيًّا؟ يعني: ليس بمجرد أنه توجد عنده هذه الإرادة تتنزل عليه هذه المطالب التي تمناها وطلبها.

عَجَّلْنَا لَهُ، يعني: يأتيه قبل الموت، بعد سنة، بعد عشر سنوات، يأتيه منها، ومن حطامها الزائل شيء، لكن ليس بمجرد أنه يتمناه يحصل له بلحظة، ويكون بين يديه، لا، التعجيل هنا تعجيل عرفي، أي: تعجيل قبل الآخرة، يُعجل له من هذه الطيبات، من هذه الدنيا قبل أن يموت.

ثم قال: ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا، يصلاها يعني: يدخلها، وأيضاً يُقاسي حرها، صليتُ الشاة يعني: عرضتها على النار، شويتها، يَصْلاهَا، يقاسي حرها، وأيضاً يدخلها لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [الليل:15]، يعني: لا يدخلها إلا الأشقى، هذه الكلمة تعني: الدخول، وتعني: أن يذوق حرها ويقاسي شدتها -نسأل الله العافية.

مَذْمُومًا أي: أنه قد جاء بما يستحق عليه الذم، مَّدْحُورًا أي: مبعَدًا -نسأل الله العافية، وأي إبعاد أعظم من أن يدخل الإنسان النار؟!.

والله يقول: مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، يقوله للصحابة لما حصل ما حصل في يوم أحد، ولما أخذوا الأسرى في يوم بدر عاتبهم الله على ذلك تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]، وهكذا أيضاً حينما ذكر الله حالهم حينما ساروا إلى بدر وعلموا أن الجيش قد توجه إليهم وكانوا يطلبون العير، قال الله وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]، غير ذات الشوكة: أي القافلة -العير- التي جاءت من الشام، وفيها تجارة قريش بأجمعها، فهي غنيمة سهلة كثيرة الأموال ولا يريدون ذات الشوكة، وذات الشوكة: الجيش الذي خرج من مكة، لكن حينما انكشف الغيب تبين أن الظفر بذات الشوكة هو العظمة الحقيقية كما تشاهدون، يعني: لو كانت المقادير على ما يحبون ويريدون، لو كانت القضية في نهاية المطاف أنهم أخذوا قافلة قريش وانتهت القضية، ما في غزوة بدر، ولا في شيء، تكون النتائج مثل ما حصل بعد ذلك من عز الإسلام، وظهوره وقوته ومنعته وتمكنه؟، إلى يومنا هذا نذكر غزوة قريش، ولا يدانيها شيء أبداً، يوم الفرقان، فانكشف الغيب عن أن ما ييسره ويدبره الله لهذه الأمة أنه خير من تدبيرها لأنفسها، وخير من اختيارها لأنفسها.

فالشاهد أنه ليس كل من كان في قلبه إرادة للدنيا فإنه يُتوعَّد بهذا الوعيد، ولهذا حمله بعض الصحابة كمعاوية وهو ظاهر قول أبي هريرة لأنه ذكر حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، ونشج وبكى بكاء شديداً مرًّا، ثم قال: صدق رسول الله ﷺ، وقرأ الآية التي في سورة هود: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّإِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُون ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

فمعاوية وظاهر كلام أبي هريرة: أن المقصود به أهل النفاق، الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة: رجل قرأ القرآن ليقال: قارئ، ورجل جاهد ليقال: شجاع، ورجل أنفق ليقال: جواد، فهذا من النفاق، ولهذا قال بعضهم: المراد به أهل الرياء، وهذا لا يخلو من إشكال، وإنما يمكن أن يُحمل على أهل الرياء على إحدى صورتين: إما أن يقال: إذا كان الرياء قد دخل في أصل الإيمان، فهذا منافق، أو تكون جميع أعمال هذا الإنسان -نسأل الله العافية- من قبيل الرياء، فهو متوعد بهذا، هذا قول جماعة من السلف.

القول الآخر: أن المراد به الكفار؛ لأنه قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، وهذا ما يكون إلا للكفار، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن يقال: إنه يدخل فيه المنافقون؛ لأنهم لا يريدون إلا الحياة الدنيا، فحينما دخلوا في الإيمان ظاهراً إنما قصدوا حقن دمائهم، وإحراز أموالهم، هذا الذي قصدوه، فأهل النفاق داخلون فيه، ويدخل فيه الكفار؛ لأنهم ما يريدون إلا الحياة الدنيا، ويدخل فيه من وقع الرياء عنده في أصل الإيمان، آمن رياء، ما وُجد عنده بعض الأعمال فيها رياء، لا، أصل الإيمان أو جميع الأعمال رياء، ويدخل فيه القسم الرابع وهو الذي يحتاج أن يتنبه الإنسان إليه: أن من كانت الدنيا طلبته وهمه ومقصوده ومطلوبه الأول والأخير، فمن أجلها يعمل، ومن أجلها يقوم، ومن أجلها يقعد فهو متوعد بهذا، فهو يتصدق من أجل أن يبارك له في المال، ويجاهد من أجل الغنيمة، ويصوم ليصح بدنه، ويصل الرحم ليُنسَأ له في أثره -يعني يطول عمره، وهكذا في كل شيء يريد الأمر الدنيوي فقط، لا يريد ما عند الله، فهذا يقوم من أجل الدنيا، ويقعد من أجلها، يروح يتصدق، ويعطي من أجل أن يدفع البلاء عنه، وعن نفسه، وعن أولاده، لا يريد ما عند الله، فقط كل أعماله -لاحظ كل أعماله- من أجل هذه الدنيا، فهذا -أعوذ بالله- الذي قال فيه النبي ﷺ: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة[1]، الحديث، فهو داخل فيه؛ ولهذا قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد: باب من الشرك إرادة العبد بعمله الدنيا، وذكر الآية التي في سورة هود، قال: من الشرك، ليس هذا في كل إرادة كما قلت، وإنما بهذه الصور الأربع التي ذكرتها آنفاً.

