الثلاثاء 22 / جمادى الآخرة / 1446 - 24 / ديسمبر 2024
حديث "كان رسول الله ﷺ يتخولنا بها مخافة السآمة.."
تاريخ النشر: ١٩ / محرّم / ١٤٣١
التحميل: 1540
مرات الإستماع: 4424

كان رسول الله ﷺ يتخولنا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب "الوعظ والاقتصاد فيه" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث أبي وائل شقيق بن سلمة -رحمه الله- قال: كان ابن مسعود يذكِّرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال: "أمَا إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله ﷺ يتخولنا بها مخافة السآمة علينا"[1]، متفق عليه.

سبق الكلام عن الموعظة وعن الاقتصاد فيها، وأن ذلك يختص بالوعظ، وأما العلم والتعليم فإن ذلك لا يشمله؛ لأنه بحاجة إلى إكثار ومواصلة.

حديث ابن مسعود كما قال أبو وائل، وهو من التابعين ومخضرم توفي سنة 64هـ، يقول: "كان ابن مسعود يذكرنا في كل خميس"، يعني أنه يعظ أصحابه في كل خميس، فهذا يدل على موضع الشاهد، وهو التخول بالموعظة؛ لئلا يحصل الملل، وأيضاً يدل على أنه يجوز أن يخصص يوماً بعينه للوعظ، اختار يومًا في الأسبوع من أجل أن يعرف الناس ذلك ويحضروا، ويتوافدوا، فهذا لا إشكال فيه، ولا يدخل ذلك في باب البدع، ولا في ذرائعها، لا إشكال في هذا.

فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن"، وهي كنية ابن مسعود .

"لوددت أنك ذكرتنا كل يوم"، هذا يدل على أنهم كانوا في غاية الاستجابة، وأنهم كانوا يسمعون منه ما يحصل به المقصود من الوعظ، فترق قلوبهم، ويتأثرون، ويدل على رغبة السلف في الخير ومجالس الذكر. 

فقال ابن مسعود : "أمَا إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم"، وفي هذا أن الإنسان إذا كان يشتغل بوعظ أصحابه، أنه يكون حكيماً فلا ينساق ويندفع إذا رأى منهم إقبالاً؛ لئلا تحصل السآمة بعد ذلك، وإنما يتصرف معهم بحيث يحصل لهم الدوام والاستمرار مع إقبال النفوس، فإن ذلك مقصود من مقاصد الشارع، وإذا فات ذلك، ولم يحصل هذا الإقبال في نفوس الناس فإن الموعظة لا تدخل القلب، ولا يحصل التأثر بها، فلا تتجاوز الأسماع، وهذا من مقومات الوعظ المثمر الذي يحصل به التأثير، فإن هذا الوعظ المؤثر له مقومات منها ما يرجع إلى المتكلم، فإن الصدق مع الله ، والصدق في النصح للناس والمحبة لهم، والإشفاق عليهم كل هذا له أثر بالغ يجعل الكلام يصل إلى القلوب مباشرة، والناس يعرفون ويفرقون بين الثكلى والنائحة المستأجرة، يعرفون هذا، ولربما تجد الرجل يتكلم كثيراً ويعظ، وتهتز المنابر ولكن كلامه لا يجاوز الآذان، وبعضهم لربما يتكلم بكلام قصير قليل لكنه يكون في غاية التأثير، فالصدق مع الله -تبارك وتعالى، والصدق في نصح الناس، وأن يعيش الإنسان مع الموضوع الذي يتحدث عنه، يعني ما يأتي بخطبة قد صورها من كتاب مثلاً، أو من الإنترنت ثم يأتي ويقرؤها على الناس على المنبر، لا، إنما ينبغي أن يشعر أن هذا الموضوع بحاجة إلى معالجة، وأن هذا الموضوع تمس حاجة الناس إليه، وأنه يجب أن يطرح، ويجب أن يناقش، ويجب أن يصل إلى المستمعين، فيتفاعل، ولهذا بعض الخطباء يقول: أنا أخطب وأجتهد في خطبي، ونحو ذلك، ولكن لا أجد إقبالاً من الناس في سماع الخطب وحضورها، نقول: السبب هو أنك مجرد قارئ على المنبر، فأنت تعمل شيئاً لا يعجز عنه أحد من الحضور، لكن هل تعيش مع الخطبة، تعيش مع الموضوع؟، فأحياناً تكون القضية مجرد قراءة لا يتفاعل معها الخطيب، فهذا ينعدم معه التأثير، أضف إلى ذلك أمورًا أخرى وهي المادة التي تقدم للناس، الأسلوب الذي تقدم به هذه المادة أحياناً يكون هناك ركاكة، يكون هناك ضعف، أحياناً يكون هناك تكرار ممل لبعض العبارات لدرجة السآمة، يعني عبارات تتكرر، جمل تتكرر أثناء الخطبة، فالسامع يمل مباشرة، إضافة إلى أمور أخرى أحياناً تتصل بقلب السامع، القلب يكون أحياناً عليه -الله المستعان- ران، لا تصل إليه المواعظ، ولا ينتفع ولا يتحمل سماع هذه الموعظة.      

