الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا»
تاريخ النشر: ٢١ / جمادى الأولى / ١٤٣٠
التحميل: 2162
مرات الإستماع: 14585

لا ينظر الله يوم القيامة إلى

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "تحريم الكبر والإعجاب" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ قال: لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا[1]، متفق عليه.

المقصود بالنظر كما ذكر بعض أهل العلم هنا أنه نظر خاص، وهو نظر الرحمة، وما شابهه، وإلا فإن الله   يرى خلقه أجمعين، لا يخفى عليه منهم خافية في أي حال من أحوالهم في تقلبهم في الدنيا وفي الآخرة، لا يخفى عليه شيء، لا يخفى منهم شيء، كلهم بارزون له يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، فمثل هذا النظر المنفي، وكذلك الكلام المنفي، وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:174] ونحو ذلك فيحمل على تكليم الاستعتاب، أو تكليم الرضا، أو نحو ذلك، وإلا فإن الله يقول لأهل النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].  

قال: لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا، الإزار معروف، وذِكر الإزار يسميه الأصوليون مفهوم اللقب، ومفهوم اللقب لا يعتبر، لا حجة فيه، لا يحتج به، بمعنى لا يقول قائل: من جر إزاره إذاً خص الإزار مفهومه أن من جر ثوبه خيلاء فلا إشكال فيه، أو من جر عباءته -بشته- خيلاء فلا إشكال فيه، من جر السراويل خيلاء فلا إشكال فيه، فالإزار هنا مفهوم لقب، مفهوم اللقب معناه أنه لابد من ذكر مسمى ليستقيم الكلام ويضاف إليه الحكم، وإلا فلا فرق بين الثوب والإزار والعباءة والبنطال والسراويل، العباءة أقصد بها المِشلح -البشت- كل ذلك حكمه واحد لا فرق، فكل من وقع له شيء من ذلك سواء كان من قبيل الإزار أو غيره فهو داخل في هذا الحكم بهذا القيد، لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً، والبطر هو التعاظم والترفع، ويحصل ذلك أحياناً بسبب الزهو بالنعمة، بسبب النعمة فيقال: بطرِت القرية معيشتها، بمعنى أنها صارت ذات بطر، ويقال: فلان بطِرٌ، وهو بطران، الناس اليوم يستعملونها استعمالا خطأ يقصدون ببطران أن عنده مالا كثيرًا وليس هذا هو المراد، وإنما المراد بالبطر هو التعاظم والانتفاشة الذي يكون بسبب الزهو، والخيلاء والتكبر.

وهذا الحديث يدل على أن من جر إزاره أو من جر ثوبه من أسبل، من وقع له شيء من هذا أن الله لا ينظر إليه، وإذا جاء الوعيد على فعل من الأفعال بأن الله لا ينظر إليه فإن ذلك يدل على أنه عظيم، وأنه من الكبائر، وهذا الحديث قيد فيه جر الإزار بالبطر، يعني أن يفعل ذلك من باب الخيلاء، وقد جاء في أحاديث أخرى من غير تقييد لكنه لم يذكر فيه هذه العقوبة الخاصة، وإنما ذكر عقوبة أخرى، كقوله ﷺ: ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار[2]، فهذا وعيد بالنار، والقاعدة في ضابط الكبيرة ما جاء الوعيد عليه بعقوبة خاصة كالنار، أو جاء اللعن فيه إلى غير ذلك مما يذكرون في ضابط الكبيرة، وهذا الذي يتعلق بنا منها هنا، أنه هنا ذكر: لا ينظر إليه، وفي الحديث الآخر لم يقيد بالبطر، وإنما أطلق فقال: ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار، ما زاد عن الكعبين، وهذا يدل على أن ذلك إن وقع من غير بطر فهو من الكبائر.

هل يقال أيضاً: لا ينظر الله إليه؟

الجواب لا. وإنما يقال: هذا مقيد بالبطر، فذنبه أكبر، جرمه أعظم، فلا ينظر الله إليه مع الوعيد له بالنار.

مراتب الإسبال

فيكون ذلك الجرم وهو الإسبال على مراتب:

المرتبة العليا: وهو من فعل ذلك تكبراً وتيهاً فهذا لا ينظر الله إليه.

المرتبة الثانية: من فعله من غير كبر، ومن غير خيلاء فمثل هذا يقال: إنه متوعد بالنار، ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار، بعضهم يقول: إن صاحبه في النار، وبعضهم يقول: هذا القدر الزائد في النار، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، بصرف النظر عن قصده إذا قال الإنسان: أنا لا أفعل ذلك كبراً، أنا أفعل ذلك تساهلاً، تجملاً، عادة الناس ونحو هذا، يقال: هذا لا يحل، هذا متوعد بالنار.  

