الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
بعض ما جاء عن السلف في باب فضل الاختلاط بالناس (1-2)
تاريخ النشر: ١٧ / ربيع الآخر / ١٤٣٠
التحميل: 1631
مرات الإستماع: 3855

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمما ورد عن السلف في باب "فضل الاختلاط بالناس، وحضور جمعهم وجماعاتهم" ما جاء عن وهيب بن ورد قال: "جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: قد حدثت نفسي ألا أخالط الناس، قال: لا تفعل، إنه لابد لك من الناس، ولابد لهم منك، ولهم إليك حوائج، ولك نحوها، ولكن كُن فيهم أصمَّ، سميعًا، أعمى، بصيرًا، سَكوتاً، نَطوقًا"[1].

قوله: كن فيهم أصم سميعاً، يعني: احفظ سمعك عن كل ما لا يليق، وتسمع ما ينفع ويحسن ويجمل، وأن يصم الإنسان سمعه عما قد يكرهه من كلام الناس، كما قال الشافعي -رحمه الله- فيما ينسب إليه:

ولقد أمرُّ على اللئيم يسبني فمضيتُ ثُمَّتَ قلتُ: لا يعنيني[2]

فهو أصم عن الكلام والشيء الذي لا يستحسنه ولا يعجبه، وهو أسمع خلق الله حين يريد، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، وقال: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72]، ويدخل في هذا المعنى شهادة الزور المعروفة، ويدخل فيه أيضاً الحضور، فالشهود بمعنى الحضور، حضور أماكن الباطل، الحفلات الغنائية، ومجالس الغيبة، والنميمة، والفجور، والمعصية، وما أشبه ذلك كله يدخل فيه، فيكون الإنسان أصم، وفي نفس الوقت يكون سمعياً، ويكون أعمى بصيراً يعني لا يمتد نظره إلى ما لا يليق، ومالا يجوز النظر إليه، يغض بصره وهو بصير، يبصر ولكنه يبصر ما ينفعه، وهكذا أيضاً يكون سكوتاً نطوقا، يكون سكوتاً حيث ينفع السكوت، ويكون نطوقًا بالحق حيث يجمل ذلك، ويدخل في هذه الجملة برمتها في هذه الوصية معنى يذكره أهل العلم، وقد ذكره أبو حاتم -رحمه الله- في كتابه (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء)، وذكره آخرون وهو التغافل، التغافل يعني لا يُنقِّر، ولا يدقق، ولا يستقصي، ولكنه لا يفوته شيء، وهذا من مقتضى العقل، وقد قالوا: إن العاقل لا يُظهر عقله للناس.

ويقول وهب بن منبه: "استكثر من الإخوان فإن استغنيت عنهم لم يضروك، وإن احتجت إليهم نفعوك"[3]، وهذا يوجد له نظائر من الآثار المنقولة عن السلف، ومن الحكماء أيضاً، الاستكثار من الإخوان، ويوجد أيضاً ما يقابله وهو كلام البشر، فمن الناس من يستحسن التقليل من المخالطة، والمصاحبة، والإخوان، يقول: فإن الداء أكثر ما تراه يَحُولك من الطعام ومن الشراب، ولكن هذا الكلام ليس على إطلاقه، ليس دائماً، وإنما يستكثر من إخوان الثقة، والصدق والمروءة والدين، فهؤلاء هم العدة، وبهم يتقوى الإنسان على الطاعة، ويرجع إليهم عند الحاجة، فيستشيرهم وينتفع بمجالستهم غاية الانتفاع، وأما أولئك الذين يدعون إلى معصية الله ، ويزينون له الباطل والمنكر فهؤلاء لا يصحبهم بحال، فإن الواحد منهم إذا صحبه فإن ذلك يكون ذمًّا في حقه، فكيف بالاستكثار؟!، وكما قيل: الصاحب ساحب.

عن المرءِ لا تسأل وسلْ عن قرينه فإنّ القرينَ بالمُقارِن يقتدي[4]

وكما قيل: الطبع لص، الطبع سراق، الناس كأسراب القطا، جبلوا على تشبه بعضهم ببعض، الإنسان إن صاحب أهل المروءة والسمت الحسن وأهل الدين والشمائل والخصال الحميدة فإنه لا شك يتأثر، والإنسان بطبعه يتأثر ويؤثر، حتى إن الإنسان لربما يتأثر بحركات الإنسان العادية، حركة عينه، أو حركة يده، وهذا مشاهد.

ويقول مكحول: "إنْ يكنْ في مخالطة الناس خير فالعزلة أسلم"[5]، لكن هل السلامة مطلوبة دائماً؟ إذا كان الإنسان يريد السلامة فمعنى ذلك أنه لا يعمل، ولا يُنتج، ولا يأمر بالمعروف، ولا يدعو إلى الله، ولا يعلِّم الناس الخير؛ لأنه لن يسلم، والإنسان حينما يمشي ويتحرك ويعمل لابد أن يخطئ، ولابد أن يناله شيء من أذى الناس، فالسلامة وطلب السلامة ليس مطلوباً دائماً.  

