الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
قال تعالى: {فإذا قضيت الصلاة..} إلى «لأن يحتطب أحدكم..»
تاريخ النشر: ١٧ / شوّال / ١٤٢٩
التحميل: 1614
مرات الإستماع: 5611

مقدمة باب الأكل من عمل اليد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جديد من أبواب هذا الكتاب المبارك وهو باب "الحث على الأكل من عمل يده والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء"، هذا الباب ذكره المؤلف -رحمه الله- بعدما ذكر باباً يتصل بفضل العفاف والاستغناء عن الناس والقناعة، ثم ذكر بعد ذلك باباً آخر وهو "باب جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع"، هنا يريد أن يقول: إن كسب الإنسان من عمل يده خير له من أن يأخذ أو من أن يسأل، فهناك بيّن فضل القناعة، ثم بين أنه يجوز للإنسان أن يأخذ من العطاء من غير استشراف ولا سؤال، وهنا يبين ما جاء من الحث على العمل من كسب اليد وذلك يتصل بالأبواب قبله؛ ليستغني عن الناس فيكون متعففاً يحفظ ماء وجهه.

قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ...}

قال الله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10].

فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ، أي: صلاة الجمعة؛ لأن الله نهى عن البيع والشراء نهياً يعم سائر ألوان الاشتغال من عقود الإجارات والشركات وغيرها، فقال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9]، فالسعي إلى ذكر الله بأن يعمل الإنسان على حضور الجمعة وذلك بالمشي إليها والتطهر وما إلى ذلك ولا يشتغل عنها بغيرها وَذَرُوا الْبَيْعَ، وذكر البيع؛ لأنه غالب ما يحصل من التعاملات بين الناس، وإلا فيدخل فيه الإجارة، وعقد النكاح، وعقد الشركة، وما أشبه ذلك، فكل هذه العقود باطلة إذا وقعت بعد النداء الثاني من يوم الجمعة، إذا نودي للصلاة يعني النداء الثاني الذي يكون بين يدي قيام الخطيب.

فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، المقصود به الخطبة وكذلك الصلاة، وَذَرُوا الْبَيْعَ.

ثم قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، بعض أهل العلم كابن حزم حمل ذلك على الوجوب قال: لا يجوز له أن يبقى في المسجد بعد صلاة الجمعة والأمر للوجوب فيجب عليه أن يخرج من المسجد، وهذا مبالغة بحمل هذه الآية على ظاهرها، وإنما الراجح في ذلك ما قاله الجمهور: وهو أن هذا أمر والقاعدة أن الأمر للوجوب ولكن ذلك ليس على إطلاقه فهذا أمر وقع بعد الحظر، مسبوق بحظر بمنع، وَذَرُوا الْبَيْعَ، فالبيع محرم بعد النداء الثاني للجمعة، ثم بعد ذلك أمر به فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، فهذا أمر بعد الحظر، بعد المنع بعد التحريم، والقاعدة: "أن الأمر بعد الحظر يعود فيه الحكم إلى حالته الأولى قبل الحظر" ماذا كان حكم البيع والشراء والتجارة قبل المنع قبل قوله: وَذَرُوا الْبَيْعَ؟، كان مباحاً ليس بواجب، فلما قال الله : فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، يرجع الحكم إلى ما كان عليه قبل الحظر، فنقول: هذا الأمر للإباحة وليس للوجوب، هذه هي القاعدة، هذا الذي عليه الجمهور، مع أنه جاء عن ابن عباس وجماعة من السلف أن قوله -تبارك وتعالى: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ المراد به الذهاب في طلب العلم، وعيادة المريض، وصلة الأرحام، حملوه على ألوان من العبادات، ولكن الآية أعم من هذا فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، بأنه قد انقضى الأمر الذي من أجله اجتمعتم.

لأن يأخذ أحدكم أحبله

ثم ذكر الحديث:

عن أبي عبد الله الزبير بن العوام قال: قال رسول الله ﷺ: لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه.

