الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «من ترك اللباس تواضعًا لله..»
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الآخر / ١٤٣١
التحميل: 1462
مرات الإستماع: 4018

مقدمة باب استحباب ترك الترفع في اللباس تواضعا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب استحباب ترك الترفع في اللباس تواضعاً.

قال المصنف -رحمه الله: قد سبق في باب فضل الجوع وخشونة العيش جملٌ تتعلق بهذا الباب.

استحباب ترك الترفع في اللباس تواضعاً: أي أن ذلك لا يجب، إذا كان الإنسان يلبس من المباح، يعني: قد يكون الرفيع من اللباس من المحرم، كالحرير وما نسج بالذهب مثلاً، فإن هذا لا يجوز، ولكن إذا كان ذلك من المباح فإن ترك ذلك اللباس الرفيع مستحب.

ومن لبس اللباس الرفيع فإن ذلك لا يحرم عليه إلا أن يكون ذلك لأمر آخر،  كأن يكون هذا يفعله على سبيل التفاخر، والتباهي، والرياء، والسمعة، والتكبر على الخلق، فهذا لا يجوز، أو أن يفعل هذا ويكون ذلك من باب الإسراف في حقه، والإسراف حرام، والتبذير حرام، كما سيتضح بعد قليل -إن شاء الله.

وإشارة المصنف -رحمه الله- هنا في قوله: تواضعاً، يعني: يترك رفيع اللباس لا بخلاً، ولا رياء، وهل يمكن أن يترك الإنسان رفيع اللباس رياء؟

الجواب: نعم، يلبس ملابس رثة، ليقال: ما شاء الله، تبارك الله، متواضع، فهذا -نسأل الله العافية- يخرج بالوزر، فحَرم نفسه جيد اللباس وخرج أيضاً بالوزر.

وإشارته هنا في قوله: قد سبق في باب فضل الجوع، كأنه يعتذر عن قصر هذا الباب؛ حيث لم يذكر فيه إلا حديثاً واحداً، وذكر أحاديث كثيرة هناك، ماذا كان يلبس النبي ﷺ، وحين يذكر اللباس يذكر أيضاً الفُرش كما ذكرنا من قبل حديث أنس في الحصير الذي قد اسود من طول ما لُبس[1].

الحصير لا يُلبس ولكن المقصود: من طول ما استُعمل وجلس عليه، فالفرش هي داخلة في جملة اللباس، ولهذا الحديث يشملها هنا.

فذكر هناك حديث عمر لما دخل على النبي ﷺ وقد نام على حصير أثر في جنبه، وقال له عمر ما قال، في قصة الإيلاء، لما ذكر كسرى وقيصر، وما هم فيه من النعيم، فقال له النبي ﷺ: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟[2].

وكذلك حديث عائشة -رضى الله عنها- في وصف فراش رسول الله ﷺ أنه من أدم، وحشوه من ليف[3].

وحديث أبي هريرة هناك الذي يصف فيه أهل الصُّفَّة، نحو مائة وعشرين يزيدون وينقصون في بعض الأوقات، يقول: وما منهم رجل عليه رداء[4].

ولا واحد، ليس عند الواحد منهم إلا إزار، أو ثوب قد ربطه في عنقه، يستر الجميع، قطعة واحدة، يصل إلى أنصاف ساقيه، أو إلى كعبيه، هؤلاء أهل الصُّفَّة ما عندهم إزار ورداء، ما عندهم دواليب مليئة بالثياب، ما عندهم بيوت، يسكنون في سقيفة في المسجد، صُفّة في المسجد، في مكان في آخر المسجد، هي البيت وهي كل شيء، تركوا كل شيء لله، جاءوا من بلادهم، من أهلهم وقبيلتهم وعشيرتهم وأموالهم؛ طلباً لمرضاة الله   -تبارك وتعالى.

ولهذا أول زمرة أو أول من يدخل الجنة هم فقراء المهاجرين ، والجزاء من جنس العمل.

من ترك اللباس تواضعا لله
يقول: عن معاذ بن أنس أن رسول الله ﷺ قال: من ترك اللباس تواضعا لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها[5].

