الثلاثاء 22 / جمادى الآخرة / 1446 - 24 / ديسمبر 2024
مقدمة عن الباب ، حديث «إن من أشر الناس» ، "أن عمر حين تأيمت بنته حفصة.."
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو الحجة / ١٤٣٠
التحميل: 1374
مرات الإستماع: 2092

قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب "حفظ السر" وهو من الأبواب الداخلة تحت كتاب "الأدب"، والسر معروف وهو ما يُقصد إخفاؤه وكتمانه عن الغير، وصدّر المصنف -رحمه الله- هذا الباب بقوله -تبارك وتعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا [الإسراء:34]، ووجه الاستدلال بهذه الآية على موضوع السر هو أن السر لما كان يُقصد إخفاؤه فإذا أطلع غيره عليه فإنه غالباً يطلب منه عدم الإفشاء وقد تقوم قرينة حال تدل على ذلك، ولهذا قال النبي ﷺ: المجالس بالأمانة[1]، فكل ما يُعلم سواء كان بعبارة صريحة أو بغير ذلك مما يقوم عليه من قرائن الأحوال، كل ما يعلم أنه لا يراد نقله وإفشاؤه وإخبار الآخرين عنه فإنه من جملة السر الذي هو من جملة الأمانات، فذكر هنا هذه الآية: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا إذا قال: لا تخبر أحداً بهذا فهذا داخل تحت هذا العهد، بينهما أمر وقع فقال له: لا تخبر بذلك أحداً كما حصل من النبي ﷺ في تحريمه للعسل أو تحريمه للجارية[2].

إن من أشر الناس عند الله
ثم ذكر الحديث حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها[1].

إن من أشر الناس يعني من أكثرهم شرًّا، من أسوئهم حالاً الذين يكونون بهذه المثابة هم جملة من الناس اتصفوا بأوصاف، ومن هؤلاء هذا الذي قد يتساهل به كثير من الناس، إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة يعني: أن منزلته وضيعة متدنية، ما هو الجرم الذي قارفه والذنب الذي فعله؟ قال: الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه، ومعنى الإفضاء المباشرة، بمعنى أنها تفضي إليه ببشرتها، ويفضي إليها ببشرته، يعني كناية عن الوقاع.

ثم ينشر سرها ينشر سرها بأن يتحدث عن حاله معها في مقدمات الجماع، أو في الجماع نفسه يتحدث عن هذا وما يجري بينه وبين امرأته، وهذا فعل من لا خلاق له ولا مروءة، ولا غيرة، الرجل الكريم صاحب الغيرة والمروءة لا يقبل أبداً أن يذكر ذلك لا تعريضاً ولا تصريحاً، يعني ما يجري بينه وبين أهله، فإن ذلك لا يليق بحال من الأحوال أن يذكر، وكذلك المرأة لو أنها فعلت هذا، وقد نهى النبي ﷺ عنه، وقامت امرأة وقالت: "والله إنهم يتحدثون بذلك، وإنهن يتحدثن به"[2]، فهذا أمر في غاية السوء، والناس في هذا بين إفراط وتفريط، في بعض البيئات إلى اليوم الشبان ومن كان في حكمهم لا يمكن أن يُذكر عندهم أي أمر يتصل بالزواج، لو سئل ما تزوجت؟ غطى وجهه وخرج مسرعاً من المجلس، ألا تتزوج؟ ما رأيك نزوجك؟ لا يمكن أن يتمالك يخرج، يغطي وجهه بعمامته، أو بشيء ويخرج من المكان، هذه مبالغة لا داعي لها ويعللون ذلك يقولون: الحديث عن النكاح عن الزواج إنما يذكر مع كبار السن ممن لم يبقَ لهم من ذلك إلا الحديث، يعني قد انطفأت غريزتهم، وهذا مجرد سؤال عن الزواج، هل تزوجت؟ متى تتزوج؟ فلا يحتمل هذا أبداً، هذا في بعض البيئات، هذا خطأ، ومبالغة، كذلك ما يحصل من المبالغات من شدة الغيرة التي قد لا تكون في محلها، في بعض البيئات أن أهل البنت لا يحضرون الزواج أبداً، لا يحضر أولياؤها، لا يحضر إخوانها، لا يحضر أبناء العم، إنما الذين يحضرون هم أهل الزوج، وقراباته، وأصحابه فقط، طيب أين أهل الزوجة أين أنسابكم؟ لا، هذا عندهم عيب، لا يمكن أن يحضروا؛ لأنهم يرون أن ذلك فيه شيء من الحرج الذي يلحقهم، وهذا غير صحيح، فالاعتدال في الأمور دائماً هو المطلوب.     