وهناك مقومات يحصل معها التأثير منها مراعاة هذا الجانب الذي ورد في هذا الأثر: أن يختار التوقيت وألا يكثر حتى لا يمل الناس، وهناك فرق بين مجالس العلم وبين الوعظ، فما نحن فيه كل يوم هذا ليس بوعظ، هذا تعليم، أما الموعظة فهذه لا يكثر منها، وإنما يكون حيناً بعد حين، ولو طلبوا منه الإكثار فإنه لا يستجيب، فالشاهد هنا أنه قال: "أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله ﷺ يتخولنا بها".     

"أتخولكم" يعني أتعهدكم، "كما كان رسول الله ﷺ يتخولنا"، يعني يتعهدنا بالموعظة، يعني أنه يراعي أحوال المستمعين، وإقبالهم، فيعظهم حيناً بعد حين، فلا يكثر ذلك عليهم؛ لئلا يحصل لهم السآمة، وإذا نظرت إلى التشبع الذي حصل لكثير من الناس في هذه السنوات القليلة الأخيرة، وتأملت في أسبابه وفي إعراضهم عن المواعظ في كثير من الأحيان، فإنك تجد ذلك عند التأمل -والله تعالى أعلم- يرجع إلى أسباب منها، -والله أعلم: الإكثار حتى صار الشيء مبذولاً، يعني قديماً قبل سنين لربما ينتظر الناس متى تأتي محاضرة في السنة، وأين توجد المحاضرة؟ في الجامعات، هذا سنة 1400- 1399- 1398هـ، وقبله وبعده الناس ينتظرون متى تأتي محاضرة، وفي الجامعات يذهب إليها الشباب الذين منّ الله عليهم بالهداية، بقية الناس بعيد عنهم هذا، ما يصلون إليه، والخطباء في أغلبهم عوام، في بعض المناطق لا يحسن أحدهم الخطابة، ولربما يقرأ من كتب قديمة جدًّا ولا يحسن القراءة، وإذا تلكأ أو تتعتع مال بالحرف، ولاك الكلمة بطريقة لا يظهر فيها هذا اللحن الفاحش، أو الخطأ الفادح حيث غيرها بالكلية، فتجد الناس يتعطشون، ينتظرون، فإذا جاء أحد يعظ ويحسن الوعظ أو نحو ذلك امتلأ المسجد حتى ضاق بالناس، ما يكون للناس مكان، وينتظرون هذا ويستعدون له، وقد أدركت بعض الندوات وبعض المحاضرات يذهب الناس بعد صلاة العصر مباشرة بل من الظهر يحجزون المقاعد، هذا شيء رأيته بنفسه سنة 1401- 1402هـ، الناس يأتون من قبل العصر لحجز الأماكن للمحاضرة التي تكون في المساء أو الندوة، وهم يتحدثون عنها مدة طويلة قبلُ، ثم بعدها هي حديث الناس، ورأيت القاعات تمتلئ في بعض الجامعات، القاعة الأصلية الكبيرة والقاعة الأخرى الاحتياطية، والممرات والساحة في أيام الشتاء شديدة البرد والناس يجلسون، ورأيت بعضهم يجلس على أشواك، لا يوجد مكان جيد للجلوس، وحِرْص، لكن الآن أصبحت المادة مبذولة بكثرة، صار فيه إشباع، فتجد خطبًا كثيرة جدًّا في