لأن يأخذ أحدكم أحبله أحبُله بمعنى حباله، ثم يأتي الجبل الحطب يوجد في الجبل وفي غير الجبل لكن ربما يكون ذكر الجبل باعتبار أنه أشق، يعني: حتى مع ما فيه من مشقة أن يقصد إلى الجبال والأماكن الصعبة فيأتي بالحطب منها، يأتي الجبل فيأتي بحُزمة من حطب على ظهره، يحتمل أن يكون على ظهره بمعنى يحملها ليس معه دابة ولا سيارة، ويحتمل أن يكون المراد على ظهره أي: على دابته؛ لأن الدابة يقال لها: ظهر، فلان باع ظهره يعني باع دابته، وكأن حمْله على الأول أقرب؛ لأن فيه مزيداً من المشقة، فهو يأتي إلى الجبل ويحمل على ظهره أيضاً وعملية الاحتطاب عملية شاقة، ومن جرب هذا عرف أنها شاقة جدًّا، ومن لم يعتد على ذلك فإنه تَدمى يداه، ويصيبه ما يصيبه من العناء والتعب واللأواء، ثم جمْع هذا الحطب وربطه من أجل أن يتسق في رباط واحد، ثم حمل ذلك على الظهر وهو شيء شاق جدًّا، فيأتي به وقد أرهقه وأثقله حتى يبيع وقد يُشترى وقد لا يُشترى، قد يكون كاسداً وقد لا يجد فيه ثمناً مجزئاً.

قال: فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه، يكف بها وجهه: خص الوجه؛ لأنه أشرف شيء في الإنسان، وهو الذي يواجِه به، يقابل به؛ ولذلك يظهر عليه آثار الحياء، وإذا استحى الإنسان صرف وجهه لربما، فيكف وجهه؛ لأنه بالسؤال يريق ماء وجهه، يصيبه من الذل ما لا يقادر قدره.

قال: خير له، و"خير" هنا ليست أفعل تفضيل؛ لأنه لا مقارنة بين أن يعمل الإنسان ويكتسب ويأكل من كسب يده وبين أن يسأل الناس، فخير هنا ليست أفعل تفضيل يعني ليست بمعنى أخير؛ لأن أفعل التفضيل تكون بين شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما، وإنما المقصود بها مطلق الاتصاف خير له، يمكن أن يكون ذلك باعتبار نظر المخاطب الذي يظن أنه يكتسب من غير تعب إذا سأل الناس، مع أن بعض هؤلاء لو حسب الخسائر والتعب الذي يلقاه لعرف أنه لربما لو باع أو اشترى لكان خيراً له، انظر -عافى الله الجميع- هؤلاء الذين يقفون عند الإشارات امرأة إلى وقت متأخر من الليل تتعرض لأنواع الأخطار أقل ذلك الدهس بالسيارات، وأطفال، غير الابتزاز وغير..، فهؤلاء حينما يذهبون بعملية دءوبة متعبة مرهقة لأقدامهم ولنفوسهم وفي قلق وخوف وتوجس ما الذي يحصل؟ هذا عناء وعمل شاق لو طُلب من هؤلاء أن يوزعوا على الناس مطوية أو إعلاناً أو نحو ذلك بهذه الطريقة وفي هذه الأوقات وأعطوا ألوفاً لما كان يكافئ العمل والأخطار التي يتعرضون لها فضلاً أن يكون الإنسان يريق ماء وجهه هذا يغلق النافذة، وهذا ما يرد، وهذا ما يلتفت، وهذا يقول كلمة غير جيدة ولا موزونة، لكن الإنسان أحياناً يعتاد على أمر ويستمرئ ذلك -نسأل الله العافية، فالشاهد هذا خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، على كل الأحوال.

لأن يحتطب أحدكم

ثم ذكر الحديث الآخر -وهو يشبه هذا-:

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لأن يحتطب أحدكم حُزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه[1]، متفق عليه.

