الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
الحديث على آيات الباب وحديث «أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر..»
تاريخ النشر: ٢٠ / صفر / ١٤٣١
التحميل: 1529
مرات الإستماع: 2391

مقدمة باب وداع الصاحب ووصيته

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جديد في هذا الكتاب المبارك، وهو باب وداع الصاحب ووصيته عند فراقه لسفر وغيره، والدعاء له وطلب الدعاء منه.

هذا الباب كما ترون في أدب من الآداب الشرعية، فهذه الشريعة شريعة كاملة أنعم الله بها على من اصطفاهم واختارهم من عباده، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] وهم هذه الأمة، فجاء بهذه الشريعة الشاملة التي هي بمنزلة الشرائع المتعددة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، فإذا نظرت إلى باب الآداب وجدت أبواباً كثيرة تدخل تحته، وإذا نظرت إلى أبواب العبادات من صلاة أو صيام، أو نحو ذلك وجدت تفاصيل كثيرة، ولا يمكن أن تُقارَن هذه الشريعة الكاملة الشاملة بالقوانين الوضعية.

ألم ترَ أنّ السيفَ يَنقص قدرُه إذا قيل إنّ السيفَ أمضى من العصا

فأين تلك القوانين التي هي من وضع البشر، وعقول البشر، ونتائج أفكارهم القاصرة من تشريع الله الذي يعالج هذا المخلوق -هذا الإنسان- من جوانبه المختلفة، حتى فيما يقال ويحسن عند الوداع علمه كيف يصنع، علمه كيف يسافر، وإذا أراد أن ينزل منزلاً، وإذا أراد أن يُودِّع أو يُودَّع، ماذا يقول، وماذا يقال له، ما هي الآداب، وكيف تكون حاله في السفر، وما يقوله من الذكر والدعاء منذ ركوبه الدابة.

كل هذا جاءت به هذه الشريعة، فباب وداع الصاحب: حينما يودع الإنسان صاحبه، ووصيته عند فراقه لسفر وغيره: مثل لو أراد أن يفارقه حال الانتقال من هذه الدنيا عند الموت، يوصي، يوصيه بتقوى الله يوصيه بلزوم الإيمان والتوحيد والاستقامة على الصراط المستقيم، والدعاء له، وطلب الدعاء منه:

الدعاء له: يدعو له، يبتدئ ذلك داعياً لأخيه، وطلب الدعاء منه: هذا بناء على حديث يأتي الكلام عليه، وهو أن النبي ﷺ قال لعمر لا تنسنا يا أُخيَّ من دعائك[1]حينما خرج إلى مكة معتمراً.

والحديث في صحته وثبوته نظر، وسيأتي الكلام على مسألة طلب الدعاء من الغير، وقد مضى الكلام على ذلك في مناسبة من المناسبات السابقة.

قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ...}

وكالعادة المؤلف -رحمه الله- صدّر هذا الباب بآيات من كتاب الله -تبارك وتعالى.

قال الله تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ  [البقرة:132].

إبراهيم ﷺ أوصى أبناءه، كما أن يعقوب ﷺ أوصى أبناءه بالتوحيد والإيمان.

أوصاهم بهذه الكلمة: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ۝ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 132، 133].

فيؤخذ من هذا أن الإنسان يوصي أبناءه بلزوم التقوى والإيمان والتوحيد، يوصيهم بذلك لاسيما عند الموت، عند فراق الحياة الدنيا، يكتب في وصيته، أو يوصيهم مشافهة بهذه الأمور.

ألا أيها الناس إنما أنا بشر

أما الأحاديث فذكر:

حديث زيد بن أرقم الذي سبق في باب إكرام أهل بيت رسول الله ﷺ قال: قام رسول الله ﷺ فينا خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال:  وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي. رواه مسلم

يقول: قام رسول الله ﷺ فينا خطيباً، قام خطيباً ﷺ أخذ منه الفقهاء مشروعية القيام للخطبة، ويدل عليه من القرآن قول الله -تبارك وتعالى: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]

قال: فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ، وذكّر. وهذه مضامين الخطبة، تبدأ بحمد الله، والثناء عليه والوعظ والتذكير.

ثم قال: أما بعد وهذه كلمة تقال للفصل، قال: ألا أيها الناس، إنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، يعني: الموت وأنا تارك فيكم ثَقَلين: أولهما كتاب الله....

يعني: هذا الذي قاله النبي ﷺ أشبه ما يكون بالوصية، أوصى بكتاب الله وأوصى بأهل بيته.

قال: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به...، والله يقول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 123-124].

وهذا أصل ثابت، لا شك فيه، وقد تأملت كثيراً في أحوال من ينحرفون، سواء من المنتسبين إلى دين، أو دعوة، أو نحو ذلك، ينحرفون عن الجادة، -وما أكثر هذه الانحرافات والفتن في مثل هذه الأيام- فوجدت أن منشأ ذلك ابتداءً هو الإعراض عن الكتاب والسنة، وعلوم الكتاب والسنة، من لزم الكتاب والسنة فهو على جادة بإذن الله يوصله ذلك إلى الهدى والنور، ومن أعرض، وطلب الهداية بكلام الفلاسفة المعاصرين، والذين تضخمت عقولهم  وصاروا يتكلمون بآرائهم، وليسوا من أهل العلم، ولا تجد في كلامهم ما يستند على الكتاب والسنة فإن هؤلاء ينحرفون، ويضل بسببهم كثيرون، كما هو مشاهد، يُفتَن جموع من الشباب اليوم بكتابات زيد وعمرو، ممن لهم نزعة عقلية فلسفية، كما فُتن أقوام قبل ذلك بقرون بكلام الفلاسفة المتقدمين، وكلام أولئك الذين صارت لهم ثقة كبيرة بعقولهم من علماء الكلام والفلسفة من المعتزلة وغيرهم، فانحرف من انحرف، طوائف كثيرة.

