الثلاثاء 22 / جمادى الآخرة / 1446 - 24 / ديسمبر 2024
حديث "فإن الدنيا قد آذنت بصرم.." (2-2)
تاريخ النشر: ٠١ / جمادى الآخرة / ١٤٢٩
التحميل: 1420
مرات الإستماع: 4216

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فكنا نتحدث عن حديث خالد بن عُمير العدوي قال: "خطبنا عتبة بن غزوان، وكان أميراً على البصرة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصُرْم وولت حَذاء، ولم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنه قد ذُكر لنا أن الحجر يُلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يُدرك قعرها، ووالله لتُملأنّ، أفعجبتم؟ ولقد ذُكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عامًا، وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام"، تحدثنا إلى هذا القدر في هذا الحديث والكلام عليه.

يقول: "ولقد رأيتُني سابع سبعة مع رسول الله ﷺ وما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قَرِحت أشداقنا، فالتقطتُ بُردة، فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها"[1].

وقوله: "قرحت"، يعني: أنها صارت ذات قروح "قرحت أشداقنا".

وقوله: "فالتقطت بردة"، البردة هي الكساء المربع الذي يُلتحف به، يقال له: بُردة "فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها"، يعني: ما عندهم شيء يستترون به سوى هذه القطعة التي يسترون بها عوراتهم، وليس لهم أردية.

يعني: سعد بن أبي وقاص حينما ضُرب الحصار في مكة في الشعب -شعب أبي طالب- جلس يبول فسمع قعقعة تحت بوله، فاستخرجه، وإذا هو جلد، فغسله، ثم بعد ذلك طبخه وأكله، جلد تعرف عليه حينما وقع عليه بوله، وأيضاً في بعض مغازيهم كانوا يأكلون أوراق الشجر كما دل عليه هذا الحديث حتى قال سعد : وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة.

يقول عتبة بن غزوان : "فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار"، يعني: كيف تحولت الحال، وأعزهم الله وأغناهم وأعطاهم، وهذا يدل على أن الصحابة كانوا بتلك المنزلة من الإيمان والتقوى، وأن الدنيا ما أفسدتهم، ولا أطغتهم، ولا شغلتهم، ولا ألهتهم عن ذكر الله -تبارك وتعالى، فإنهم يذكرون الحال التي كانوا عليها ويخافون أن يكون ما أعطي لهم أن يكون ذلك من قبيل الاستدراج، أو أنه عُجل لهم ثوابهم في الحياة الدنيا، لكن إذا رأيت الرجل ينسى حاله الأولى حينما يغنيه الله ويَبْطر ويتعالى على الناس ويتعاظم، ولربما أنكر فقره السابق وحاجته ونشأته وبدايته، فإن هذه علامة الخسار والبوار وهي مؤشر ودليل على أن المال قد أفسده وألهاه، فصدق عليه قول الله : كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7] أمّا إذا كان الإنسان حصل له العطاء والغنى ولم يترفع، ولا زال متواضعاً لعبادة الله ويذكر حاجته ومسكنته وفقره قبل ذلك، وصار يعطف على الفقير والمحتاج ويعينهم وما إلى هذا، فهذا يكون خيراً له -إن شاء الله.

يقول: "وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيرًا"، وهذه بالغة المعنى، أن يكون الإنسان عند نفسه عظيماً، وعند الله صغيرًا، فالعبرة هي منزلة الإنسان عند الله -تبارك وتعالى، وهذه المنزلة لا تقوم على كثرة المال، ولا تقوم على صورة الإنسان وهيئته، ولا تقوم على كثرة معارفه ومعلوماته، ولا تقوم على فصاحته، ولا تقوم على كثرة أولاده أو على الدار التي يسكنها أو نحو ذلك، ولهذا النبي ﷺ يقول: رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره[2]، فهذا يجعل الإنسان يوجه قصده وإرادته إلى طلب مرضاة الله فيما يأتي وما يذر، فإذا كان العبد يتقلب في مرضاة الله فإنه لا يضره ما فاته من الخلق، وفي كثير من الأحيان قد يتجمل الإنسان للناس ويطلب المنزلة عندهم بأمور متنوعة، إما ببذل الأموال، وإما بإظهار العبادة، أو بغير ذلك مما يطلب فيه أن يُعظم، وأن يكون له منزلة ويحب إطراء الناس، ولكنه إذا كان ممقوتاً عند الله -تبارك وتعالى- فماذا يغني عنه ذلك؟! ماذا يغني عنه؟! فالإنسان لا يتعاظم مهما كانت شهاداته، مهما كانت مرتبته، مهما كانت وظيفته، مهما كانت أنسابه أو أحسابه، فقد يكون عند نفسه عظيماً وعند الله وضيعاً، بل لربما تقلب الإنسان في سخط الله بسبب كلمة يقولها، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله عليه بها سخطه إلى أن يلقاه[3]، هذه نهاية الحديث.

وأسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2278)، برقم: (2967).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، (4/ 2191)، برقم: (2854).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب في قلة الكلام (4/ 559)، رقم: (2319).

مواد ذات صلة