الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
حديث «يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة..»
تاريخ النشر: ٠١ / محرّم / ١٤٣١
التحميل: 1533
مرات الإستماع: 3148

ما كنت أفشي على رسول الله ﷺ سره

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "حفظ السر" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث عائشة -رضى الله عنها- قالت: "كنّ أزواجُ النبي ﷺ عنده فأقبلت فاطمة -رضى الله عنها- تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله ﷺ شيئاً، فلما رآها رحب بها، وقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها فبكت بكاء شديداً، فلما رأى جزعها سارّها الثانية فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله ﷺ من بين نسائه بالسِّرار ثم أنتِ تبكين؟ فلما قام رسول الله ﷺ سألتها ما قال لك رسول الله ﷺ؟ قالت: ما كنت أفشي على رسول الله ﷺ سره، فلما توفي رسول الله ﷺ قلت: عزمت عليكِ بما لي عليكِ من الحق لما حدثتني ما قال لكِ رسول الله ﷺ، فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين، وأنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله، واصبري، فإنه نعم السلف أنا لكِ، فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، فقال: يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟، فضحكت ضحكي الذي رأيت"[1]، متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.

قولها -ا: "كنّ أزواجُ النبي ﷺ عنده فأقبلت فاطمة"، يؤخذ منه أنه يجوز للرجل أن يجمع نساءه في وقت واحد في النهار مثلاً؛ لأن النهار ليس بحق لواحدة منهن دون الأخرى، فالناس يتقلبون في مصالحهم وشئونهم، وأعمالهم، ولهن أن يجتمعن جميعاً عنده، أو أن يذهب إلى إحداهن ولو لم تكن تلك الليلة لها؛ لحاجة، لا على سبيل المحاباة، وكذلك له أن يطوف على جميع نسائه في النهار، كما كان النبي ﷺ يفعل[2]، "فأقبلت فاطمة -رضى الله عنها- تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله ﷺ شيئاً"، يعني أن مشيتها تشبه مشية رسول الله وهي أفضل مشية، مشية قوية، ثابتة مع تؤدة ووقار.

"فلما رآها رحب بها، وقال: مرحباً بابنتي، يحتمل أنها سلمت فرد عليها السلام كما هو المظنون بحيث إن الإنسان إذا دخل المجلس فإنه يبدأ بالسلام، فاختصر ذلك في الرواية، فقال لها النبي ﷺ: مرحباً بابنتي، وهذا يدل على جواز مثل هذه التحايا وما اعتاده الناس بينهم.

"ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارّها فبكت بكاء شديداً"، وهذا يدل على أنه يجوز للإنسان أن يناجي في المجلس ويختص بذلك أحداً ممن حضره بشرط ألا يكون ذلك دون ثالث، يعني إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان؛ لأن ذلك يحزنه، أما إذا كانوا مجموعة فله أن يناجي واحداً دونهم، وفيه أيضاً جواز البكاء من الحزن، "بكت بكاء شديداً" لكن من غير نياحة، ولا جزع، لا لطم للخدود، ولا نتف للشعر، ولا شق للجيب، فإن الله لا يؤاخذ على دمع العين، ولهذا لم ينكر عليها النبي ﷺ، ولا يقال: إن البكاء هنا ليس على فقد أحد، وإنما كان لخبر، فهذا الخبر هو خبر عن موت رسول الله ﷺ، فهو بكاء حُزن.      