واليوم تتكرر هذه الفتن على الناس بأثواب جديدة براقة، تأتي هذه الكتب ذات الأغلفة الجذابة، ويتهافت عليها من يتهافت، فيحصل لهم انحرافات، فيجادلون في مسلمات تتصل بالدين، ثوابت محكمات، يجادل فيها أصغر واحد.

القضية عنده قابلة للأخذ والرد والنقاش، ولا غضاضة في ذلك، ويتهم من خالفه في هذا بالجمود والتشدد، والتقليد، وضيق الأفق، ولا ينفتح على الآخر، والتعايش، ومن هذه الفلسفات والعبارات.

يقول: وأنا تارك فيكم ثَقَلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي[1]رواه مسلم.

كتاب الله هو مصدر التلقي، وأما أهل بيت النبي ﷺ فهذا يؤخذ منه أمران:

الأمر الأول: هو الرجوع إليهم فيما يختص به ﷺ مما  قد يخفى على الناس في شئونه الخاصة، يعني: الأمور التي لا يطلع عليها إلا من خالطه مخالطة خاصة في بيته، وهم يطلعون، وأول من يدخل في هذا من هذه الحيثية: أمهات المؤمنين، ولذلك كان الصحابة يسألون أعلم أمهات المؤمنين، وهي عائشة -ا، ولعن من لعنها.

كان الصحابة يعملون بهذه الوصية، فيرجعون إليها؛ لأن النبي ﷺ أوصى بأهل بيته، فيسألونها.

لكن، هل هذه الأشياء التي تسمع وتنقل وتؤخذ عن أهل بيت رسول الله ﷺ هي حجة من قبيل الرسالية، أو من قبيل الحجة البيانية؟

الحجة الرسالية معناها: أنه كلام معصوم، مثل كلام النبي ﷺ، هذه حجة رسالية، وحي معصوم، كما يدعي الرافضة.

أو حجة بيانية، بمعنى: أنهم يبينون عن سنن خفيت على غيرهم.

هو الثاني؛ لأن المعصوم فقط هو النبي ﷺ، وأما من عداه فكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد، ولهذا اختلف الصحابة ، ولو كان المقصود بذلك العصمة، كما يدعي الرافضة، ويقولون: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] فإن هذه الآية نازلة في أمهات المؤمنين، يَا نِسَاءَ النَّبِيِّفهي وصايا لأمهات المؤمنين، فإن إطلاق أهل البيت يطلق على إطلاقات متنوعة، إطلاق واسع، وإطلاق أضيق.

والإطلاق الذي هنا في آيات الأحزاب قطعاً يدخل فيه دخولًا أوليًّا أزواجه؛ لأن الوصايا لأزواج النبي ﷺ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ... [الأحزاب:32] إلى أن قال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33].

فهذا التطهير إذهاب الرجس عن أزواج النبي ﷺ بالدرجة الأولى، فهنا أوصى بأهل بيته، وأهل بيته من هم؟ يدخل فيهم أزواجه، ولذلك كان الصحابة يسألون زوجات النبي ﷺ، ولم يكن الصحابة يرجعون إلى زوجات النبي ﷺ أو إلى علي أو إلى فاطمة ، أو الحسن أو الحسين، ويحتكمون إليهم، ما كانوا يفعلون هذا قط.

هل كان أبو بكر وعمر وعثمان والصحابة  يأتون إذا اختلفوا في مسألة بعد وفاة رسول الله ﷺ ويقولون: ما الحكم فيها، لأنهم يعتقدون أن أقوالهم معصومة؟  

الجواب: لا، بل كانوا يختلفون، اختلف علي مع كثير من الصحابة في المسائل العلمية، وفاطمة -ا- حينما جاءت تطلب ميراثها من رسول الله ﷺ في فَدَك، بيّن لها أبو بكر ووافقه من حضر من الصحابة، بيّن لها قول النبي ﷺ: لا نُورَث، ما تركنا صدقة[2].

فخفيت عليها هذه السنة، ولا شك أن أبا بكر وعمر أعلم من فاطمة -ا- وأعلم من علي، وأعلم من الحسن والحسين .

الأمر الثاني في وصيته في أهل بيته: هي بالإحسان، ومعرفة ما لهم من الحق من قرابتهم من رسول الله ﷺ المؤمن منهم يُحبَّ لإيمانه، ولقرابته من رسول الله ﷺ ولهم الإكرام والإجلال، وأن تعرف لهم الأمة قدرهم، هذا هو المقصود، ومن جاء ليجادل بهذا الحديث، ويلبس به على الناس، ويقول: عندكم حديث في صحيح مسلم، ويقول: إني تارك فيكم الثَّقَلين؟ نقول له: نعم، هذا الحديث على العين والرأس، ثابت، لكن من هم أهل بيت النبي ﷺ؟، هذا الحديث الذي يحتجون به، والآية لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، من هم أهل البيت؟،الآيات كلها في سياق أزواج النبي ﷺ.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب  (4/ 1873)، رقم: (2408).
  2. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (5/ 139)، رقم: (4240)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي ﷺ: لا نورث ما تركنا فهو صدقة (3/ 1380)، رقم: (1759).

مواد ذات صلة