وحديث أبي بكر لما سمع الوعيد من النبي ﷺ فذكر له ما يلاقي وما يحصل له من استرسال إزاره وهو يتعاهده، يرفعه، فقال له النبي ﷺ: إنك لست منهم[3]، هل يفهم منه أن أبا بكر كان يسبل ثيابه ابتداء؟، أو أن ذلك يقع منه من غير قصد؛ لأن إزاره يسترسل؛ لأنه كان نحيلاً فلا يستمسك الإزار على وسطه وإنما يسترسل فهو يرفعه حيناً بعد حين، كلما نزل رفعه، يعني انظر إلى إنسان مثلاً يلبس الإحرام -نحن ما نلبس الآن الإزار لكن الإحرام، فكثيراً تجد من الناس من يسترسل منه هذا الإحرام ينزل وهو يرفعه، فإذا نزل وجاوز الكعبين هل يقال: إنه بهذا الاعتبار بهذا الوقت الذي مضى بنزوله هو متوعد بالنار؟ 

الجواب: لا، فذلك لا يؤاخذ عليه الإنسان، وفرق بين هذا وبين من يصنع ذلك ابتداء، كمن يفصل ثوبًا طويلا لا يتعاهده فمثل هذا داخل في الوعيد، والله تعالى أعلم.  

وقد جاء في هذا أحاديث أخرى كقوله ﷺ إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه[4]، فهذا هو الأصل، وهذا هو الأكمل والأفضل، هذه إزرة المؤمن، وجاء الترخيص إلى الكعبين، ولكن لا حظّ للكعبين في الإزار، بمعنى أنه يكون فوقها، فإلى هنا إلى الكعبين الكعب غير داخل في الغاية، وإنما هو خارج عنها، هذه رخصة بمعنى أنه يجوز للإنسان أن يلبس إلى حد الكعبين، وما عداه فلا يجوز، الأفضل إلى أنصاف الساقين، بل جاء في الحديث الآخر أن النبي ﷺ أنكر على الرجل الذي رآه يسبل إزاره، ثم وضع كفه تحت ركبته، وأخبره أن هذا هو موضع الإزار[5]، لكن مثل هذا ينبغي أن يُراعَى فيه أمر آخر وهو لباس الشهرة، بمعنى أن الإنسان لو لبس اليوم في بيئتنا في مجتمعنا في أيامنا هذه لبس ثوبًا تحت الركبة بخمسة أصابع، بناء على ما دل عليه الحديث الأخير، فمثل هذا يكون ثوب شهرة.

المقصود بثوب الشهرة هو الشيء الملفت للأنظار، الذي يمكن للعبد أن يجد مندوحة عنه، بمعنى أنه لا يجب عليه، لو أن امرأة تلبس العباءة في بلد تبرج وسفور يقال: هذه شهرة؟ نقول: يجب أن تتميز بدينها، وما أوجب الله عليها، ما تتبرج مثل هؤلاء، لكن هل يجب على الإنسان أن يكون ثوبه إلى ما تحت الركبة بخمسة أصابع؟ الجواب: لا يجب عليه هذا، طيب إلى أنصاف الساقين؟.    

الجواب: لا يجب عليه هذا، فيلتفت ويلحظ في ذلك ما يتصل بالعرف، فإذا كان ذلك في عرف الناس يعتبر شهرة في مكان من الأمكنة أو في زمان فإنه يُترك، لا أن يسبل الإنسان، هذا لا يجوز، لكن أقصد لا يلبس إلى تحت الركبة بأربعة أصابع.

أيوب السختياني -رحمه الله- من أئمة التابعين، ومن عبادهم، وزهادهم، وفضلائهم كان في إزاره أو في ثوبه بعض التذييل، يعني فيه طول لكن لا يصل إلى الكعبين، فسئل عن هذا فقال: "الشهرة اليوم في التشمير"، والإنسان يتوقى لباس الشهرة، فلا بأس أن يلبس الإنسان لباساً إلى كعبيه يمكن أن يرتفع عن الكعبين بأصبعين بثلاثة بأربعة أو نحو ذلك، ليس ذلك بلباس شهرة، لكن لا يزيد على الكعبين، ولا يصير إلى الكعبين بحيث يكون للكعب حظ في الإزار.

وهذه قضية سهلة لا تكلف الإنسان شيئاً، ويتعجب المرأ من تساهل الناس، وعموم البلوى في ذلك، لو قيل لأحد من الناس: كل يوم هذا المقدار الذي يزيد فيه الثوب سيصب عليه مادة حارقة -أسيت مثلاً، أو يكوى كل يوم مرة واحدة فقط بحديدة، أو تقصر هذا الثوب، أو لو قيل له: سيصيبك مرض أو قروح أو نحو هذا أو ترفع فلا شك أنه سيختار رفع الثوب عن هذا الموضع، ومع ذلك الإنسان أحياناً يصبر على معصية الله والوعيد الأكيد الذي أخبر عنه الصادق المصدوق -عليه الصلاة والسلام- من أجل أمر لا ينفعه لا في الدين، ولا في الدنيا، ولا يعود عليه طائل، فما حاجة الإنسان في هذا، المسألة ليست سهلة هي من الكبائر، ولكن الشيطان أحياناً يمني الإنسان ويرجيه، أو أنه يورثه غفلة فلا يتفطن لمثل هذه الأمور، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء، برقم (5788)، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم جر الثوب خيلاء، وبيان حد ما يجوز إرخاؤه إليه وما يستحب، برقم (2087).
  2. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار، برقم (5787).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب من أثنى على أخيه بما يعلم، برقم (6062).
  4. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (9629)، وابن حبان في صحيحه، برقم (5447)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (919).
  5. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، برقم (9609).

مواد ذات صلة