الأربعاء 26 / ربيع الآخر / 1446 - 30 / أكتوبر 2024
حديث «لا تزال المسألة بأحدكم..» إلى «إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه..»
تاريخ النشر: ٢٩ / رجب / ١٤٢٩
التحميل: 1585
مرات الإستماع: 6965

لا تزال المسألة بأحدكم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب القناعة والعفاف أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما- أن النبي ﷺ قال: لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَة لحم[1]، متفق عليه.

لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله، هذا يعني: أن من ذكره النبي ﷺ فإنه مداوم على هذا العمل، قد جعل ذلك عادته وديدنه، فهو يسأل الناس مرةً بعد مرة، وحيناً بعد حين.

لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مُزْعَة لحم والمُزعة يعني: القطعة، بعضهم يقول: إن المقصود ليس في وجهه مُزْعَة لحم أنه يلقى الله ولا ماء في وجهه، يعني: كيف يلقى ربه؟!، ولكن هذا تفسير له على غير ظاهره، والأقرب -الله تعالى أعلم- أن يحمل على ظاهره، فيلقى الله وليس في وجهه فعلاً مُزعة لحم، نسأل الله العافية.

وذلك أن المسألة إنما هي كدٌّ -كما سيأتي في بعض الأحاديث- يَكدُّ الإنسان به وجهه، ولا يصونه -نسأل الله العافية- بهذا السؤال، وهذا يدل على أن أصل المسألة محرم، يعني: الذي يسأل الناس أموالهم، أن هذا محرم، إلا للضرورة، وقد جاء بيان ذلك في الحالات الثلاث التي سيأتي ذكرها في بعض الأحاديث.

أن النبي ﷺ قال وهو على المنبر

ثم ذكر أيضاً حديثاً لعبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسالة: اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة[2]، متفق عليه.

وهذا حديث سبق الكلام عليه في أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وذكرت هناك أن المقصود باليد العليا هي المعطية، والسفلى هي الآخذة، فهذا الحديث نص في هذا التفسير، مع أن من أهل العلم من فسره بغير هذا.

ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من سأل الناس أموالهم تكثُّرًا...[3]، يعني: ليكثر ماله، من غير ضرورة، هو ليس بمضطر، عنده ما يكفيه.

من سأل الناس أموالهم تكثُّرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر، ويدخل في هذا الحديث من أصابته فاقة، وضرورة أو حلت له المسألة، بأن تَحمّل حَمَالة أو نحو ذلك، لكنه لم يقف عند هذا الحد، فمن الناس من إذا اعتاد على السؤال وبقي يطلب الناس ويواجههم بذلك، بعد أن كان لربما في البداية يحرج ويستحي، ولكنه بعد مدة يستمرئ هذه القضية، ويرى أن هذه مكاسب تأتيه من غير تعب ولا كد، فيستمر، فقد تكون هذه النازلة التي نزلت به قبل سنوات انتهت وقُضيت تلك الديون أو المطالبات، ولكنه استمر على هذا الوضع، فهو لا يزال يخرج هذا الصكَّ حيناً بعد حين، ويسأل الناس، وقد يكون هذا الإنسان في فاقة وفقر، ولكنه يكفيه رغيف في اليوم، يكفيه شيء قليل، فلماذا يبقى الإنسان من مسجد إلى مسجد، وفي كل فرض؟!، لربما ما حصله في يوم في صلاة الجمعة، أو نحو هذا، قد يكفيه لشهره، لكن أن يبقى الإنسان في كل فرض في مسجد، ومن منطقة إلى أخرى، يتنقل وتكون هذه مهنته ووظيفته فإن هذا أمر لا يسوغ بحال من الأحوال، أو يقف خارج المسجد، ويكلم هذا، ويمسك هذا، ويذهب إلى هذا، أو يطرق أبواب الناس، فإن هذا أمر لا يسوغ بحال من الأحوال، وأسوأ من هذا كله من يحتال على أخذ الأموال، كأن يأتي ويتظاهر أنه عابر سبيل ومنقطع في سفره، وأنه يريد ما يتبلغ به، ونحو ذلك، وليس به شيء من هذا، وأسوأ من ذلك من يأخذ هذه الأموال على أنها في أعمال خيرية، وأنها في سبيل الله، وفي بناء مساجد، ولربما يبقى المسجد في ناحية يرد عليها الناس كثيراً، يبقى مسجد أكثر من خمس عشرة سنة بلا سقف، والمسجد صغير، وسقفه لا يكلف كثيراً، فكل من جاء قال له: والله فقط باقٍ علينا هذا السقف، نريد له فقط نحو عشرين ألف ريال.

يستمر أكثر من خمس عشرة سنة وهو يأخذ أموال الناس باسم سقف هذا المسجد، ويقول: هذا المسجد جاهز وبنيناه، ما بقي علينا إلا تكميل المنارة، والناحية الفلانية فقط تحتاج عشرة آلاف ريال، هذه سهلة، تفضل، ويبقى سنوات طويلة، وهو بهذه الطريقة، وهذا موجود.

وأسوأ من هذا من يأخذ أموال الناس بدينه، السلف كانوا في غاية الاحتراز، لما يأتيه إنسان بشيء من الدواء، أو بشيء من الماء، أو نحو ذلك يقول: أنت ممن يأخذ عنا الحديث؟، فلا يقبل منه، فهذا ورع في منازل عالية، فكيف بالذي يتوصل إلى أموال الناس باسم الدين والصلاح، والعبادة، ونحو ذلك؟!.

فيأخذ منهم هذه الأموال بأي صفة، وبأي حال أو اعتبار؟، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، ولا يجوز أيضاً أن يتوصل الإنسان إلى ثقة الناس بتدين أو بإطلاق لحية، أو نحو ذلك، ثم يأخذ هذه الأموال ويقول لهم: نوظف لكم أموالكم، نشغل لكم أموالكم، فيأخذ الملايين أو المليارات، ثم بعد ذلك يضيعها ويتلفها للأسف، فإن هذا ضرره لا يقف عليه، ولا على الناس الذين أخذ أموالهم فقط، بل هذا يسيء إلى الدين، وإلى أهل الصلاح والخير، والناس يظنون أنهم على هذه الصفة.

ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم العفاف والغنى، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله وطاعته عن معصيته.

إن المسألة كد يكد بها الرجل
وذكر حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله ﷺ: إن المسألة كدٌّ يَكُدُّ بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجلُ سلطاناً[1].
يعني: يسأل هذا السلطانَ مما له حق فيه من بيت المال، أو نحو هذا.

إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لابد منه، ومعنى (الكَدّ) كدٌّ يَكُدُّ بها الرجل وجهه العمل والجهد وما إلى ذلك.

وبعضهم يقول: المراد بذلك كما فسره النووي -رحمه الله: الخدش، كدٌّ يكدُّ بها الرجل وجهه.

والله المستعان. 

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الزكاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في النهي عن المسألة (3/ 56) رقم: (681)، والنسائي، كتاب الزكاة، مسألة الرجل في أمر لابد له منه (5/ 100)، رقم: (2600).

مواد ذات صلة