الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
حديث "ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئًا.." إلى «أعطوني ردائي..»
تاريخ النشر: ١٠ / ذو القعدة / ١٤٢٩
التحميل: 1844
مرات الإستماع: 4261

يعطي عطاء من لا يخشى الفقر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الكرم والجود والإنفاق في سبيل الله" أورد المصنف -رحمه الله- :

حديث أنس قال: ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلِموا فإن محمداً يعطي عمن لا يخشى الفقر وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها[1].
وفي النسخة الثانية من رياض الصالحين "يعطي عطاء من لا يخشى الفقر"، قال: "وإنْ كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه"، مضبوطة "أحبُّ"، الصحيح " أحبَّ"، "حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها".

قوله: "ما سئل رسول الله ﷺ على الإسلام شيئاً إلا أعطاه"، يعني: سئل من أجل الإسلام، فبذْلُه ﷺ وعطاؤه في سبيل الله -تبارك وتعالى- نصرة لدين الله وإعزازاً لكلمته، "ما سئل على الإسلام"، يعني: من أجل الإسلام.  

"شيئاً إلا أعطاه"، "شيئاً" هنا نكرة في سياق النفي فيعم القليل والكثير، والجليل والحقير.

"ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين"،يعني: غنمًا كثيرة لا تُحصى في عددها، وهكذا في يوم حنين حينما رجع النبي ﷺ منها أعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى معاوية مائة من الإبل، وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس، وأعطى كذلك عيينة بن حصن، وجماعة من هؤلاء وإن كان قد أعطى بعضهم دون ذلك كالعباس بن مرداس فغضب، وقال أبياته المعروفة:

أتجعلُ نهبي ونهبَ العُبيد بين عُيينةَ والأقرعِ

يعني: فرسه.

وما كنتُ دون امرئٍ منهما ومَن تضعِ اليوم لا يُرفعِ

أعطاه أقل من مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، "يعطي عطاء من لا يخشى الفقر"، قال: "فرجع هذا الرجل إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر"، عطاء من لا يخشى الفقر يعني: بلا عد ولا حساب؛ لأن من يخشى الفقر يعد ويحسب كم ذهب؟ وكم بقي؟ كم عندنا؟ كم كذا؟ قال: "وإنْ كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث"،يعني: يمر عليه زمان "حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها"، حتى يكون الإسلام، يعني: هو في البداية يسلم لطمع ولا شك أنه كما قال الله وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [سورة التوبة:60]، فهؤلاء من غير المسلمين يُعطَون من أجل تأليف قلوبهم على الإسلام وترغيبهم فيه، وهكذا أيضاً يُعطَى من كان من ضعفاء الإيمان يُعطَى تأليفاً له، وهذا أحد المصارف المعروفة للزكاة التي ذكرها الله ، ولكن من أهل العلم وهذا كان قد فعله عمر منع عنهم هذا بعد أن أعز الله دينه، وهذا باقٍ متى ما احتيج إليه فإن هؤلاء يُعطَون، والله تعالى أعلم.

"وإنْ كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها"،رواه مسلم، فهو في البداية يسلم لطمع ثم بعد ذلك يرسخ الإيمان في قلبه، هكذا الذين خرجوا مع النبي ﷺ، صفوان بن أمية خرج مع النبي ﷺ وهو مشرك في غزوة حنين، وخرج جماعة وهم على الشرك، حتى إن صفوان بن أمية كان له أخ من الرضاعة -أو قريب- فلما هُزم المسلمون في أول الغزوة قال ذلك الرجل: والله لا يردهم منهزمين إلا البحر، وقال: الآن بطل سحر محمد، فقال له: اسكت فض الله فاك، والله لأن يَرُبَّني رجل من قريش خير من أن يَرُبَّني رجل من هوازن، يعني: أن يسوسني رجل من قريش أحب إليّ من أن يسوسني رجل من هوازن، من باب العصبية، يعني يقول: أن يسودني رجل من قبيلتي أفضل من أن تكون السيادة لرجل من هوازن؛ لأنه إذا انتصرت هوازن لن يردهم شيء؛ لأن أهل مكة خرجوا مع النبي ﷺ، فالشاهد أن صفوان بن أمية لما رجعوا كان النبي ﷺ قد استعار منه أدرعاً وقد ضاع بعضها في الحرب وقد أصاب بعضها التلف، فلما أراد النبي ﷺ أن يعوضه أبى وقال: إني أجد في قلبي اليوم ما لم أكن أجده قبل ذلك، يعني: من الإسلام، وهكذا حسُن إسلامهم كما هو معلوم.

إنهم خيروني أن يسألوني

ثم ذكر حديثاً آخر وهو:

حديث عمر قال: قال: قسم رسول الله ﷺ قسما، فقلت: يا رسول الله، لغير هؤلاء كانوا أحق به منهم؟ فقال: إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش، أو يبخلوني، ولست بباخل. رواه مسلم.

"قسَم رسول الله ﷺ قسْماً"، يعني: من غنيمة أو فيء، "فقلت: يا رسول الله، لَغيرُ هؤلاء كانوا أحق به منهم"،يعني: أعطى أناساً، فقال له عمر: هناك من هم أولى من هؤلاء بهذا العطاء، فقال النبي ﷺ: إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش فأعطيهم، أو يبخِّلوني ولستُ بباخل، رواه مسلم.

