الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «لا تلحفوا في المسألة..» ، «ألا تبايعون رسول الله ﷺ»
تاريخ النشر: ٢٨ / رجب / ١٤٢٩
التحميل: 1429
مرات الإستماع: 5479

لا تلحفوا في المسألة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب القناعة والعفاف وذم السؤال أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث معاوية بن أبي سفيان  قال: قال رسول الله ﷺ: لا تُلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتُخرج له مسألتُه مني شيئاً وأنا له كاره فيُبارَك له فيما أعطيته[1]، رواه مسلم.

قوله ﷺ: لا تلحفوا في المسألة هذا التركيب يدل على العموم، الفعل المضارع المسبوق بالنهي، لا تلحفوا فهو نهي عام عن الإلحاف، والإلحاف معناه الإلحاح، وقيل له: إلحاف، كأنه من اللحاف الذي يشتمل عليه الإنسان، بحيث إنه يغطيه بجميع أبعاضه، فهذا الذي يلحف في المسألة يسأل بوجوه مختلفة من أجل أن يستخرج ما في أيدي الناس.

ثم قال: فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتُخرج له مسألتُه مني شيئاً وأنا له كاره فيُبارَك له فيما أعطيته، وهذا واضح في سؤال النبي ﷺ، وقد أخذ منه بعض أهل العلم أن ذلك يشمل أيضاً كل ما يستخرج به الإنسان ما في أيدي الناس، ويتحصل على أشياء بطرق لا تحق له، فهذا الإنسان الذي يُلحف، كذلك الإنسان الذي لربما يزور بعض الأوراق أو يأتي يغير اسمه وينتسب إلى غير أبيه من أجل أن يحصِّل منحة، أو يحصِّل مالاً يعطى له في كل شهر إذا انتسب إلى هذا الإنسان؛ لأن ذلك يعطى له أو لأولاده أو لزوجته من هذا العطاء، فكل ذلك لا يبارك للإنسان فيه، الذي يحتال بطرق ووسائل مختلفة من أجل أن يحصِّل قطعة أرض مثل هذا لربما يأتي بأشياء أو شهادات غير حقيقية أو مزورة، أو نحو ذلك بأنه فقير، أو محتاج، أو نحو ذلك هو داخل فيه، كذلك الذي يسأل الناس ويذكر لهم أشياء غير حقيقية وهو لا يستحق هذا أصلاً لا يبارك له فيما أخذه، قلَّ أو كثر.

وكما ذكرنا مراراً: ليست العبرة فيما يصل إلى يد الإنسان، العبرة في البركة، فقد يصل للإنسان الملايين، ولكنها تطير من بين يديه، ولا ينتفع بها، وقد ينتفع ببضع مئات، أو بضعة ألوف انتفاعاً كبيراً، فالمعول على البركة.

ألا تبايعون رسول الله
ثم ذكر الحديث الآخر:
حديث أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله ﷺ تسعة أو ثمانية، فقال: ألا تبايعون رسول الله ﷺ وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس وتطيعوا الله وأسر كلمة خفيفة ولا تسألوا الناس شيئا فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه. رواه مسلم.
ترجمة عوف بن مالك

وأبو عبد الرحمن عوف بن مالك قيل في كنيته: إنه أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو حاتم، وهو من غطفان، وقد شهد فتح مكة مع النبي ﷺ.

يقول: كنا عند رسول الله ﷺ تسعة أو ثمانية أو سبعة يعني: على سبيل الشك، فقال: ألا تبايعون رسول الله ﷺ؟ قال: وكنا حديثي عهد ببيعة يعني: بايعنا قبل وقت ليس بالطويل، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله ﷺ؟ يقول: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟، قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا الله، -وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئاً، لا تسألوا، لاحظ في البيعة، لكن ذلك لم يأخذه النبي ﷺ على كل أصحابه، وإنما على بعضهم.

وشيئاً نكرة في سياق النهي، ولا تسألوا الناس شيئاً فيعم سائر الأشياء، فلا يبقى الإنسان عالة على الآخرين؛ لأن الافتقار إليهم والحاجة فيه نوع مذلة وعبودية للمخلوقين، وقد ذكرت هذا المعنى مرات كثيرة، وذكرت ما يروى عن علي ، وقد ذكره شيخ الإسلام: "استغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره".

وقال: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه[1]، رواه مسلم.

يسقط السوط وهو على الدابة، يحتاج إلى عملية في النزول والركوب، ينزل ويأخذ السوط، ما يقول: يا فلان مد لي السوط، لا، انزل أنت وخذ السوط واستغنِ عن الناس، يا فلان هات لي ماء، يا فلان اشترِ لي كذا، يا فلان أعطني كذا، يا فلان، في أشياء عادية بسيطة، فكيف بالذي يسأل الناس أموالهم؟ وكيف بالذي يتحيل على الناس من أجل أخذ الأموال عن طريق الرشا، أو بطريق الاختلاس أو غير ذلك من الأمور الدنية التي يفعلها من لا يخاف الله ولا يراقبه؟!.

وكل بحسبه، من الناس من يسرق الملايين، ومن الناس من يسرق بضعة قروش، كل بحسبه، فإذا ضاعت الأمانة عند الناس تخففوا، فالمقصود أن هذا الحديث يرشد إلى مرتبة عالية من مراتب العبودية، وهو أن يكون فقر الإنسان وحاجته لله وحده دون سواه، فمهما استطاع الإنسان أن يربي نفسه على هذا المعنى أن لا يفتقر إلى الآخرين ولا يحتاج إليهم، وأن يكون هو الذي يعطي وهو الذي يحسن فهذا هو الأولى والأكمل، فإن لم يستطع فلا أقل من ألا يحتاج إليهم بدلاً من أن يحسن إليهم، إن لم يستطع الإحسان فلا أقل من ألا يحتاج، والمسألة تربية وخلق، نعم قد تنزل بعض الأمور بالإنسان فيضطر، لكن الناس يتساهلون في هذا كثيراً، يتساهلون والسبب هو التوسع في أمورهم ومطالبهم وحاجاتهم الدنيوية، فيتوسعون جدًّا فيحتاجون إلى الآخرين.

والغنيُّ هو الذي يستغني عن الناس، ويكون فقره إلى مولاه ، والله المستعان، وهذه المرتبة ليست واجبة، بمعنى أن الإنسان لا يطالَب بهذه الأمور الدقيقة، ويربَّى الناس عليها وهم يتركون الواجبات ويفعلون المحرمات، ثم هو يتورع بعد ذلك عن أن يطلب من أحد أن يناوله كأساً، أو أن يعطيه شربة ماء أو نحو ذلك، فهذه مرتبة عالية لا تصلح له، ولكن الحاجة والافتقار إلى الناس يتفاوت أيضاً، فهناك أمور يسيرة جرت عادة الناس أن يتعاطوها، مثل الذي يقول مثلاً: ناولني هذا الكتاب، فهذا يسير، فإن استطاع أن يستغني فهو أولى، ولكن هذا ليس كالذي يقول له مثلاً: أعطني، تصدق عليّ، فهذا أشد، وهكذا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، (2/ 721)، برقم: (1043).

مواد ذات صلة