الثلاثاء 22 / جمادى الآخرة / 1446 - 24 / ديسمبر 2024
حديث «قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا..»
تاريخ النشر: ٢١ / رجب / ١٤٢٩
التحميل: 1688
مرات الإستماع: 6714

قد أفلح من أسلم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة أورد المصنف -رحمه الله:

حديث عبد الله بن عمرو  رضى الله عنهما: أن رسول الله ﷺ قال: قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه[1]رواه مسلم.

قوله: قد أفلح الفلاح هو: تحصيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، بمعنى: الظفر بالمطالب، والخلاص من الأمور المخوفة، وهذه بغية كل إنسان، أن يحصل له مطلوبه، وأن ينجو مما يكره ويخاف ويحاذر.

قد أفلح من أسلم ذكر النبي ﷺ ثلاث خصال علق بها الفلاح، من أسلم فإن الإسلام تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة، وعلى قدر إسلام العبد على قدر ما يحصل له من الفلاح؛ لأن النبي ﷺ علقه بذلك قد أفلح من أسلم والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فعلى قدر إسلامنا الوجه والقلب والجوارح واللسان لله -تبارك وتعالى- على قدر ما يكون عندنا من الفلاح، وينقص من فلاح الإنسان بحسب ما نقص من إسلامه، قد أفلح من أسلم.

والأمر الثاني: رُزق كفافاً، الكفاف: فسره بعض أهل العلم بأنه: يجوع يوماً، ويشبع يوماً، وأحسن ما يفسر به -والله تعالى أعلم- هو ما قاله القرطبي -رحمه الله- من أن الإنسان يجد ما يدفع ضروراته وحاجاته.

رزق كفافاً من غير زيادة تصل به إلى حد أهل الترف، فالذي رزق كفافاً هو الذي يجد ما يدفع ضرورته ولا يحتاج إلى الناس في أمور المعاش الأساسية من المأكل، والمشرب، والمسكن، واللباس ونحو ذلك، دون أن يصل به إلى حد أهل السعة، والثراء، والعرَض الكثير من الدنيا.

رزق كفافاً، فإذا حصل للإنسان هذا استغنى عن المخلوقين؛ لأن الحاجة إليهم مذلة، ثم إن الإنسان إذا كان لا يجد شيئاً يأكله، ولا يطعم عياله، فإن هذا الجوع والفقر يقلقه ويشغل فكره، فإذا حصل للإنسان الكفاية فهذا لا شك أنه هو المطلوب، أما الزيادة فإنها مشغلة من جهة، ينشغل بهذا القدر الزائد، أين يصرّفه، وماذا يفعل به.

الآن لو قيل لبعض الناس: جاءتك هبة، كل هذه المساحات التي تراها جنوباً فارغة هي لك، لذهب يدور كل الليل ينظر في كل مساحة فارغة، وكم شبرًا هي؟، وكم مترًا؟، ويبدأ يحسبها، ولن ينام الليلة إطلاقاً، يبدأ يحسب كم هذه تساوى؟ ويسأل أهل الاختصاص من العقاريين، كم المتر في هذه؟ وكم يطلع له؟ وكيف سيستفيد منها؟ وكيف سيستثمرها؟ وتبدأ شَغْلة كان هو في غنىً عنها أصلاً، كان مرتاحاً.

رزق كفافاً؛ ولذلك تجد الرجل أحياناً يغدو ويروح على أهله يربيهم ويعلمهم ويجلس معهم وعيشته هنية، ويخرج معهم إلى نزهة وكذا، لكن إذا كثر عنده العرَض من عرض الدنيا انشغل، ما يكاد أهله ولا أولاده يرونه، ولا يسمعون منه، ولا يجلسون معه، يتمنون الساعة التي يجلسون معه فيها، ويأتي في آخر النهار وهو في حال من التعب والإنهاك، لا يفيق لشيء، ما الفائدة إذاً؟.

لو فكر الإنسان ما فائدة المال الكثير؟ الإشغال، القلق، الضغط، السكر، هذه هي النتيجة.

فأقول: الإنسان يقتنع بما أعطاه الله ، رزق كفافاً هذا كلام المعصوم -عليه الصلاة  والسلام، ثم هنا قضية أخرى وهي الأصل وقطب الرحى، قنّعه الله بما آتاه، قد تكلمت على هذا المعنى بالأمس في الحديث الذي قبله، قنعه الله؛ لأنه إن رزق كفافاً من غير قناعة فهو في قلق دائم، وإن رزق رزقاً واسعاً لكن من غير قناعة فهو في قلق دائم، فقلبه مشغول وجوارحه مشغولة في طلب الزيادة، فالقناعة -كما قيل- كنز لا يفنى.

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- صاحب أضواء البيان، عالم كبير، إمام في العلم كان يقول لولده، وقد حدثني بهذا ولده يقول: يا بني قد قدمتُ من البلاد، جاء من بلاد شنقيط، يقول: قدمت من البلاد، ومعي كنز وهو القناعة، يقول: يا بني، الجوع يمكن أن يطرد بكسرة خبز، فلماذا يذل الإنسان نفسه؟!.

وله عبارات يقول: يا بني، إن الكرة الأرضية لا تتسع للرجل المسلم، بمعنى: أن همته أعلى من هذا وأكبر، الجنة عرضها السموات والأرض، فما كل الناس يُعطَى هذا، وحقيقتها أيها الأحبة هي مثل الذي يجري وراء السراب، كلما لاح له شيء تبعه وزيادة، وتبعه، وتبعه، حتى يقول له الموت: توقف انتهى، هنا الأجل، كفى تتبعًا لهذا السراب، أو يشرب من الماء المِلح، يشرب ولا يرتوي، فمهما شرب لا يرتوي، فهذه حقيقة الدنيا، لا يشبع طالبها أبداً.

فأسأل الله أن يرزقنا وإياكم القناعة، وأن يرضينا بما أعطانا، وألا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة، (2/ 730)، برقم: (1054).

مواد ذات صلة