فهؤلاء ألحوا على النبي ﷺ في المسألة وبشيء من إساءة الأدب والفظاظة والغلظة فأعطاهم ﷺ، وشر الناس من أحسن الناس إليه اتقاء لشره، فأعطاهم لكف شرهم، وقطع ألسنتهم، فلما قال له عمر ما قال، قال: إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش فأعطيهم، أو يبخِّلوني، يعني: إذا امتنعت أُتَّهم بالبخل، ولست بباخل.

أعطوني ردائي

وهكذا الحديث الذي بعده:

حديث جبير بن مطعم أنه قال: بينما هو يسير مع النبي ﷺ مقفله من حنين، فعلقه الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف النبي ﷺ فقال: أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما، لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا. رواه البخاري.

"بينما هو يسير مع النبي ﷺ مَقْفله من حنين"،يعني: مرجعه من غزوة حنين، "فعَلِقه الأعراب يسألونه"، يعني: "علق" من أفعال الشروع مثل شرع وطفق، "يسألونه حتى اضطروه إلى سَمُرة"، السَّمُرة الشجر من شجر العضاه، شجر بالبادية في الحجاز له شوك، شجر معروف ولا زال الناس يوقدون منه ويسمونه السَّمُر، "حتى اضطروه إلى سَمُرة فخطفتْ رداءه ﷺ"، يعني: بشوكها، "فوقف النبي ﷺ فقال: أعطوني ردائي فلو كان لي عدد هذه العضاه نَعَماً لقسمته بينكم"، يعني: إبلا وغنمًا وبقرًا، عدد هذه العضاه، تعرفون أرض الحجاز مليئة بهذه الأشجار التي فيها الشوك على مد البصر، قال: لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً، رواه البخاري، هذه الأوصاف الثلاثة نفاها ﷺ عن نفسه فهي رأس الأوصاف المرذولة، ولا يمكن أن توجد هذه الأوصاف فيمن تكون له السيادة والقيادة والريادة، لا يمكن، البخيل: والبخيل يمسك ولا يعطي وسيتفرق الناس عنه، وأي داء أدوأ من البخل؟، "ولا كذاباً" وهذا ملازم للبخل؛ لأن البخيل له على أمواله عِلل زُرق العيون، كما قال الشاعر، فالشاهد أن البخيل لبخله يضطر إلى أنه يكذب فيقول: أموالي ما هي حاضرة، إذا طُلب إذا سُئل: أموالي مشغولة في كذا، أموالي بعيدة الآن، ما عندي شيء، فيكذب لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً، وهذا أيضاً ملازم لما قبله؛ لأن هذه الأوصاف توجد في الجبناء من الناس، الشجاع حسن الفأل فيقدم في العطاء وفي أيضاً القتال، ولا يكذب لقوته وشجاعته؛ ولهذا يقال: إن الكذب أصله دناءة في النفس وضَعَة وضعف، الكذاب ضعيف، ولذلك تجد في البيئات والمجتمعات التي ينتشر فيها القهر والظلم وسوء التربية والفقر وما أشبه ذلك تجد الأمراض التي تنتشر في المجتمع هي أمراض الالتواء والكذب والاحتيال والتلون وما أشبه ذلك، لكن المجتمعات النظيفة، المجتمعات التي تتربى تربية صحيحة هذه تجد الوضوح، ليس للإنسان أكثر من وجه، ليس عنده التواء، لا يحتاج أن يتملق، لا يحتاج إلى أن يلقاك بوجه ويلقى الآخر بوجه، مباشرة يكون صريحاً واضحاً شجاعاً يستطيع أن يواجه وأن يتكلم بما يعتقد، لكن الجبان هو الذي يروغ فيكذب؛ لأنه لا يستطيع أن يواجهك، إذا قلت له مثلاً: لماذا لم تأتِ؟ قال: هاه، أنا كنت مسافرًا، وهو غير مسافر لكنه لا يستطيع أن يقول: أنا ما أتيت لأني مثلاً لم أرَ المجيء، أو غير مقتنع بالمجيء أو لأني شغلت عنه أو نحو هذا بما هو أهم، لا يستطيع، يقول: كنت مسافرًا، كنت مريضًا، كنت كذا.

الطالب في المدرسة لماذا ما أديت الواجب؟ لا يستطيع أن يقول: أنا والله قصرت، أهملت، كنت ألعب، فإذا كانت العلاقة علاقة قهر وتسلط وظلم وعسف وقاعدة الآباء القديمة هذه "لك اللحم ولنا العظم"، فالولد يروغ كما يروغ الثعلب يبدأ يكذب، يا أستاذ أنا كنت مريضًا، يا أستاذ أنا ذهبت مع أمي إلى المستشفى، يا أستاذ أمس احترق بيتنا، يكذب حتى يتخلص من هذا الموقف، فالنبي ﷺ نفى هذه الأشياء الثلاثة وهي متلازمة كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

 

مواد ذات صلة