الثلاثاء 22 / جمادى الآخرة / 1446 - 24 / ديسمبر 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب الكرم والجود (7-8)
تاريخ النشر: ٢٥ / ذو القعدة / ١٤٢٩
التحميل: 1527
مرات الإستماع: 3204

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الكرم والجود والإنفاق والبذل" أُوردُ جملة من الآثار المنقولة عن السلف وبعض المتقدمين، فمن ذلك ما جاء عن الإمام البخاري -رحمه  الله تعالى، فقد كان في غاية الجود، ربما يأتي عليه النهار فلا يأكل شيئاً، إنما كان يأكل أحياناً لوزتين أو ثلاثاً، وكان يجتنب التوابل كالحمص وغيره، فقال يوماً لرجل آخر يقال له أو يكنى بأبي جعفر قال: "يا أبا جعفر نحتاج في السنة إلى شيء كثير، فقال له: قدر كم؟ قال أحتاج في السنة إلى أربعة آلاف درهم أو خمسة آلاف درهم، قال: وكان يتصدق بالكثير، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين وأقل وأكثر من غير أن يشعر بذلك أحد، وكان لا يفارقه كيسه[1]، وناول رجل مراراً صُرّة فيها ثلاثمائة درهم، وأراد الرجل أن يدعو للبخاري فقال له: "ارفُق واشتغل بحديث آخر، كي لا يعلم بذلك أحد"[2]، وقد اشترى مولاه أو خادمه منزلا بتسعمائة وعشرين درهماً فالبخاري يقول له: "إليك حاجة نقضيها؟ فقلت: نعم، قال: ينبغي أن تصير إلى نوح بن شداد الصيرفي وتأخذ منه ألف درهم، وتحمله إليّ، ففعلت فقال لي: خذه إليك فاصرفه في ثمن المنزل، فقلت: قد قبلته منك وشكرته، وأقبلنا على الكتابة وكنا في تصنيف الجامع يعني الصحيح، فلما كان بعد ساعة قلت: عرضت لي حاجة لا أجترئ رفعها إليك، فظن أني طمعت في الزيادة فقال: لا تحتشمني وأخبرني بما تحتاج، وذكر أن النبي ﷺ آخى بين أصحابه وذكر حديث سعد وعبد الرحمن، فقال له مولاه: قد جعلتك في حل من جميع ما تقول، ووهبت لك المال الذي عرضته عليّ عنيتُ المناصفة، وذلك أنه قال: لي جوار وامرأة وأنت عزب، فالذي يجب عليّ أن أناصفك لنستوي في المال وغيره، وأربح عليك في ذلك فقلت له: قد فعلتَ -رحمك الله، أكبر من ذلك إذ أنزلتني من نفسك ما لم تنزل أحداً، وحللت منك محل الولد، -لاحظ هذا الخادم الآن، ثم حفظ عليّ حديثي الأول يعني ما نسي حينما قال له في البداية: لي حاجة، قال: ما حاجتك؟ فقلت تقضيها؟ قال: نعم وأُسَرُّ بذلك، قلت: هذه الألف تأمر بقبوله، واصرفه في بعض ما تحتاج إليه، فقبله -يعني التي أعطاه إياها، وذلك أنه ضمن لي قضاء حاجتي، ثم جلسنا بعد ذلك بيومين لتصنيف الجامع، وكتبنا منه ذلك اليوم شيئاً كثيراً إلى الظهر، ثم صلينا الظهر وأقبلنا على الكتابة من غير أن نكون أكلنا شيئاً، فرآني لما كان قرب العصر، يعني كأن الخادم يتقلب فيه شيء غير مستريح، يقول: فتوهم في ملالا، وإنما كان بي الحصر، يعني كان محصوراً يريد الخلاء، يقول: غير أني لم أكن أقدر على القيام وكنت أتلوى اهتماماً بذلك.

الشاهد أن البخاري -رحمه الله- أخرج إليه كاغَدَه فيه ثلاثمائة درهم وقال: أمَا إذا لم تقبل ثمن المنزل فينبغي أن تصرف هذا في بعض حوائجك، يقول: فجهدني فلم أقبل، ثم كان بعد أيام كتبنا إلى الظهر أيضاً فناولني عشرين درهماً فقال: ينبغي أن تصرف هذه في شراء الخضر ونحو ذلك، فاشتريت بها ما كنت أعلم أنه يلائمه، وبعثت به إليه وأتيت، فقال لي: بيض الله وجهك، ليس فيك حيلة، فلا ينبغي لنا أن نُعنِّي أنفسنا، يعني: يقول: أنا حاولت معك بكل وسيلة ما استطعت أن أوصل إليك شيئاً، فقلت له: إنك قد جمعت خير الدنيا والآخرة، فأي رجل يبر خادمه بمثل ما تبرني؟ إن كنتُ لا أعرف هذا فلست أعرف أكثر منه[3].

يقول: "وبلغني أنه أنفد في يومٍ واحد بضعة عشر ألف دينار يفتكّ بها الأسرى، فلما أمسى لم يكن له عشاء"[4].