يقول جعفر بن برقان: "بلغني عن يونس فضلٌ وصلاح، فأحببت أن أكتب إليه أسأله، فكتب إليه، فقال: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه"، يعني هو يسأله ماذا أنت عليه من العمل؟، أعطني من تجاربك وخبراتك في الحياة، يقول: "فأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وأن تكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذلك بعيدة، ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير -ألّا أذكرهم بسوء- فوجدت الصوم في الحر أيسر عليها من ذلك، هذا أمري يا أخي، والسلام"[6].   

هذا رجل إمام في العلم والعبادة، ويقول هذا الكلام، فماذا يقول غيره؟، وكان ابن أبي ذئب من أورع الناس، وأودعهم وقد رُمي بالقدر -القول بالقدر- وهي بدعة معروفة، يقول الذهبي -رحمه الله: "وما كان قدَريًّا، لقد كان يتقي قولهم ويعيبه، ولكنه كان رجلاً كريماً، يجلس إليه كل واحد ويغشاه، فلا يطرده ولا يقول له شيئاً، وإن مرض عاده، فكانوا يتهمونه بالقدر لهذه"[7]، بمعنى أنه كان يأتي عنده الناس أخلاط الناس، وبعض هؤلاء الذين يأتون من القدرية، وإذا مرض الواحد منهم ذهب إليه من باب أن هذا مسلم، فيؤدي حقه فيزور هذا الإنسان، ولا يسلم الإنسان من ألسن الناس، ومن تصنيفهم، فرموه بالقدر، وقالوا: هذا قدري؛ لأنا رأيناه في اليوم الفلاني يزور فلانًا، ورأيناه في اليوم الفلاني يزوره فلان، إذن هو قدري، وابن أبي ذئب إمام كبير من أقران الإمام مالك بن أنس -رحمه الله، بل بعض أهل العلم فضله على الإمام مالك، ورأى أنه أرسخ في العلم منه.

يقول الذهبي: "كان حقه أن يَكْفهرَّ في وجوههم، ولعله كان حسن الظن بالناس[8]، يعني: يحسن الظن بالناس، ولا يغلب على ظنه أن هذا فعلاً مبتدع.

ويقول سفيان الثوري: "اصحب من شئت ثم أغضِبه، ثم دُسّ إليه من يسأله عنك، فإذا كان الذي يحركه الهوى، وتغيره الكلمة فسترى منذ البداية أن هذا لا يصلح للمصاحبة"[9]، وإذا كان هذا الإنسان قد تربى تربية صحيحة وجيدة فإنه يضع الأمور في مواضعها، من الناس من لو قلت له: السؤال ليس الآن، السؤال غداً يوم الأربعاء  -إن شاء الله- ما دخل المسجد بعدها، وهذا شيء مشاهد، وشاهدوه، يتكرر، بمجرد أن قلت له، قال: لا أجيبك الآن، أنا الآن مشغول، فكيف لو أحد آذاه، أو أحد شتمه، أو أحد ضربه، أو نحو ذلك ماذا يفعل؟.

ومن الناس من إذا اتصل مرة أو مرتين وما وجد من يرد عليه فإنه يغضب، وبعضهم يرسل رسالة يحرِّم أن يسأل أحداً، فمثل هذا صحبته -إذا صاحب أحدًا- عذاب، فإنما يصحب الإنسانُ العقلاء، أهل الحلم، الذين يزنون الأمور بميزان صحيح، ليسوا من أهل الطيش، ويعطون كل شيء قدره، وحقه، وما يستحقه، وكثير من الناس إذا رضي أعطاك أكثر مما تستحق، وإذا غضب نسأل الله العافية، وهذا غلط.

وجاء -أيضًا- عن سيفان الثوري -رحمه الله- أنه يقول: "كثرة الإخوان من سخافة الدين"[10]، بمعنى أنه يداهن ويسكت عن الحق، ولا يأمرهم بمعروف، ولا ينهاهم عن منكر، فأحبابه كثير، هو يقصد هذا، ولهذا كان بعض السلف يقول: "إذا رأيت الرجل محببًا إلى جيرانه فاعلم أنه مداهن"[11]، هذا الكلام ليس على إطلاقه، فأحياناً يأمرهم وينهاهم ولكنه موفق، بأسلوب حسن، ويقبلون منه، وقد يحصل هذا للإنسان الذي يداهن، ولكن القبول من عند الله -تبارك وتعالى، فإن الله إذا أحب عبداً وضع له القبول في السماء وفي الأرض، وإذا أبغض عبداً فإنه مهما تزين للناس وحاباهم فإن الله يرفع عنه القبول في السماء وفي الأرض، ولهذا قال النبي ﷺ: أنتم شهداء الله في الأرض[12].   

