الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث "ما مسست ديباجًا ولا حريرًا.."
تاريخ النشر: ٠٤ / جمادى الآخرة / ١٤٣٠
التحميل: 1666
مرات الإستماع: 7785

ما قال لي قطُّ أفٍّ

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "حسن الخلق" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أنس قال: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله ﷺ، ولا شممت رائحة قطُّ أطيب من رائحة رسول الله ﷺ[1]، وقد خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي قطُّ: أفٍّ، ولا قال لشيء فعلتُه: لم فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلتَ كذا؟[2]، متفق عليه.

قوله: "ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله ﷺ"، الديباج: هو نوع من الحرير، ولكن كأنه ترقَّى من الأدنى إلى الأعلى، فالحرير ألين وأرق ملمساً، والديباج يقولون: ما كان سَداه ولُحمته من الإبريسم، المقصود بالسَّدى واللحمة يعني الخطوط المتقاطعة التي تنسج الثياب بها، كما هو معلوم بطريقة النسيج، وهذا يدل على لين كفه ﷺ، وأهل العلم ذكروا سؤالاً يرد على ذلك وهو ما جاء في صفته ﷺ أنه كان شَثْن القدمين والكفين، والكف هي راحة اليد مع الأصابع، والأصمعي -رحمه الله- فسر ذلك بالخشونة، فذُكر له ما جاء في الصحيح من وصف يده ﷺ بالليونة، فحلف أن لا يفسر شيئاً مما جاء في الحديث؛ ولهذا كان الأصمعي -رحمه الله- يتورع كثيراً في مثل هذا، وإذا كانت اللفظة في القرآن -مع أنه إمام كبير في اللغة- يقول: هذا مما جاء في القرآن، يعني لا يفسره تورعاً، والمقصود أنه فسرها بمعنى يصدق عليه هذا اللفظ في بعض إطلاقاته وهو الخشونة، ولكن يده ﷺ وصفت بالليونة فيحمل ذلك في الوصف الأول شَثْن الكفين والقدمين باعتبار أنها ليونة مع قوة، فهي يد رجل، وضخمة، بخلاف يد المرأة في ضعفها ورقتها، ورقة عظامها، ورخاوتها، ونحو ذلك، أما يد رسول الله -ﷺ فهي قوية لكنها لينة.

وقال: "ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله ﷺ"، وهذا كما هو معلوم كان ﷺ يُؤخذ من عرقه فيوضع على الطيب، فيكون أطيب الطيب، فعرقه ﷺ أطيب العرق، ورائحته أطيب الرائحة خِلقةً، وشيئًا حباه الله به، مع ما كان يتعاطاه ﷺ من الطيب، وكان يقول: حُبب إلي من دنياكم النساء والطيب[3].

يقول: "ولقد خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين"، وهي المدة التي بقيها النبي ﷺ في المدينة، فإن أمه قد جاءت به إلى النبي ﷺ حينما هاجر وعرضت عليه أن يخدمه، كان صبيًّا قد بلغ العاشرة، وبقي النبي ﷺ عشر سنين بالمدينة.

"فما قال لي قط: أف"، وهي كلمة تدل على التضجر، ومعنى ذلك أنه حينما ينفي التأفيف فهذا يعني أنه نفيٌ لما فوقه من باب أولى، يعني إذا كان ما قال له قط: أف، فمعنى ذلك أنه ما شتمه، ولا سبه من باب أولى، قال: "فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلتُه: لم فعلتَه، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا"، بمعنى أنه ﷺ لم يعاتبه قط.

