الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «لا استطعت» ما منعه إلا الكبر ، «ألا أخبركم بأهل النار..»
تاريخ النشر: ١٩ / جمادى الأولى / ١٤٣٠
التحميل: 1740
مرات الإستماع: 8066

أن رجلا أكل عند رسول الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

عن سلمة بن الأكوع : أن رجلا أكل عند رسول الله ﷺ بشماله، فقال: كل بيمينك قال: لا أستطيع! قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر. قال: فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم

فالشاهد هذا الرجل يأكل وعند رسول الله ﷺ بشماله، وهذا مقام يتعين فيه التعليم والإنكار، وكثير من الناس يجامل في هذه المقامات، يستحي، فيجد من جلسائه من يأكل بالشمال أو يشرب بالشمال فلربما يثقل عليه أن يأمرهم أو ينهاهم مع أن الواجب أن الإنسان ينصح وينبه ولو بطريقة خفية دون أن يشعر الآخرون، لو أنه حرك يده إن كان بجانبه أو نحو ذلك.  

فقال له النبي ﷺ: كل بيمينك[1]، وهذا فيه تعليم، وهو أبلغ مما لو قال له: لا تأكل بشمالك، فقد يتساءل، قال: كل بيمينك فهذا متضمن للنهي عن الأكل بالشمال، وفيه تعليم للهدي الكامل والسنة في الأكل.قال: "لا أستطيع"، الذي يظهر هنا أنه لم يكن به بأس ولا علة، ولو كان به علة أولاً فإن ذلك قد يلاحظ بالنسبة للنبي ﷺ فلا يأمره بما لا يستطيع، ومن جهة أخرى النبي ﷺ دعا عليه ولو كان به بأس أو علة، أو كان ذلك لعذر فإن النبي ﷺ هو أرحم هذه الأمة بالأمة.

فقال الرجل: "لا أستطيع" ربما كان الحامل له على الأكل بالشمال ربما يكون هو الكبر، وقد يتساءل الإنسان كيف يحمل الكبر أحدًا من الناس على الأكل بشماله؟، يقال: من الناس من هو هكذا، لربما يريد مخالفة المعهود، معهود الناس، ولربما كان ذلك؛ لأنه يأنف أن يؤمر، يقال له: كل بيمينك فيتعاظم، ويتكبر فما يكون الأكل في أوله -ابتدائه- بالشمال بسبب الكبر، وإنما ذلك يمكن أن يكون على سبيل السهو -الغفلة، أو الجهل أو نحو ذلك، ثم لما قال له النبي ﷺ: كل بيمينك حصل عنده شيء من عزة النفس أخذته العزة بالإثم، فقال: "لا أستطيع"، وهذا عذر كاذب، ورد لأمر النبي ﷺ قال: "ما منعه إلا الكبر"النبي ﷺ دعا عليه فقال: لا استطعت، قال: فما رفعها إلى فِيه"، يعني كأن يده قد شُلت.

ويؤخذ من هذا أيضاً أن من وقع في شيء من المخالفة فقد يكون المقام يقتضي أن يُدعى له بصلاح الحال، والهداية والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم، وقد يقتضي المقام في بعض الأحوال الدعاء عليه، ولذلك لا يصح الإطلاق بأن من وقع في المخالفة أو نحو ذلك أنه يُدعى عليه هكذا، سواء كان كافراً، أو كان فاسقاً، أو مبتدعاً، هذا غير صحيح، بهذا الإطلاق، ولا يصح أيضاً أن يقال: يُدعى له بالهداية، ولا يُدعى على أحد بإطلاق، وإنما لكل مقام مقال، فالنبي ﷺ دعا لأقوام، ودعا على آخرين، وهذا الرجل رجل من المسلمين في الظاهر، ومن قال: إنه كان من المنافقين فلا دليل على ذلك، ومع ذلك دعا عليه النبي ﷺ، فحصل له ما حصل حيث وقعت له هذه الدعوة استجيبت فشلت يده أو نحو ذلك، فقد يُدعى على المرأ، وقد يُدعى له، المقصود ألا نطلق، وألا نعمم كما يفعل بعض الناس، بعض الناس يغضب إذا دعا أحد على الكفار، يقول: لماذا تدعو عليهم؟ لماذا تدعو على اليهود؟   