وقال: من شهد له ثلاثة من المسلمين دخل الجنة، وقالوا: واثنان؟ قال: واثنان[13]، بمعنى شهدوا له بالخير، والصلاح، وما أشبه ذلك.

ويقول إسحاق الأزرق: "ما أدركتُ أفضل من خالد الطحان؟، قيل: قد رأيتَ سفيان؟ -يعني سفيان الثوري، قال: كان سفيانُ رجلَ نفسه، وكان خالدٌ رجلَ عامة"[14]، بمعنى أن أهل العلم على نوعين: نوع يصلح لطلاب العلم فقط ولا يصلح للعامة، إما لأسلوبه، لطريقته، لتعامله، لانقباضه، وإما لطريقة الطرح، والمستوى، لا يستوعب الناس ما يقول، وإنما يفهمه طلاب العلم، فتجد الرجل مع تلامذته وطلابه فقط، فبعض أهل العلم من السلف كانوا بهذه الطريقة، ومنهم من يكون رجل عامة، بمعنى أنه يصل إلى قلوب العوام، وعنده من الأسلوب والقدرة على المخالطة ما يستطيع فيه أن يداخل هؤلاء، وأن يجالسهم، وأن يُسمعهم وأن يفهمهم وأن يؤثر فيهم، ولذلك تجد بعض العلماء كابن الجوزي مثلاً يُذكر أنه لربما حضر مجلسه مائة ألف، وهذا فيه مبالغة كما يقول الذهبي، يعني أين سيجلس هؤلاء الناس؟ لكن اجعل من المائة الألف عشرة آلاف، عشرة آلاف، اليوم المحاضرة التي يحضرها ألف يعتبر حضورًا كبيرًا جدًّا، فكيف عشرة آلاف في السابق على قلة الناس، وعدم وجود الأماكن المهيَّأة، وما يُوصل من مكبرات الصوت، وما أشبه هذا؟، فابن الجوزي -رحمه الله- عالم، ومع ذلك كان رجل عامة، يحضر مجلسه الملوك، فمن دونهم في مجالس الوعظ، وما أشبه هذا، بينما رجل مثل الإمام أحمد لم يكن رجل عامة، سفيان الثوري ليس برجل عامة، وكذا الإمام مالك والشافعي، فأكثر العلماء لم يكونوا من هذا الصنف، لكن من الناس من يفتح الله  عليه، وعنده أسلوب، وقدرة، وخلطة للناس، وتحمُّل لهم وما أشبه ذلك، ولهذا كثير من العلماء لربما يكون فيه شيء من الانقباض، والجفاء، فإذا سأله أحد وأضجره لربما سمع منه شيئاً فيه شيء من الخشونة، ونحو هذا في الكلام، ربما يكون السبب طبائع النفوس أحياناً، وأحياناً كثرة الانفراد مع الكتب، يعني حتى هذا في غير العلماء، أنا رأيت من يجلس المدة الطويلة على الجهاز، وينتج في لحظات أشياء كثيرة جدًّا في مدخلات في الجهاز، يقول: أنا أستطيع أن أتعامل مع الجهاز لكن الناس لا أستطيع أن أتعامل معهم، فكان إذا تعامل مع الطلاب في الكلية أو في الجامعة أو نحو ذلك؟، الطلاب لا يتحملونه، والسبب أن أكثر وقته يقضيه على الجهاز؛ ولهذا من الآفات التربوية لهذه البرامج التي يجلس عليها الصغار منذ نعومة أظفارهم أمام الجهاز ولا يختلطون بالآخرين العزلة والانفراد.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 
 
  1. سير أعلام النبلاء (4/ 550).
  2. البيت لشمر بن عمر الحنفي، انظر: الأصمعيات (ص: 126).
  3. سير أعلام النبلاء (4/ 550).
  4. ديوان طرفة بن العبد (ص: 32).
  5. تاريخ دمشق لابن عساكر (60/ 221)، وسير أعلام النبلاء (5/ 476).
  6. انظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال (32/ 524)، وسير أعلام النبلاء (6/ 386).
  7. سير أعلام النبلاء (6/ 562).
  8. المصدر السابق.
  9. تاريخ دمشق لابن عساكر (53/ 279)، وسير أعلام النبلاء (6/ 649).
  10. سير أعلام النبلاء (6/ 649).
  11. المصدر السابق (6/ 650).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، برقم (1367)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب فيمن يُثنَى عليه خير أو شر من الموتى، برقم (949).
  13. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، برقم (1368).
  14. انظر: تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي (8/ 291)، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لابن الجوزي (9/ 42)، وتهذيب الكمال (8/ 103)، وسير أعلام النبلاء (7/ 296).

مواد ذات صلة