من ترك اللباس تواضعا لله بهذا القيد، وليس المقصود أن يترك اللباس مطلقاً، وإنما حذْف ما يُعلم جائز، فالعرب تحذف من الكلام ما تثق بفهم السامع لمعناه، يعني: أنه يترك رفيع اللباس، تواضعاً لله.

وقيد آخر: وهو يقدر عليه لأن الذي لا يلبس رفيع اللباس؛ لأنه فقير غير داخل في هذا.

قال: دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

على رءوس الخلائق، إشادةً به وتكريمًا، لكن كيف نفهم هذا الحديث، استحباب ترك الترفع في اللباس؟، ما هو الضابط في هذه المسألة؟.  

هذا يختلف باختلاف الأعراف، البيئة، الزمان، المكان، سواء ذلك في باب النفقات، أو الأطعمة، أو اللباس، أو المساكن، يعني: المسجد في زمن النبي ﷺ من طين، أو من حجارة، أو من لبِن، والسقف من جريد، وعسيب، وإذا نزل المطر خَرّ، ولا تُزين الجدران، ولا تُحمَّر، ولا تُصفَّر.

بينما اليوم طريقة البناء تختلف عن هذا، السقوف والجدران فيها ملاسة، وإذا جاء المطر فإنه لا ينزل، ولابدّ من التحمير والتصفير، يعني: تصبغ البيوت بالألوان، أقل بيوت الناس اليوم تصبغ، وذلك في هذا الوقت لا يعتبر من المبالغة، إذا كان ذلك بمجرده.

فالقضية لابدّ أن توزن، الآن أقل المساكن تجد أنها مصبوغة، ومطلية وإلى آخره، أقل المساكن، فيختلف الرفيع من غيره في هذا الوقت عن ذلك الوقت.

لو أحد أراد أن يسكن الآن ببيت من حجر والسقف من جريد وعسب، ونحو ذلك، ويقول: هذه البيوت الآن فيها مبالغة وتحمير وتصفير، أو يبني مسجدًا بهذه الطريقة، هذا الكلام غير مقبول؛ لاختلاف الوقت، وعادة الناس، والعرف، هذه الأمور تُراعَى.

فهنا فيما يتعلق باللباس -رفيع اللباس- ما هو الضابط؟، بالنسبة لهم في ذلك الوقت كانوا يلبسون الصوف، وإذا كان في الحر فهذا مؤذٍ جدًّا، فيه من الخشونة، ويحصل التعرق، والصوف له رائحة، لو جاءه بلل يسير من الماء صارت له رائحة لا تطاق، فكيف إذا كان العرق؟ فكيف إذا كان لا يكاد يغسل أصلًا؟.  

فهذه الألبسة التي نلبسها قد تكون في ذلك الوقت من الترف، مَن في ذلك الوقت عنده من هذه الملابس التي تَضيق عنها نواحي الدار؟ 

ما يوجد عندهم، فهذا يعتبر توسعًا في وقتهم، لكن ما هو الضابط في وقتنا نحن؟

أنا أقول: ينظر إلى العرف في البلاد، عرف الناس في الغالب، التوسط والاعتدال بهذه الأمور، لا إفراط ولا تفريط، ما الذي يمدحه الناس اليوم من التواضع في اللباس؟.

إذا أردت أن تعرف عقل المرأة غالبًا انظر إلى لباسها، وإذا أردت أن تعرف عقل الأسرة بكاملها انظر إلى فعلهم في المناسبات هل يصيبهم شيء من الخفة، وتزول قدم بعد ثبوتها، ويبدأ يظهر عليهم تصرفات تدل على حب للظهور، والمفاخرة، والمباهاة، وما أشبه ذلك، وما يكون غيرنا أحسن منا، وما نكون كذا، ولماذا ما نضع الزواج في كذا، ولماذا ما نأتي بكذا؟.

وتجتمع هذه المصاريف حتى تنوء بالعصبة أولي القوة، ففي هذه الأمور ما الذي يمدح به؟

المرأة حينما يقال: ما شاء الله، هذه لباسها معتدل، متواضع لباسها، ما معنى هذا؟ معناه: أنها لا تبالغ، أنها معتدلة، قنوعة، لباس نظيف، جيد، حسن.

