الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «لا توكي فيوكى عليك» ، «مثل البخيل والمنفق..»
تاريخ النشر: ١٤ / ذو القعدة / ١٤٢٩
التحميل: 2051
مرات الإستماع: 19805

لا تُوكِي فيُوكَى عليكِ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الجود والكرم" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضى الله عنها قالت: قال لي رسول الله ﷺ: لا تُوكِي فيُوكَى عليكِ[1]، وفي رواية: أنفقي وانفحي أو انضحي، ولا تُحصي فيُحصي الله عليكِ، ولا توعي فيوعي الله عليكِ[2]، متفق عليه.

قوله ﷺ: لا تُوكِي، بمعنى لا تُمسكي، فالإنسان حينما يوكي الإناء بمعنى أنه يحكم إغلاقه، إذا كان عند الإنسان صرّة من مال ثم أوكى هذه الصرة فمعنى ذلك أنه أغلقها وربطها وأحكم ربطها فلا يخرج منها شيء، لا تُوكِي فيُوكَى عليكِ، يعني: لا تمسكي ما عندكِ، لا تمنعي ما بيدك فيوكَى عليكِ، أي: فيكون ذلك متسبباً بمنع الرب -تبارك وتعالى- رزقه عنك، والجزاء من جنس العمل، فالذي يُحسن وينفق يحسن الله -تبارك وتعالى- إليه، والذي يوسع على أهله أو على إخوانه المسلمين المحتاجين حري بأن يعامله الله -تبارك وتعالى- بالمثل.

وقوله ﷺ: ولا تُحصي فيُحصي الله عليكِ، فُسر بمعنى لا تدخري، ولكنه يمكن أن يُفسر بمعنى مقارب لا تُحصي فيُحصي الله عليكِ، بمعنى أن الإنسان لا يدقق في نفقاته بحيث يحسب كم يخرج وكم يبقى وإذا أخرج هذه النفقة كم سيبقى عنده بعدها وما إلى ذلك من هذا التنقير الذي قد يكون سبباً لذهاب البركة، لا تُحصي فيُحصي الله عليكِ.

وقال ﷺ: ولا توعي فيوعى الله عليكِ، لا توعي بمعنى لا تمنعي ما زاد عن حاجتك، لا تمنعيه عمن احتاج إليه فيكون ذلك سبباً لمنع الله رزقه عنكِ، فيقال: أوعَى بمعنى جمع، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [سورة المعارج:19-21]، يُمسك، هذا من طبع الإنسان لكنه يحتاج إلى شيء من المجاهدة وترويض النفس والتهذيب من أجل أن يتغلب على هذه الصفات، وتوعد الله من جمع فأوعى، ولهذا في هذا الحديث قال: وانفحي، بمعنى أنفقي، وهكذا في الروايات الأخرى "أنفقي أو انفحي أو انضحي".

مثل البخيل والمنفق

وفي حديث أبي هريرة الذي بعده قال ﷺ ممثلاً لحال هذا الإنسان الممسك البخيل وحال الإنسان الجواد الباذل المنفق:

عن أبي هريرة  قال رسول الله ﷺ: مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت - أو وفرت - على جلده حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأما البخيل، فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع، متفق عليه

هذا مثل من الأمثال النبوية الصحيحة عليهما جُنّتان من حديد، يعني: كل واحد لبس درعاً، والإنسان إذا لبس الدرع يلبس الدرع كما يلبس الثوب، الدرع مثل الثوب تماماً إلا أنه حلق من الحديد يلبسه المقاتل من أجل أن يتترس به، من أجل يتقي به السلاح، فيلبسه من أعلى، فهذا النبي ﷺ يقول: كمثل رجلين عليهما جُنّتان من حديد من ثُدِيِّهما إلى تراقيهما، هذه التراقي هذا العظم الذي يبدأ من هنا من هذه النقرة التي تكون في النحر إلى الكاهل أو العاتق، هذه العظام يقال لها: التراقي، فالإنسان عنده اثنتان فهو الآن هذه الدرع من هنا إلى هنا.

أو وَفَرتْ على جلده حتى تخفي بنانه، والبنان هو هذا بمعنى أن الإنسان حينما يلبسها أول ما يلبسها يُدخل رأسه ثم بعد ذلك يدخل يديه فهذه تتسع حتى تكون سابغة تتمدد وتستره وتخفي بنانه وتعفو أثره، بمعنى تكون سابغة أيضاً حتى على قدميه، فتعفو أثره تمسح أثره؛ لطولها وسترها، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع، هذا المثال من أهل العلم من فهم منه من فسره بأن ذلك يصور نفس المنفق الجواد ونفس الشحيح، هو تصوير لنفوسهم، فهذا الإنسان المنفق مثل هذا الإنسان الذي لبس الدرع فتمددت واتسعت فامتدت يده بالعطاء، وذلك كناية عن انشراح وإقبال النفس على الصدقة، وأما الإنسان البخيل والشحيح فهو كالذي يكون قد لبس هذه الدرع فضاقت عليه فبقيت كل حلقة في مكانها، فالراوي هنا يقول: "كأني أنظر إلى رسول الله ﷺ"، في رواية أخرى بمعنى أنه يريد أنه وضع يده في جيبه ﷺ بهذا الشكل يريد أن يوسعها فلا تتسع، وتصورْ إنسانًا عليه ثوب ضيق جدًّا لبسه من رأسه لو كان من قماش فضلاً عن الحديد ويريد أن يحرك يده أن يدخل يده في كمه وهي باقية في مكانها لا تتحرك، فكيف يمكن لهذا أن يمد يده ويبذل ويعطي؟!، فمن أهل العلم من يقول: هذا تصوير لنفس الإنسان البخيل، إذا أراد أن يقدم أن يبذل ما طاوعته نفسه، قال: هاه، لا يمكن، هذا يؤثر عندي في الميزانية، هذا كذا، ويبدأ يحسب حسابات ثم يمسك ويشح، ومن أهل العلم من فسر هذا المثل بأن المراد به معنى آخر قال: هذا الإنسان المنفق صارت سابغة عليه وعفت أثره بمعنى أن ذلك الإنفاق كهذه الدرع تكون سبباً لحمايته، والصدقة يكون بها دفع البلاء وأيضاً هي تحميه من شرور كثيرة بإذن الله ، وكذلك أيضاً هي تدفع عنه السوء وقالة السوء، بمعنى أنه لا يُذكر إلا بالقول الطيب وتكون سابغة له فتعفو أثره، أما الثاني الإنسان الممسك الإنسان البخيل فهو بخلاف هذا، تبقى هذه كل واحدة ضيقة في مكانها فلا تعفو أثره، ولا تتسع ولا تستره، ومن ثم تكون السهام موجهة إليه، الناس يتكلمون عليه، فلان شحيح، فلان لا ينفق، فلان لا يبذل، فلان لا يقدم شيئاً، فلان ما عُرف في يوم من الأيام أنه وقف موقفاً مشرفاً، أنه أعان أحداً، فيبقى عرضه مستهدفاً، فهذا تفسير آخر لهذا المثل، والحديث يحتمل هذا وهذا، ولا شك أن هذا يصور نفس المنفق والباذل ونفس البخيل، وكذلك أيضاً لا شك أن النفقة لها من الآثار القريبة والبعيدة فيما يتصل بالعرض وفيما يتصل بدفع البلاء والمكروه عن الإنسان الشيء الكثير.

فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على أنفسنا، وأن يرزقنا وإياكم اليقين والثبات والصبر، وأن يهدي قلوبنا ويصلح أعمالنا.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

 

مواد ذات صلة