وهذا كله يدل على أن الإنسان يستغني عن الناس يعمل ويكتسب ويرفع نفسه ولا يدخل في أمر يضطر معه إلى سؤال الناس، بمعنى أن من الناس من يتساهل في الديون مثلاً يريد أن يعمل أعمالاً كبيرة أكبر من طاقته، أو أن يركب مركوباً أكثر من قدرته وإمكانه، فيشتري سيارة بالديون، أو يسكن مسكناً أكثر من إمكاناته ثم يتحمل الديون، ثم يُطالب بها، ثم يُهدد بالحبس، ثم بعد ذلك يأتي إلى فلان وفلان وفي حال تعرفونه، لكن الإنسان ينبغي أن يتصرف في دنياه هذه بقدر ما عنده من إمكانات، الجوع يمكن أن يُسد بكسرة من الخبز يابسة ولا تحتاج إلى الناس، يمكن للإنسان أن يشتري بريال خبزًا ويشبع منها الفطور والغداء والعشاء، عمر بن عبد العزيز أخذ شيئاً من تمر وسأل من حضره قال: أما ترى أن هذا يكفي للرجل إلى ليلته؟ قال: نعم، فيمكن للإنسان أن يأتي بقليل من التمر يكفيه لمدة شهر كامل، وهذا التمر يمكن أن يُشترى بسعر زهيد ولا يسأل الناس شيئاً، بدلاً من أن يلبس ثوبًا بمائة وسبعين، ومائة وثمانين يلبس ثوبًا بعشرة ممكن، بدلاً من أن يلبس غترة بمائة وستين يمكن أن يلبس غترة بخمسة عشر ريالا ويمكن بدون، يستطيع الإنسان أن يمشي بدون غترة، لكن من الناس من يورط نفسه، يعني: تجد الرجل فقيرًا ما عنده   دخل، لكن لازم يلبس من الثياب لازم مفصلة وليست جاهزة، وهو ما عنده دخل أصلاً -أعرفهم- ما عنده دخل لازم التفصيل، ولازم يلبس مركات معينة في الغتر، لابد أن يُحاكي أهل البلد، هذا موجود في أناس نعرفهم، رأيناهم، طلاب علم أحياناً وهذا ليس من لبسه أصلاً وليس من زيه لكن هو يريد هكذا أن لا يوجد فرق بينه وبين الآخرين، يأخذ سيارة ويبيعها على آخر بالدين وهي أصلاً جاءته من ديون من سؤال ومن صدقات ثم يذهب إلى فلان وفلان، وفلان عليه دين ولربما يكون هذا الإنسان من الناس الذين وقع لهم كارثة في بلدهم فيتعاطف الناس، فيقول: فلان عليه دين ... والدين في ماذا؟ في السيارة الذي هو باعها له، جاء يستوفي يقول: خذها وأنا أدبر قيمتها، ما يهمك أنا أعرف المشايخ والأساتذة في الجامعة هم يعرفونني ويعطونني، وبهذه الطريقة يستوفي لنفسه، فإذا سُئل الدين في ماذا؟ قال: دين، إذا اضطر قال: اشترى سيارة، من أين اشتراها؟ ثم بعد ذلك تكتشف أنه اشتراها منه، باعها له وهو ما يملك شيئاً، خذها والقيمة عليّ، القيمة عليه كيف؟ بهذه الطريقة، فهذا مرض.

الإنسان يرفع نفسه لا يحتاج إلى الناس، لا تقف هذا الموقف، فلان أقرِضْني، يا فلان ساعدني، يا فلان تصدق عليّ، يا فلان ما عندكم زكاة، لا، تستطيع أن تركب سيارة بسعر المهم أنها توصلك، وتستطيع أن تسكن في شقة إيجار بسعر مناسب زهيد تكنك عن المطر والشمس والحمد لله، لكن كثير من الناس لربما نفسه لا تطاوعه على هذا، ولربما يتساهل، ولهذا كثير من الناس يقولون: علينا ديون نحتاج زكاة، نريد زكاة، الديون في ماذا؟ كثير من الناس يسأل يقول: فلان عليه دين، أناس نعطيهم من الزكاة أو ما نعطيهم؟ طيب والدين في ماذا؟ نحن نعرف أن بعضهم يشتري فِلّة، يبني فِلّة بمليون وأربعمائة، ومليون وخمسمائة بالفيصلية، ويأتي يقول: أعطوني زكاة، معقولة يا جماعة!، بعض الناس يستفتون يقولون: هل نعطيه؟ جاءنا إنسان باني فِلة ويقول: أعطوني زكاة، يا أخي إذاً كل المجتمع يحتاجون أن يبنوا فِللا في الأحياء الغالية بهذه القيمة وحتى لو غير غالية، ويقول: أعطوني زكاة، كل واحد مليون وأربعمائة يبني له أي فِلّة يرضاها في أي حي يختاره، ويركب سيارة بأربعمائة وخمسين ألفًا وعليه دين، هذا لا يُعطَى من الزكاة، إنسان لحقته ديون في جائحة في أمور لابد منها من ضرورات الحياة ونحو ذلك هذا الذي يُعطَى.

نسأل الله أن يغنينا وإياكم بفضله، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، ويرزقنا وإياكم العفاف والغنى.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. رواه البخاري، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده، برقم (2074)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب كراهة المسألة للناس، برقم (1042).

مواد ذات صلة