مواقع في الإنترنت، فيه مواقع للخطباء، وفيه مواقع للخطب، فيه مواقع للصوتيات، وفيه خطب مكتوبة، وتجد ما تريد بمجرد جهد بسيط في البحث تجد، وهذه نعمة لكن النعمة أحياناً قد تورث عند بعض الناس شيئاً من التشبع، فيحصل لهم زهد فيها، مثل الطعام والشرب إذا كثر، والغنى، الناس في القديم كانوا يجدون تمرة يأكلونها، وإذا وجدوها لا تسأل عن حالهم من فرح، الطفل تعطيه تمرة كيف يكون فرحه بها؟! هذا معروف، لكن الآن لما صارت النعم مبذولة عند الناس، عند الصغير والكبير، أصبح الناس ينظرون إليها ولا تتوق نفوسهم لها، تجد أغنياء عندهم ما لذ وطاب في بيوتهم، ومع ذلك لا يكاد الواحد منهم يأكل شيئاً؛ لأن  نفسه لا تطلبه، هذا موجود وحاصل ونشاهده، فالشيء المبذول يحصل فيه زهد عند الناس، فكثر ذلك جدًّا، فصار ذلك سبباً للزهد، تجد الرجل أحياناً دورة علمية، يقول: أنا أسمعها بالإنترنت، ويجلس عند الإنترنت، ويشغل الجهاز ثم يقول: هذا البث الآن هناك محاضرات ثانية، وهناك دورات ثانية في الرياض، في جدة، في كذا، سأفتح هذا قليلاً أرى، وأفتح الثاني قليلاً أرى، دعني أفتح الثالث قليلاً أرى، وبعد ذلك يذهب ويأتي بشاهي، ثم يتمدد، وبعد ذلك يرد على التلفون، وبعد ذلك هو يتصل، وبعده يرسل رسالة، وبعده يحصل انقطاع في البث، ثم يعاود المحاولة، وإذا نظرت ما الذي يبقى له من هذا الدرس أو هذه المحاضرة؟ شيء يسير، ما الذي زهده في الحضور؟   

الآن دورات كثيرة جدًّا في موقع البث مثلاً، وهو يتخير ما شاء، لكن حينما كان الناس لا يجدون شيئاً يتعطشون، وقد رأيت مجلساً لبعض أهل العلم ازدحم الناس فيه ازدحاماً شديداً حتى تأذوا بالجلوس، تثنّت أرجل بعض من حضر وصعب عليهم المقام، وهم في غاية الزحام، لكن إذا كثر ذلك عليهم زهدوا فيه، ولذلك تجد الناس جيران العالم هم أزهد الناس فيه، هذا العالم الذي ازدحم الناس عليه واكتظ الناس به جيرانه لربما لا يحضرون شيئاً إطلاقاً من دروسه، بل لربما يرونه يدخل ويخرج في المسجد معهم بحيهم ولم يسأله أحدهم في عمره ولو مرة، هذا مشاهد، وآخرون يتمنون مجرد رؤيته، فالشيء المبذول يزهد فيه الناس، والله المستعان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. 

  1. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب من جعل لأهل العلم أياما معلومة، برقم (70)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الاقتصاد في الموعظة، برقم (2821).

مواد ذات صلة