وكان عبد الله بن يحيى بن يحيى غنيًّا سمحاً جواداً كثير الصدقات والإحسان كامل المروءة، رأى مرة شيخًا حطاباً ضعيفاً، فوهبه مائة دينار[5].

وكان إسماعيل بن أحمد والي خرسان يصل محمد بن نصر الإمام المعروف في العام بأربعة آلاف درهم، ويصله أخوه إسحاق بمثلها، ويصله أهل سمرقند بمثلها، فكان ينفقها من السنة إلى السنة من غير أن يكون له عيال، فقيل له: لو ادخرت لنائبة؟ فقال: سبحان الله! أنا بقيت بمصر كذا وكذا سنة قوتي وثيابي وكاغدي وحبري وجميع ما أنفقتهم على نفسي في السنة عشرون درهماً، فترى إن ذهب ذا لا يبقى ذاك؟[6].

ويقول أبو عثمان الجبري: "لا يكمل الرجل حتى يستوي قلبه في المنع والعطاء، وفي العز والذل[7]، يعني إذا حصل له غنى وإذا حصل له حاجة، وإذا حصل له رفعة وعز، وإذا حصل له ذل.

وكان حامد بن العباس الوزير من أوسع الناس نفساً، وأحسنهم مروءة، وأكثرهم نعمة، ينصب في داره عدة موائد ويطعم حتى العامة والخدم، يكون نحو أربعين مائدة[8].

 ويقول الحاكم: سألت محمد بن الفضل بن محمد عن جده، فذكر أنه لا يدخر شيئاً جهده بل ينفقه على أهل العلم، وكان لا يعرف مقادير العملات، لا يميز بين العشرة والعشرين، يقول: وربما أخذنا منه العشرة فيتوهم أنها خمسة[9]، وهذا نقل عن بعض أهل العلم المعاصرين كالشيخ الأمين الشنقيطي -رحمه الله، كان إذا جاء رجل يقترض منه يعطيه ويقول: ليست بقرض، نحن ما نحتاج إليه، لا ترده علينا، فكان يعطي قراباته ويصلهم، وكان يخرج أحياناً بنعلين في شكلين مختلفين لا ينتبه.

ويقول الصُّولي: كان المقتدر يفرق يوم عرفة من الضحايا تسعين ألف رأس[10]، يعني المقتدر الخليفة، تسعين ألف رأس!، وأكثرُ أسئلة الناس اليوم عن النسك الذي ليس فيه هدي وعن الاشتراك في الأضحية خمسة، ستة، سبعة يريدون أن يشتركوا في شاة.    

وأشار علي بن عيسى الوزير على المقتدر فوقف ما مَغَلُّه في العام، يعني ما يخرج منه تسعون ألف دينار على الحرمين والثغور، وأفرد لهذه الوقوف ديوانًا سماه ديوان البر[11]، يعني: إدارة أو مؤسسة.

 ويقول أحمد بن كامل القاضي: سمعت علي بن عيسى الوزير يقول: كسبت سبعمائة ألف دينار أخرجت منها في وجوه البر ستمائة ألف وثمانين ألفً[12].

وكان ديوان الوزير محمد بن علي الماورائي اشتمل على ستين ألفًا ممن يموّنهم، وكان يتصدق في الشهر بمائة ألف رطل دقيق، وقيل: أعتق يعني في عمره مائة ألف نسمة، وكان ذكيًّا جيد البديهة وكان له ختمة في اليوم والليلة، وورد أنه أنفق في بعض المرات التي حج فيها مائة ألف دينار[13].

وهذا أيضاً عطية بن سعد الأندلسي لقيه عبد العزيز بن مندار الشيرازي ببغداد وصحبه، يقول: "كان من الإيثار والسخاء على أمر عظيم، ويقتصر على شيء يسير، يعني من اللباس، وله كتب تحمل على جمال، يقول: رافقته وخرجنا جميعاً إلى الياسرية فعجبت من حاله، فلما بلغنا المنزلة ذهبنا نتخلل الرفاق، فإذا شيخ خرساني حوله حشم فقال لنا: انزلوا، فجلسنا فأتى بسفرة فأكلنا وقمنا، فلم نزل هذا ينفق لنا كل يوم مَن يطعمنا ويسقينا إلى مكة، وما حملنا من الزاد شيئا"[14].

وكان من كرم نصر الدولة أحمد بن مروان أنه كان يبذر القمح للطيور[15]، هذه بعض النماذج، ولعلي أختم هذه النماذج في الغد -إن شاء الله، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.

  1. سير أعلام النبلاء (10/ 109- 110).
  2. المصدر السابق (10/ 110).
  3. انظر: المصدر السابق.
  4. المصدر السابق (10/ 145).
  5. المصدر السابق (10/ 492).
  6. المصدر السابق (11/ 25)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (2/ 248).
  7. سير أعلام النبلاء (11/ 42).
  8. المصدر السابق (11/ 220).
  9. المصدر السابق (11/ 228).
  10. المصدر السابق (11/ 375).
  11. المصدر السابق (11/ 504).
  12. المصدر السابق.
  13. المصدر السابق (12/ 53).
  14. المصدر السابق (13/ 133).
  15. المصدر السابق (13/ 340).

مواد ذات صلة