الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل..» (1-2)
تاريخ النشر: ١٥ / محرّم / ١٤٢٦
التحميل: 3142
مرات الإستماع: 23759

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

فعن أبي عبد الله خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان مَن قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، واللهِ ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون[1] رواه البخاري وفي رواية: "وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة"[2].

أيها الإخوة:

كان هذا في مكة، في وقت الأذى والاضطهاد لطائفة قليلة من أهل الإيمان، فهم قلة وضعفاء، والمشركون يسومونهم ألوان الأذى، ويسومونهم صنوف العذاب، فجاءوا يشكون إلى النبي ﷺ، ورسول الله ﷺ في هذه الحال متوسد بردة له في ظل الكعبة، بردة أي: كساء مخطط، قد جعله وسادة له في ظل الكعبة، فقالوا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ يعني ألا تستنصر الله؟ لأنه لا يوجد من البشر من ينصرهم، فهم قلة مستضعفة، ألا تدعو لنا؟ لأنه ضاقت بهم الحال، واشتدت بهم الكُرَب، حتى تعجلوا النصر، متى كان هذا أيها الأحبة؟! هل كان في السنة الثانية من البعثة النبوية؟ أو في الثالثة؟ أو في الرابعة؟ أو في الخامسة؟ هل كانوا يعلمون أنه بعد سنوات قليلة، لربما ست سنوات، أو سبع سنوات سيكون هؤلاء الكبار ممن يعذبونهم ويؤذونهم يسحبون إلى قليب بدر ويلقون فيها؟ من كان يتصور هذا؟! هل كانوا يتوقعون هذا؟ وهل خطر في بالهم أن هذا سيكون بأيديهم؟ هم يريدون أن يكون النصر، والبطش، وإهلاك هؤلاء الظالمين بما ينزله الله عليهم من آفة، أو عقوبة سماوية، أو غير ذلك مما يفعله بأعدائه، ولكن الله كان يقيض لهم أمرًا آخر، وذلك أن يكون عذاب هؤلاء المشركين على أيدي هؤلاء المستضعفين من المؤمنين، وهو أبلغ في التشفي كما قال الله -تبارك وتعالى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة: 14]. فهذه ثلاثة أمور تترتب على القتال، والرابع هو التشفي؛ فإن إهلاك العدو على يدي عدوه أبلغ في التشفي من إهلاكه بأمر آخر، كما أن إهلاكه بأمر آخر -يعني بشيء ينزله الله به- وعدوه ينظر إليه في الحال التي يكون هلاكه فيها أبلغ من هلاكه وهو لا يراه، كما قال الله : وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:50]، وأنتم تشاهدونهم وهم يصارعون الموت في لجة البحر، وهم يغرقون ويلفظون أنفاسهم، هذا أبلغ في التشفي.

والتشفي على مراتب:

أعلاه: أن يكون هلاك هؤلاء الأعداء على يدي أهل الإيمان، وهذا الذي حصل لهذه الأمة، فهؤلاء من أهل الإيمان الذين شكوا للنبي ﷺ، والنبي ﷺ في هذا الحديث كما سمعتم قال لهم: ولكنكم تستعجلون قد يقول القائل منهم في تلك اللحظة: وأي استعجال؟ لقينا منهم ألوان الأذى، وعذبونا بصنوف العذاب، نلاقي منهم ذلك صباح مساء، فأين الاستعجال؟ لكن لو فُتحت صفحة الغيب وكشف لهم عن عشر سنوات قادمة فقط، وما الذي سيكون فيها، وقيل لهم: اقرءوا هذه الصفحة من الغيب، وانظروا إلى أعدائكم كيف صار حالهم، لتغير الحال والسؤال.

إن مثل هذا حينما يقاس باللحظات والساعات والأيام التي تكون في غاية البطء في حركتها، تكون السنة طويلة جداً كالقرن، وتكون السنتان كالقرنين على المبتلى، ولكن حينما تنظر إلى التاريخ برمته، التاريخ المتطاول الممتد تقول: هي صفحة كشفت.

تأمل، أقل من عشر سنوات وإذا بهؤلاء المتكلمون الشاكون يسحبون أعداءهم بأرجلهم إلى قليب بدر، اقرءوا في سيرة ابن هشام عن غزوة بدر، فإن لم تستطيعوا قراءة الغزوة كاملة فاقرءوا القتلى من المشركين، حينما يُسرَد سبعون رجلًا من الكبار قتلوا في بدر، اقرأ في أول الغزوة من هم المطعمون من قريش؟ حينما ساروا بغرورهم وكبريائهم من أطعمهم في اليوم الأول والثاني والثالث؟ كانوا يذبحون كل يوم عشراً من الإبل، ويتفاخرون بذلك، ومن الذين كانوا من العتاة الكبار على الله في مكة؟ سيخيل إليك أن هؤلاء جميعًا قد قتلوا، حتى تقول من بقي؟ فتحاول أن تستحضر بعض الأسماء ثم تجدهم في أسماء الأسرى، تصور يُقتل سبعون، ويؤسر سبعون في معركة واحدة، في أول لقاء مع المشركين، في يوم الفرقان، حينما تنظر إليه بهذا الاعتبار تقول: نعم هذا استعجال.