فالتفصيل في الأمور هو المطلوب دائماً، وما يقع الناس في الإشكال وفي الغلط إلا بسبب الإطلاقات الواسعة، هذا يقول: نعم بإطلاق، وهذا يقول: لا بإطلاق، فهذا على طرف، وهذا على طرف، ولهذا يقول ابن القيم -رحمه الله:

فعليكَ بالتفصيل والتبيين فال إطلاقُ والإجمال دون بيانِ
قد أفسدا هذا الوجودَ وخبّطا الأ  ذهانَ والآراء كل زمانِ[2]

وفي كثير من المسائل تجد الإطلاق أحياناً بالقول بأن هذا لا يجوز، أو أن هذا يجوز، مع أن الصحيح أنْ يفصل في ذلك، وتُنزل الأحكام على الأحوال.

كل عُتل جوّاظ مستكبر
حديث حارثة بن وهب ، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتل جوّاظ مستكبر[1].

وهذا مضى في باب "ضعفة المسلمين"، لكن المتعلق بهذا الحديث هنا كل عُتل جوّاظ مستكبر، العتل: هو الإنسان الغليظ القاسي الجاف، فالغلظة والجفاء أمر مذموم، والنبي ﷺ أخبر أن الغلظة والجفاء في الفدّادين من ربيعة ومضر الذين يتبعون أذناب الإبل[2].

فالغلظة والجفاء تكون طبعاً جبليًّا أحياناً في الإنسان، قد تجد ذلك الإنسان هكذا طبع على هذا، فيحتاج إلى كثير من الترويض والمجاهدة للنفس، من أجل التخلص من هذا، وأحياناً يكون ذلك مكتسباً إما بخلطة أو مصاحبة، يصاحب الأجلاف، والطبع لص، أو يكون ذلك بسبب المخالطة للون من الصناعات أو المهن أو المزاولات كما أخبر النبي ﷺ بأن الذين يتبعون أذناب الإبل يكتسبون من طباعها.  

وكذلك مزاولة الأعمال، إنسان يعمل في صياغة الذهب ليس كالذي يعمل في كسارة، الذي يعمل كسائق سيارة صغيرة غير الذي يعمل سائقًا لشاحنة كبيرة مثلاً تحمل الصخور، فهذا يؤثر في طبعه ولابد، فتجد في طبع هذا من الشدة مالا تجده في طبع الآخر، فذلك يكون مكتسباً، وتارة يحصل هذه التأثر والاكتساب بسبب بعض ما يتعاطاه الإنسان من الأكل مثلاً، وقد ذكر شيخ الإسلام أن أكل لحوم الإبل يؤثر في آكليها، وقال: "إنه يناسب أن يُضعف أثره بالوضوء بعده"[3]، فالأكل أحياناً يؤثر في أخلاق الإنسان وفي طبيعته إضافة إلى البيئة التي يعيش فيها، قد يعيش في بلد من طبيعتهم الغلظة، ولهذا يذكر أهل الاجتماع ونحو ذلك أن البيئات التي تكون جبلية تجد في طباع أهلها من الشدة والقسوة مالا تجده في أهل السهول.

وليس المراد بذلك أن الإنسان قد يقسو قسوة مقصودة على أحد ممن وقع في مخالفة أو إضجار أو نحو ذلك فهذا يختلف عما نحن فيه، الكلام في أصل الطبع، الغلظة والجفاء والقسوة، فقال: كل عتل جواظ مستكبر، الجواظ هو: المتعاظم، والمستكبر هو المتعالي المترفع على الحق أو على الناس، فهؤلاء أهل النار، وهذا باعتبار الغالب، وكما سيأتي في الحديث الآخر: لما اشتكت الجنة والنار لربها، فالنار تذكر وتشتكي أن أهلها هم هؤلاء الكبراء، وأهل الجنة هم الضعفاء[4]، فهذا باعتبار الغالب، وإلا فقد يوجد في الضعفاء من أهل النار كثير إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [إبراهيم:21]، فالأتباع قد يكونون من الضعفاء من الفقراء فيدخلون النار مع قادتهم، ومقدميهم ونحو ذلك، لكن باعتبار الغالب أن الجنة للضعفاء، والنار للعتاة للمتكبرين، للمتعاظمين، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب الكبر، برقم (6071)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2853).
  2. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، برقم (3302)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه، برقم (51).
  3. انظر: شرح عمدة الفقه لابن تيمية، من كتاب الطهارة والحج (1/ 331).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم (2846).

مواد ذات صلة