لكن لا تختار دائمًا الأشياء الغالية جدًّا، بل تأخذ أشياء بسيطة، نظيفة، جيدة متواضعة، تدل على عقلها وكمالها، أليس النساء تمدح بهذا اليوم؟

إذا رأوها في مناسبات وإذا رأوها قالوا: ما شاء الله فلانة ما هي مثل كثير من النساء، انظر الآن في واقعنا وبيئتنا، ما يوجد عند بعض الناس الذين يحبون رفيع اللباس، خذ أمثلة، وإن كانت الأمثلة أحياناً قد تشوش على أصل الفكرة: من النساء من لا تفصل الثياب إلا في باريس، ولندن، وتفتخر وتتحدث في المجالس بهذا الثوب الذي تلبسه ولربما يصل إلى ثلاثمائة ألف ريال، أربعمائة ألف ، مشاغل عالمية بباريس ولندن، هي لا تتنزل أنها تقف عند خياط هنا ترميه بأقبح الأوصاف.

الخاتم بمائة وعشرين ألف ريال، الساعة بمائتين وأربعين ألف ريال، الحقيبة التي تُحمل هنا ماركة، هذه الماركة احسب من الألفين والخمسمائة فصاعدًا، هذه المتواضعة التي تأخذها من هنا، بألفين وخمسمائة، أحياناً لا منظر، ولا معنى، غير مقبولة أحيانًا في منظرها وشكلها، لكن هي ماركة، مادام ماركة العقل يُلغى، بينما النسخة المقلدة لها تماماً طبق الأصل تأخذها بخمسة وثلاثين ريالا، طبق الأصل، ولو أتيتها بها هدية مسافر لإندونيسيا أو دول شرق آسيا تفضلي هذه ماركة، هو شيء عظيم، لكن لا تخبرها عن السعر، أنتَ مشتريها بعشرين ريالا، أو بخمسة وعشرين ريالا، وهي تظنها بألفين وخمسمائة، الحقائب ماركة لازم، الحقيبة الكبيرة حق السفر كم قيمتها إذا كانت من هذه الماركات؟

هذا رفيع اللباس، فحينما يلبس الإنسان الفاخر جدًّا، الأحذية -الله يعزكم- بكم تُشترى؟ بعض الناس لا يشتري إلا نوعيات معينة، وماركات معينة، غالية جدًّا.

وقل مثل ذلك في الأقلام، وما يستعمله الإنسان، النظارة أسعارها لا نتخيلها ولا نتصورها، أعرف من اشترى حقيبة دبلوماسية بخمسة وعشرين ألف ريال، حقيبة دبلوماسية صغيرة!.

وهكذا في المساكن، يوجد من يسكن في شقة بثمانين ألف ريال، ليس هناك كبير مزية، ولا سعة في المرافق، لكن أحياناً تكون عند بعض الناس ناحية اجتماعية، إذا جلس يقول: أنا مستأجر بثمانين ألف ريال، ما شاء الله، شيء عظيم، ترى أناسًا يسكنون في شقق، والسيارات التي عند الأبواب على أربعمائة ألف ريال، وأربعمائة وخمسين ألف ريال، كيف يكون ساكنًا في شقة وهذه السيارة؟.

فكنت أسأل أحياناً، كيف نحل هذه المعادلة؟ ما أستطيع أني أفهمها، فقال لي بعض الناس جواباً على هذا، له وجه من النظر، قال: كثير من هؤلاء الناس ما يأتي أحد أصلاً في بيته، ولا يدعو أحداً في بيته، لكن سيارته التي يتقدم بها إلى الناس ويرونه، هم يرونه بهذه السيارة، قيمتها بأربعمائة وخمسين ألف ريال، ومن ثَمّ:

فالناس أكثرهم فأهل مظاهرٍ تبدو لهم ليسوا بأهل معانِ
فهم القشورُ وبالقشور قوامهم واللبُّ حظُّ خلاصة الإنسانِ

كثير من الناس لا هم له إلا المنظر، ويحدثني أحد المعلمين يأتي بساعة مقلدة من هذه الساعات الغالية جدًّا، لكن هذه تقليد، رخيصة، ومدير المدرسة يظن أنها ساعة ماركة، فكان يتعامل معه بإكبار، ولا يسأله عن حضور، ولا غياب، ولا انصراف، ولا تأخير، ولا غير ذلك، وما كان يدري ما العلة، حتى نقل له شخص ذات يوم أن هذا المدير يثني عليه جدًّا، ويقول: انظر إلى الساعة التي يلبسها، هذا جنتل مان، هذه العقول.