إنهم حينما شكوا للنبي ﷺ ولم يصبروا، وطلبوا أن ينزل الله العقوبة من السماء على هؤلاء المشركين قال لهم: أنتم تستعجلون، وانظر إلى اليقين الثابت عند النبي ﷺ، في البداية ذكر لهم ما أصاب من قبلهم، كأنه يريد أن يقول: لستم أول من يؤذى في سبيل الله ، فهذه سنة الله الماضية الجارية على الأولين والآخرين، فالله -تبارك وتعالى- قد فتن الذين كانوا من قبلنا، وهكذا سنته فينا أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214]. لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14]. كيف يكون حال هؤلاء الناس؟ كيف يكون عملهم بطاعة الله ؟ كيف يكون تصديقهم لأقوالهم السابقة التي كانوا يقولونها ويدعون الناس إليها؟ كيف يكون ذلك على أرض الواقع؟ كيف يتجردون من حظوظ النفس؟ كيف يتجردون من أنواع الظلم للقريب والبعيد، للعدو والصديق؟ هذه المعاني كلها ينبغي أن نستحضرها دائماً في حياتنا.

قوله: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين أي: لا يقتل بالسيف أو بالسهم أو بالطعن، لا، إنما منشار ويُبدأ به من الرأس، من جمجمة الرأس، لم يكن القطع من النصف الأيسر أو الأيمن، لا، يقطع بالمنشار وهو حي حتى يصل المنشار إلى الأعماق، ثم بعد ذلك يلفظ أنفاسه، ولا يتركونه حتى يجعل بهذه المثابة على نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ينتزع بهذه الأمشاط من الحديد ليس الجلد فقط إنما كل شيء، هذه صورة بشعة، وهذا واضح في أن الذين كانوا يتولون ذلك وأن هؤلاء الأعداء كانوا في غاية العداوة، ليس في قلوبهم أدنى رحمة، انظر إلى شدة الأذى، ومع ذلك هؤلاء في غاية الثبات ما يصده ذلك عن دينه بعض الناس يكون في حال النعمة والرخاء، فإذا طاله شيء من الأذى، أو هدد في رزقه، أو وظيفته، أو أدنى الأشياء -لم يهدد بأمشاط الحديد ولا بالمنشار- تخلى، ولربما انقلب إلى الناحية الأخرى تمامًا، كان من قبل ينادي ويطالب بمبادئ، ويدعو إلى ذلك، فلما ابتلي بعض الابتلاء تحول -نسأل الله العافية- إلى شيء آخر، وكثير ممن ترونهم قد غيروا وبدلوا، ولذلك الإنسان يسأل ربه العافية، لا يتمنى البلاء.

ما يصده ذلك عن دينه هنا ذكر لهم حال من كان قبلهم، يقول لأصحابه: أنتم ما وصل الأمر أن يوضع المنشار على مفرق الرأس، ثم تأمل الثقة والثبات في وقت الاستضعاف والقهر، والنبي ﷺ لم يسلم من الأذى، فقد وُضع السَّلَى على رقبته ﷺ وهو ساجد، السَّلَى: المشيمة التي تخرج من الدابة إذا ولدت، أشياء يأنف الإنسان أن يمسها بيده، وقد وضعت على رقبته وهو ساجد ﷺ أشرف الخلق في أشرف بقعة في أشرف حال وهو ساجد، لكنهم لم يراعوا ذلك كله، ثم انظر الثقة الكاملة عند النبي ﷺ وهو يقول: والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت تأمل ليتمن الله هذا الأمر هم الآن في مكة، وأهل مكة يؤذونهم، معنى هذا: أن مكة ستتحول إلى إسلام، والجزيرة العربية في أنحائها إلى اليمن يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت هذه المنطقة كانت مخيفة، فيها قطاع طرق، لا يتصور السامع أن الإنسان يسير وحده يقطع هذه المسافة من صنعاء إلى حضرموت ويسلم، فالنبي ﷺ قال: لا يخاف إلا الله يعني: الأمن ينتشر، والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون.

فأقول أيها الأحبة، ينبغي أن يكون هذا أمام أعين الدعاة إلى الله، وأهل الصلاح، وأهل الغيرة، أن يكون ذلك بين أعينهم؛ فيكون سببًا للتثبيت، والتصبير، ولزوم الحق، فلا يتنازل الإنسان عنه في حال طمع لرغبة، ولا في حال رهبة، وإنما يضيِّع الناس مبادئهم في هاتين الحالتين، إما رغبة -يعطى من الدنيا- وإما رهبة، وهكذا تباع قضايا الأمة، ومصالح المسلمين في مثل هذه الحالات، تجد هذا الذي يثق الناس به ولربما صوتوا له يعقد من وراء الظهر أموراً هؤلاء الناس لا يعلمون عنها شيئًا، من أجل أن يكون هو الذي يحصِّل شيئاً من حطام الدنيا، فيبيع قضيتهم، ويبيع دينه، ومبادئه، والناس لا يعلمون، فينتقلون من ظهر مباع إلى ظهر مباع، وهكذا تضيع قضايا الأمة، وبهذه الطريقة يظنون أنهم قد تحرروا من أسر الأعداء ومن هيمنتهم ومن تحكمهم ومن تسلطهم ثم يفاجئون فيما بعد بغير ذلك، لكن قد يكون هذا بعد ستين أو سبعين أو ثمانين سنة يفاجئون أن هناك اتفاقات أخرى لم تظهر على السطح في بيع قضيتهم، وأن القضية ما زالت تُراوَح في المربع الأول، وتبقى الأمة في قيودها مكبلة، لا تتقدم ولا تخطو خطوة حقيقية جادة إلى البناء والحضارة والنصر والتمكين، يتسابق هذا وذاك في كثير من بلاد المسلمين، كل واحد يقول للأعداء: أنا أعطيكم أكثر هلموا إليّ، والناس مساكين قد يحسنون الظن بهم، وهذه مصيبة كبيرة.

نسأل الله أن يلطف بالمسلمين، وأن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويهدى فيه أهل معصيته، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر (9/ 20) برقم (6943).
  2. أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي ﷺ وأصحابه من المشركين بمكة (5/ 45) برقم (3852).

مواد ذات صلة