إن شئت أنكحتك حفصة
ثم ذكر حديث عبد الله بن عمر  أن عمر بن الخطاب حين تأيّمت بنته حفصة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عمر حين تأيمت بنته حفصة، قال: لقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر؟ قال: سأنظر في أمري. فلبثت ليالي ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر  فلم يرجع إلي شيئا! فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبث ليالي ثم خطبها النبي ﷺ فأنكحتها إياه. فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي ﷺ ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ﷺ ولو تركها النبي ﷺ لقبلتها. رواه البخاري.

تأيمت يعني صارت بلا زوج، كان زوجها خُنيس بن حذافة السهمي أخو عبد الله بن حذافة  السهمي ، صاحب القصة المعروفة لما قال: من أبي يا رسول الله؟ فكان قد أصيب في غزوة أحد ثم مات بعد ذلك، فتأيمت، والأيّم كل من ليس له زوج ذكر أو أنثى، يعني المرأة التي ليس لها زوج أيّم، والعكس، سواء سبق له نكاح، أو لم يسبق يقال له: أيّم، كل عزب فهو أيم، "حينما تأيمت بنته حفصة قال: لقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة"، يعني بعدما ماتت زوجته رقية ، وهذا فيه جواز عرض الرجل مَوليّته من بنت وأخت ونحو ذلك على من يثق به، ويرتضيه ديانة وصلاحًا وعقلا ومروءة، يقول له: عندي أخت أزوجك، عندي بنت أزوجك، ونحو هذا مع الاحتياط، بحيث إنه يطمئن أن هذا الإنسان له عقل ودين، وأنه لن يتخذ ذلك في يوم من الدهر سبيلاً إلى التنقص؛ لأن من الناس من قد يقال له مثل هذا ثم يتحدث بعد هذا إذا تزوجها، أو يتحدث أهله أمه تتكلم، أو أخته أو نحو هذا، أبوها مُهديها عليه، أخوها مهديها عليها، هي بضاعة أو سلعة أو ساعة، أو طِيب!، أبوها مهديها عليه؛ لأن أخاها قال له وهو زميل له مثلا في الدراسة أو نحو هذا أعجبه أخلاقه ودينه، وقال له: أزوجك أختي طيبة كذا حافظة لكتاب الله، فحينما تحصل مشكلة فيما بعد، أو يرد ما يرد يبدأ الكلام أصلاً أخوها مهديها عليه، أين الإهداء؟ كذلك أولئك الذين قد يُزوَّجون ويُبالَغ في المهور المتدنية، يقول لك: المهر عشرة ريال، لماذا عشرة ريال؟ هذا تحطيم للبنت، لا تتشرط، قل: ما يتيسر، وارضَ بما يعطيك، والحمد لله.

فالمسألة ليست بيعًا، لا تطالبه بستين ألفًا، أو بسبعين ألفًا، ولا تتشرط عليه بشروط، قل له: ما يتيسر، لكن عشرة؟ تحطيم للبنت، وإن كان هذا لا خلاق له والقلوب أيضًا بين أصبعين من أصابع الرحمن قد يتغير بعد عشر سنين، قد يتغير بعد عشرين سنة، قد يتغير بعد عشرة أيام، ما تدري، فيناديها أم عشرة!، وبلغت الوقاحة ببعضهم أنه في صالة أفراح ينادي بالمكبر -غاضبًا لأنها تأخرت عليه- أم عشرة، فالاعتدال في الأمور دائمًا مطلوب.   