هذا الحديث لربما نسمعه كثيراً ويمر مروراً عابراً لكن دون أن نقف عنده، عشر سنين وهذا خادم يؤمر وينهى، ويعاتب، بل يؤدب ويضرب لا سيما مع صغر سنه، ما قال له النبي ﷺ قط: أف، ولا لشيء فعله: لم فلعته، أو لم يفعله: لم لم تفعل؟، لا يعاتب، فلو نظرنا نحن في أنفسنا مع أولادنا، أو المرأة مع خادمتها، أو الرجل مع السائق والخادم هل يمر يوم واحد فقط ما يتأفف الواحد منا ويبدي الضيق والضجر ويرفع صوته ويعاتب غاية المعاتبة، بل لربما أكثر من ذلك، لربما شتم أو ترقى فضرب؟، هذا يحصل، وينسى الإنسان نفسه في كثير من الأحيان، ويجد أنه يتشفى بمثل هذه التصرفات، أن النفس تتنفس، حينما يغضب الإنسان ويمتعض فإنه عندئذ يجد تشفياً وتلذذاً حينما يضرب فيوجع، أو حينما يعاتب معاتبة لربما تجرح، وكان يمكنه أن يعرض عن ذلك أو عن بعضه، إنّ تكرر مثل هذه الأشياء بصورة مستمرة تورث عللاً مستديمة في التربية، فمن ذلك أن الولد لربما يحصل له شيء من التبلد فلا يرفع رأساً لما تقول، يستمرئ فيُخاطَب ويؤمر وينهى ويعاتب، افعل، قم، تحرك، أحسن ما يقول: طيب، -وهي طيب، بعد نص ساعة، وبعد ساعة وهو طيب، فهو يعطيك أذنًا لا تسمع، مسدودة، ولربما خرج أو تأفف أو ضجر لكثرة ما يسمع من المعاتبة والتأنيب والتعنيف، فلا يقبل منك قليلاً ولا كثيراً، يتحول التوجيه، بل لربما يغتابك عند زملائه، يتكلم عليك بحسب منظوره هو، أنك تفعل كذا وتقول كذا، وأنك تمنعه من كذا، وأنك تحاول أن تفرض عليه كذا، وتكون فاكهته في المجالس عند زملائه هو الحديث عنك، وهذا يحصل كثيراً لدى الشباب والفتيات، ولربما أورثه ذلك خلاف المقصود، فأنت تقصد الشفقة بكثرة هذه المعاتبات، فيتحول ذلك عنده إلى فهم آخر -وما أكثر هؤلاء- أنك تبغضه وتكرهه، وأنك تفعل ذلك تعبيراً عن كراهيتك ومقتك له، ولربما أورثه ذلك ضعفاً في شخصيته بحيث إنه يشعر أنه لا يصلح أن ينهض بعمل، وأنه فاشل، ضعيف، إذا كانت العبارات التي توجه من هذا القبيل: ما تفهم، أنت ما تصلح لشيء، أنت متى أرسلناك بحاجة وأنجزتها، أنت دائماً تفهم بالمقلوب، أنت لا تعرف تشتري شيئًا، أنت لا تعرف، وهكذا مثل هذه العبارات، فيحصل عنده شعور بالإحباط والفشل وأنه فعلاً هكذا، ثم بعد ذلك يصير هذا الإنسان متردداً طيلة حياته، لا يستطيع أن يُقدم على شيء، بأي قضية من القضايا، في اختيار تخصص، في إقدام على هذه الجامعة أو تلك، في شراء سيارة، في زواج، في اختيار هذه المرأة أو تلك، في خروج إلى نزهة، في قرار سفر، في أي قضية ولو كانت يسيرة، هو يتردد ألف مرة، وبعد دقائق يأتي له رأي جديد، ومتخوف، ولا يستطيع أن يقدم، ويخشى أن يفشل؛ لأنه تعود على هذه التربية أنه فاشل، ولا يصلح، فيخشى أن يكون القرار غير صحيح، حتى ما يستطيع أن يقوم بشيء مما ينبغي أن يقوم به، لا يستطيع أن يدعو أحداً إلى بيته أو أن يقوم بما يجب؛ لأنه متردد، يخشى ألا يفعل ما يجمل، أو ألا يكون هذا التصرف في محله، أو نحو ذلك، ولذلك يفرح كثيراً إذا سمع كلمة أن الفعل الذي فعله هذا ممتاز وجيد وفي محله وصحيح، يفرح ويحاول أن يسمع ويستزيد منك كلمات أخرى، صحيح، ولربما يرسل لك رسالة بالجوال يشعرك بها بفرحه بهذه الكلمة البسيطة العابرة التي قالها له هذا الإنسان الذي حضر أو دُعي.

وأحدهم سمع من امرأته كُليمات بعد أن عقد عليها فبكى، فلما سألته عن هذا قال: أول مرة يسمع، أول مرة  -بعبارته- أحد يعطيه وجهًا، فإذا كانت حياة الإنسان مبنية على هذه المعاملة القهر، التسلط، التأنيب، التعنيف دائماً على القليل والكثير، لا، خطأ، أعطه فرصة، الأشياء التي لا تتعلق بحدود الله أعطه مساحة، لكنْ هناك -أيضًا- خطأ يقع فيه الكثيرون يقول: لا تضغط على الولد، لا تضغط على البنت، دعها تلبس الذي تريد، تتعرى في لباسها، تلبس البنطال، وهي مراهقة، لا تضغط عليها دعها تلبس من الحجاب ما تشاء، الولد بعد الثانوي يبغى يروح يدرس في بلاد الغرب خله يروح، خله يشوف، خله يجرب، هذا غلط، هذا الكلام غير صحيح، ويوجد أناس يفكرون بهذه الطريقة، وقد يكون هذا الأب متديناً، أو الأم متدينة، وإذا رأوا تعثرًا لدى أحد من الشباب قالوا: هذا بسبب الكبت، وهذا الكلام غير صحيح.