"فلما رأى جزعها سارّها الثانية فضحكت"، ويؤخذ من هذا أن من رأى في غيره حزناً أو نحو ذلك أنه يحسن أن يواسيه بما يحصل به مواساته، وسلوته، لاسيما إن كان ذلك الحزن بسبب شيء قاله له، أخبرتَ إنسانًا بخبر فأصابه الحزن فيمكن أن تقول: وعندي لك بشرى، وهناك خبر آخر سار جيد، وإدخال السرور على المسلم معلوم أنه من الأعمال الصالحة، والحسنات، "فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله ﷺ من بين نسائه بالسِّرار -يعني بالمسارّة، ثم إنكِ تبكين، فلما قام رسول الله ﷺ سألتها ما قال لكِ رسول الله ﷺ؟ قالت: ما كنت أفشي على رسول الله ﷺ سره"، حفظ السر، النبي ﷺ أخبرها بخبرين، وكون النبي ﷺ يسارّ فاطمة -رضى الله عنها- من بين نسائه هذا يدل على أنه ما أراد إظهار ذلك وإعلام الآخرين به، ولو كنّ أزواجَ النبي ﷺ، وإلا لو أراد هذا لتكلم بكلام يسمعه الجميع، فالمسارّة تدل على قصد الإخفاء، ومن هنا قالت فاطمة -رضى الله عنها-: "ما كنت أفشي على رسول الله ﷺ سره"، وما تأولت وقالت: هؤلاء أزواج النبي ﷺ أقرب الناس إليه، أو أخبرت عن بعض كما لو أخبرت عن قوله لها "بأنها سيدة نساء أهل الجنة"، وإنما كتمت ذلك جميعاً، فلما توفي رسول الله ﷺ قالت: "عزمت عليكِ بما لي عليكِ من الحق لما حدثتني ما قال لكِ رسول الله ﷺ"، يعني بقيت في نفس عائشة -رضى الله عنها- تتطلع إلى معرفة هذا الأمر الذي جمع لها بين أمرين متناقضين في مجلس واحد، الضحك والبكاء فهو أمر مستغرب، يستدعي النفوس إلى معرفته والاطلاع عليه، فقالت: أما الآن فنعم، بمعنى أنه قد حصل هذا؛ لأن النبي ﷺ أخبرها عن قرب أجله وقد مات، فلا معنى لكتمان ذلك بعد موته ، فمثل هذا يخبر به، بخلاف الأمور التي لا يخبر بها، يعني لو أخبرها عن شيء آخر يختص به غير الوفاة، أنه يحب فلاناً، أو لا يحب فلاناً، أو أنه سيفعل كذا، أو لن يفعل كذا من أجل كذا فإنه ليس لها أن تخبر عن ذلك، لكن إن كان الإخبار عن قرب الأجل فوقع الأجل، فبعد ذلك لم يعد ذلك سرًّا، قد اطلع الجميع على هذا، وعرفوه، والله المستعان.  

وفيه أيضاً أن الإنسان يمكن أن يطلب من غيره ما تطلّع نفسه إلى معرفته أو نحو ذلك بلون مما يشبه الإلزام، أو يقرب منه، قالت لها: "عزمت عليكِ"، ما قالت: أخبريني فقط، وتوسلت لها بأمر آخر قالت: "بما لي عليكِ من الحق"، ليس بقسم، الباء ليست باء القسم وإنما هي باء السببية يعني بما لي عليكِ من الحق أخبريني، فقالت: "أما الآن فنعم، أما حين سارّني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين"، يعني كان النبي ﷺ يقرأ القرآن في رمضان فيعيده، يعني يتدارس مع جبريل، النبي ﷺ يقرأ وجبريل يعيد عليه القرآن، هذه المدارسة في كل سنة مرة، وفي العام الذي قبض فيه كان ذلك في مرتين، فشعر النبي ﷺ أن الأمر مختلف عن الأعوام الأخرى.  

قال: وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لكِ، هذا يؤخذ منه أنه يستحب للإنسان أو يسن له إذا شعر بقرب أجله أو نحو ذلك أن يأمر أهله بالصبر وعدم الجزع على المصيبة، والنياحة.

قالت: "فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، فقال: يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟، فضحكت ضحكي الذي رأيتِ"، بشرها ﷺ، وفي بعض الروايات: "أخبرها أنها أول من يلحق به من أهل بيته"، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم (3623)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة بنت النبي -عليها الصلاة والسلام، برقم (2450).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الغسل، باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره وقال عطاء: "يحتجم الجنب، ويقلم أظفاره، ويحلق رأسه، وإن لم يتوضأ"، برقم (284)، ومسلم، كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع، برقم (309).

مواد ذات صلة