يقول عمر : فعرضت عليه حفصة فقلت: "إن شئتَ أنكحتك حفصة بنت عمر، فقال عثمان: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني، فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا"، لا يقصد يومي في نفس اليوم، وإنما يقصد يومي هذا يعني في هذا الحين، أو الزمان، أو الوقت أو نحو ذلك في هذه المدة، يقول: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: "إن شئت"، هنا تخيَّرَ الأكابر الفضلاء أهل الدين والخير، ذهب إلى عثمان، ثم ذهب إلى أبي بكر، يقول: فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليّ بشيء، يقول: سكت ما رد عليه، ما قال: نعم، أو لا، ولا قال: سأفكر، كأنه لم يسمع شيئاً، يقول: فكنت عليه أوجدَ مني على عثمان، أوجد مني يعني وجد في نفسه، يعني كأنه تضايق، غضب، وهذا يدل على أنه وجد في نفسه على عثمان أيضًا، لكن عثمان رد عليه قال: سأنظر، ثم بعد ذلك قال: بدا لي أن لا أتزوج الآن، لكنّ أبا بكر سكت تمامًا، فوجد عمر في نفسه، والإنسان ضعيف يقع في نفسه ما يقع، يقول: "فلبثت ليالي، ثم خطبها النبي ﷺ فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضت عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً"، وهذا فيه أن الإنسان إذا تصرف تصرفاً يجعل الآخرين يتحيرون في أمره، أو يقع في نفوسهم شيء، لا يستطيعون تفسير هذا التصرف الذي صدر منه أنه يبين الموقف تراني فعلت هذا من أجل كذا، يقول: "فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أني كنت علمت"، وهذا الشاهد، علمت ماذا؟ "أن النبي ﷺ ذكرها"، ذكر حفصة يعني يريد أن يخطبها، "فلم أكن لأفشي سر رسول الله ﷺ"، يقول: ما أردت أن أقول لك: ما أستطيع؛ لأن النبي ﷺ ذكرها، فما أريد أن أتقدم عليه، فأكون أفشيت السر، ومثل هذه القضايا عادة يُقصد حفظها وعدم إفشائها، يقول: "ولو تركها النبي ﷺ لقبلتها"[3]، راوه البخاري.   

ولم يقل له: أنا لا أريدها، لا رغبة لي فيها، لا شأن لي فيها، أنا لا أريد الزواج أصلاً، هو له رغبة بها لو كان النبي ﷺ لم يذكرها، فسكت، فلما تبين لعمر بعد ذلك ما تبين أخبره أبو بكر ، فهذا فيه الأمانة، ولا يصح بحال من الأحوال أن الإنسان يُخبَر عن أمر، ويُطلَب منه كتمانه، ولو لم يُطلَب فمثل هذه الأمور أصلاً هي بالسر، يعني لو جاءك إنسان وسألك، وقال لك: فلانة بنت فلان ما رأيك فيها؟ أريد أن أتزوجها، أريد أن أخطبها، وما قال: اكتم عليّ هذا، ليس لك أن تذهب وتشيع هذا في الناس، وتتحدث، وفلان يريد أن يخطب فلانة؛ لأن هذا مما يُطلب كتمانه، فكيف إذا صرح بهذا، وقال: لا تذكر هذا لأحد؟، فبعض الناس يُخبر زيداً وعمراً ثم يقول: لا تخبروا أحداً، وأحياناً يقول: لا تقولوا: إني أخبرتكم، يعني أخبروا لكن لا تنقلوا عني، فهذا كله من إفشاء السر، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، برقم (1437).
  2. أخرجه أحمد في المسند، برقم (10977)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لجهالة الطفاوي، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، ولبعض قطع هذا الحديث طرق وشواهد تقويه، الجريري هو سعيد بن إياس، وسماعُ روحٌ منه قبل الاختلاط، وأبو نضرة: هو المنذر بن مالك بن قطعة"، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3153).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، برقم (4005)، وبرقم (5122)، كتاب النكاح، باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير.

مواد ذات صلة