ذهبت مرة إلى مدرسة، سمعت أن فيها معلمين خيرين، أسجل ولدًا عندي، وأتيت ومعي ملف مليء بشهادات التفوق من نحو أربع مدارس، أو خمس مدارس، درس فيها الولد، كلها شهادات تفوق، وظننت أني لما أعرض هذا الملف سيقول: تفضل، ما نظر في الملف، ولا سألني عنه، قال: أين تعمل؟

هذا سقط من عيني تماماً، هذا السؤال الوحيد الذي وجهه لي، ما نظر في أوراق الولد، ولا شهادته، معي ملف ممتلئ شهادات من أربع مدارس، ما هي مدرسة واحدة، ما نظر فيه، ولا قال: أعطني إياه.

فأقول: كثير من الناس هذا عقله، هذه طريقته في التفكير، وهذا غلط يا جماعة، هذا الأسلوب ما يصلح، فلا تكن هكذا يا عبد الله، قيمة الإنسان بقدر ما يحسن، لا بقدر ما يلبس.

عند المصريين مثل شعبي يقول: لَبِّس البوصة تطلع عروسة.

فالشاهد أن العبرة بما نحسن، العبرة بما نحمل، لا بما نلبس، فرفيع اللباس ما ضابطه؟، هذا يختلف، يعني: مثل هؤلاء في الأمثلة التي ذكرتها هذا رفيع جدًّا، فمن ترك هذه الأمور وهو يقدر عليها، إنسان عنده قدرة مادية جيدة، لكن يلبس كما يلبس عامة الناس، ثياب نظيفة، جيدة، مرتبة.

امرأة تستطيع أن تفصل في تلك العواصم، وتلك البلاد، ولكنها تفصل عند خياط قريب من بيتها، وتلبس كما يلبس الناس، وهي غنية لا بخلاً، فهذا محمود، ولهذا قال النبي ﷺ: البذاذة من الإيمان[6].

والمقصود بالبذاذة: ترك الرفيع من اللباس، أن يكون الإنسان في هيئته متواضعاً بسيطاً، يلبس اللباس البسيط، ما يطلب التميز على الناس بلباسه.

وقل مثل ذلك في الفُرش، كما سبق، الأثاث، فيأخذ أشياء جيدة، ولكن لا يبالغ، مع قدرته على ذلك، وكثير من الناس أصبح لا يقبل شيئاً مما يوجد ويعرض في البلد، يذهب بنفسه ويسافر، بعضهم يجلس ستة أشهر وأكثر من أجل اختيار الأثاث، يتنقل من دولة إلى دولة في أوربا، وفي دول أخرى، من أجل أن يختار نوع الأثاث، فهذه مبالغات.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة على الحصير (1/ 86)، رقم: (380)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة، والصلاة على حصير وخُمرة وثوب، وغيرها من الطاهرات (1/ 457)، رقم: (658).
  2. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: تبتغي مرضاة أزواجك (6/ 156)، رقم: (4913)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن وقوله تعالى: وإن تظاهرا عليه [التحريم:4] (2/ 1105)، رقم: (1479).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي ﷺ وأصحابه، وتخليهم من الدنيا (8/ 97)، رقم: (6456)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب في الإيلاء، واعتزال النساء، وتخييرهن وقوله تعالى: وإن تظاهرا عليه [التحريم:4] (2/ 1108)، رقم: (1479).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب نوم الرجال في المسجد (1/ 96)، رقم: (442).
  5. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 650)، رقم: (2481).
  6. أخرجه أبو داود، كتاب الترجل (4/ 75)، رقم: (4161)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب من لا يؤبه له (2/ 1379)، رقم: (4118).

مواد ذات صلة