أمّا أن يلتفت العبد إلى شيء آخر فهذا فيه تفصيل، ولهذا يقال: إن مراتب العباد -كما ذكرت في مناسبة سابقة- في الأعمال تتنوع وتتفاوت.

فأعلى المراتب: هو أن يريد وجه الله بالعمل فقط، لا يريد شيئاً آخر، يصوم لوجه الله فقط، يزكي طلبًا لرضا الله، يقرأ سورة البقرة يقوم الليل طلباً لمرضاة الله فقط، يصل الرحم طلباً لما عند الله، هذه أعلى مرتبة.

المرتبة الثانية: أقل منها وهي أن يلتفت إلى أمر يجوز الالتفات إليه تبعاً، لا يكون هو المقصود الأساسي، يقول لك: أنا أقول الأذكار تقرباً إلى الله، وأريد أيضاً حفظ نفسي بها، لا إشكال في هذا، ليس من الشرك، هذا يحصل تبعاً، لكن ما يكون ما لك هم إلا الدنيا فقط، ما تريد التقرب إلى الله، لا، تقربْ إليه، الذكر من أعظم العبادات وأجلها، يذهب يقول: أنا أريد أن أحج، لكن أيضاً أنا أعمل مع حملة وأكتسب أو أبيع وأشتري، نقول: لا مانع في ذلك، يجوز لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة:198]، يعني: التجارة في الحج، لكن هل هذا مثل الذي راح للحج فقط؟ الجواب: لا، ذهب يجاهد، ويريد الغنيمة أيضاً لا إشكال، ليس هذا بشرك، لكنه دون من ذهب فقط لإعلاء كلمة الله، هذه المرتبة الثانية، وهي مرتبة مقبولة.

المرتبة الثالثة: وهي أن هذا الإنسان يريد وجه الله، ويلتفت إلى أمر يحرم الالتفات إليه، هو يصلي يريد وجه الله، ويحج يريد وجه الله، لكن يريد أن الناس يقولون: والله حج خمس مرات، يريد أن يقال: إنه والله حج عشر مرات، إنه اعتمر مائة مرة، حج ثمانين حجة، هذه مشكلة، نحن دخلنا في الرياء والسمعة، واضح؟،

فإن دخلت هذه النية من أول العمل بطل العمل على الراجح، فإن عرضت هذه أثناء العمل -والعمل في بدايته كان خالصاً معه- فإنها تُبطل عمله في الأعمال التي يُبنى بعضها على بعض، يصلي الظهر، يصلي العشاء أربع ركعات خالصًا لوجه الله، في الركعة الثالثة دخل أحد فبدأ يلاحظ هذا الإنسان الداخل فيطول صلاته، ونحو ذلك صحت، إن استرسل معه وركن إليه وبدأ يرائي بطلت العبادة.

أما العبادات التي لا يبنى بعضها على بعض مثل قراءة القرآن، قرأ جزءًا خالصاً لوجه الله، دخل إنسان، فبدأ يلاحظه في الجزء الثاني، فيبطل الجزء الثاني، لكن إن كانت خاطرة ودفعها صح العمل، فهذا بالنسبة للرياء.

المرتبة الرابعة: أن يطلب بعمله الدنيا فقط، يريد الدنيا فقط، هذا الإنسان يصوم من أجل أن يصح بدنه فقط، ما يريد الأجر، يزكي فقط من أجل أن ينمو ماله، هذا ليس له نصيب.

المرتبة الخامسة: أن يتمحض عمله للرياء، ما يريد وجه الله، هو يريد أن الناس يمدحونه أنه جواد، وأنه متصدق، أنه قارئ، أنه عالم، أنه صوام قوام عابد، فقط لا يريد إلا هذا، فهذا -أعوذ بالله- تمحض للرياء، فهذه أسوأ المراتب التي هي الخامسة، أسوء المراتب وأحط المراتب، -نسأل الله العافية.

هذه مراتب العاملين من ناحية النية والقصد وما الذي يقبل، وما الذي لا يقبل، وما هو الأعلى، وما هو الذي دونه.

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يصلح أقوالنا وأعمالنا ونياتنا وذرياتنا، وأن يهدي قلوبنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، (8/ 92)، برقم: (6435).

مواد ذات صلة