هؤلاء الذين يتساقطون وينحرفون حينما يُترك لهم المجال على مصراعيه هم أكثر من ينحرف.

ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له إياكَ إياكَ أن تبتل بالماءِ

هذا تضييع للأمانة، فهؤلاء يسمعون أنك لابد أن تعطي للولد هامشاً أو نحو ذلك، نعم في حدود المباح، وهذا الهامش يتسع ويضيق بحسب الولد، وبحسب ما عنده من نزعة التمرد، والخروج عن المألوف، أو عن بيئته، أو عن طاعة والديه أو نحو ذلك، قد يكون الولد أصلاً في كمال العقل والرزانة عمره ثمانية عشر عامًا لكن -ما شاء الله- كأنه ابن أربعين، فمثل هذا لا يحتاج لمثل هذه، يكون التفاهم والتحاور والولد يعرف الطريق أصلاً، ويشير على أبيه، فهذا ناضج، وقليل ما هم، وإن كان هذا يوجد، ويوجد من هو بين بين، ويوجد من عنده نزعة تمرد، يريد أن يغير، يريد أن يجدد، يريد أن يجرب، يريد أن يعرف، يريد أن يرى، لا يقف عند أحد، فمثل هذا يُعطَى هامشًا أوسع في حدود المباح، طالما أن هذا الأمر ليس فيه شيء يتعلق بحدود الله فلا بأس، أما أن ينتهك حدود الله ، أو أن يواقع ما يكون مظنة لهذا ثم يقال: أعطه مجالا! فيقال: لا، هذا تضييع له، وهذه أمانة، وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته[4]، فهذه البنت لا نتركها تخرج كيف تشاء، وتلبس كما تشاء، الأم في غاية التستر، والبنت في غاية التهتك، من أجل ما نضغط عليها، الضغط هذا هو الذي يسبب الانحراف، هذا الكلام ما هو بصحيح، التربية يجب أن تربَّى، يجب أن تحمل على طاعة الله ، فالناس يتفاوتون، لكن ما يفهمه بعضهم مما ذكرتُ: دعه يجرب حتى يعرف الحياة، كما يقول بعضهم: حتى ينطحن الحب الذي في رأسه، هذا الكلام ليس صحيحًا، هذا تضييع، -والله أعلم.

التربية يجب أن تربَّى، يجب أن تحمل على طاعة الله ، فالناس يتفاوتون، لكن ما يفهمه بعضهم مما ذكرتُ: دعه يجرب حتى يعرف الحياة، كما يقول بعضهم: حتى ينطحن الحب الذي في رأسه، هذا الكلام ليس صحيحًا، هذا تضييع، -والله أعلم.

لكن أقول: كل واحد منا لو أنه بالليل رجع وجلس يفكر في هذا: عشر سنين ما قال له: أف قط، ولا قال له لشيء فعله: لم فلعته؟، ولا لشيء لم يفعله: لم لم تفعل؟، هل نستطيع أن نجلس عشرة أيام؟، نجرب هذا عشرة أيام فقط هل نستطيع أو لا نستطيع؟ وكذلك الزوجة مثل الولد، يعني إذا كان هذا خادمًا فالزوجة من باب أولى، فيجرب الإنسان يحاول فيعرض نفسه على مثل هذه الأمور.

فأحياناً الإنسان لا يتصور هذا لضيق العَطَن وضيق النفس، ونظراً لما ألفناه واعتدناه من حياة تقوم على المعاتبة والمخاصمة في الغالب، والناس بين مقل ومكثر، بعض الناس كل حياته مشاكل أصلاً، الرجل مع المرأة ومع الأولاد ومع الجيران، هو ألفَ هذا، هذا الوضع الطبيعي، اليوم الذي ما فيه مشكلة هذا غير طبيعي، هذه حاله -نسأل الله العافية.

فالإنسان مثل هذه الأشياء إذا مرت عليه ينبغي أن ينظر في نفسه، وما عنده من هذه الأخلاق، وهل يستطيع أن يطبق ذلك فعلاً أو لا؟، مع أن بعض ما يذكر من ذلك لو عرض على الناس هكذا من غير إضافته لرسول الله ﷺ لعدوا ذلك تضييعاً، والنبي ﷺ أكمل الناس خلقاً، وأعظمهم تربية، والله المستعان.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه أحمد في المسند، برقم (12048)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب حسن الخلق والسخاء، وما يكره من البخل، برقم (6038)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كان رسول الله ﷺ أحسن الناس خلقا، برقم (2309).
  3. أخرجه النسائي، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، برقم (3939)، وأحمد في المسند، برقم (12293)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3124).
  4.  أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن، برقم (893).

مواد ذات صلة