الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «اللهم أسلمت نفسي إليك..»
تاريخ النشر: ٢٧ / ربيع الآخر / ١٤٣١
التحميل: 1167
مرات الإستماع: 4997

اللهم أسلمتُ نفسي إليك

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا كتاب جديد، وهو كتاب آداب النوم.

قال المصنف -رحمه الله: كتاب آداب النوم، والاضطجاع، والقعود، والمجلس، والجليس، والرؤيا.

عن البراء بن عازب -رضى الله عنهما- قال: كان رسول الله ﷺ إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن، هذا مما يتصل بآداب النوم، والاضطجاع، كيف تكون هيئته عند إرادة النوم؟ وكذلك لو لم ينم، كيف يكون حاله حينما يضطجع؟ هل ينام الإنسان على بطنه مثلًا؟ تلك نومة يبغضها الله -تبارك وتعالى، هل ينام على ظهره، ويرفع رجليه، فينصب إحداهما، ويضع قدمه على فخذه الأخرى مثلًا؟ قد ورد نهي عن هذا يأتي الكلام عليه -إن شاء الله.

عن البراء بن عازب، يقول: كان رسول الله ﷺ إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن، ثم قال: اللهم أسلمتُ نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت[1].

قال هنا: "نام على شقه الأيمن"، وجاء أيضًا في صفة نومه ﷺ: أنه يضع كفه اليمنى تحت خده الأيمن[2]، والنوم على الشق الأيمن هذا هو السنة؛ لأن النبي ﷺ كان يفعله، وهو أنفع للبدن، وقد تكلم ابن القيم -رحمه الله- على هذا، وبين منافعه، فالقلب في الشق الأيسر، فإذا نام الإنسان على شقه الأيسر فإن ذلك يكون أثقل لنومه، وأما إذا كان نائمًا على شقه الأيمن فإن قلبه يكون معلقًا، فيكون ذلك أدعى إلى يقظته، وخفة نومه، إلى غير ذلك مما يتصل بصحة الإنسان من جهة المعدة، ونحو ذلك.

ثم يقول: اللهم أسلمت نفسي إليك،إسلام النفس لله -تبارك وتعالى: بحيث لا يكون للعبد منازعة لربه  ، فيستسلم بكليته لربه، وخالقه ، والله يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125] يعني: لا أحد أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله، وقال: فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج:34] وتقديم الجار والمجرور: لَهُ يدل على الحصر، فأصل الكلام: أسلِموا له، فلو قال: أسلِموا له، يحتمل أن يكون: أسلِموا له ولغيره، لكن حينما يقول: فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج:34]، لمّا قدمها دل على الحصر، يعني: لا تسلموا نفوسكم ووجوهكم لغير ربكم وخالقكم ، فإسلام الوجه وإسلام النفس وإسلام البدن والجوارح هو لله ، هذه هي حقيقة الإسلام، الاستسلام لله -تبارك وتعالى- بالطاعة، والانقياد.

يقول: ووجهت وجهي إليك، والوجه هو أشرف ما في الإنسان، فيكون متوجهًا لربه الواحد.

فلواحدٍ كن واحدًا في واحدِ  أعني سبيلَ الحقِّ والإيمانِ

فلا يكون فيه أدنى التفات إلى غير الله ؛ لعبادته؛ لمحبة تنازع محبة الله ؛ لرجاء المخلوقين، أو الخوف منهم، الخوف الذي لا يصلح إلا لله، فإن هذا يشتت القلب، ويجعل الإنسان في حال من التحير، والقلق، والاشتغال بالمخلوقين أعطوه أو منعوه، رضوا عنه أو سخطوا، فإذا التفت الوجه أو القلب إلى أحد من المخلوقين فإن ذلك مضيعة له، فيعيش حياة بائسة، حياة كلها وحشة، ويبقى قلبه معذبًا بهذا الذي اشتغل به، فأخذ شعبة منه، وتشاغل به عن الإقبال على الله -تبارك وتعالى، واسألوا العاشقين ممن تعلقت قلوبهم بالمحبوبات من دون الله ، كيف يعذبون بهذه المحبة، والذين تعلقت قلوبهم بالشهوات، وبالصور المحرمة، كيف تعذب قلوبهم، كيف يعيشون في جوعة، ولوعة، وألم يلازم صدورهم، وكل من أنصف فإنه يعرف ذلك، فالقلب فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهب إلا بالسرور بمعرفته، وفيه فاقة وفقر لا يذهبها إلا صدق اللّجأ إليه، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله.

يقول: ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، تفويض الأمر إلى الله -تبارك وتعالى- هذا حقيقة التوكل، يبذل الإنسان الأسباب المادية التي تدخل تحت وسعه وطاقته، ولكن القلب يتوجه إلى المعبود ، لا يتعلق بالأسباب، ولا يتعلق بالمخلوقين، وإنما يتعلق بالله، هو فعل ما عليه، فعل ما يجب، والأمور بيد ربه ، نواصي الخلق بيده، وهم تحت قبضته، فيفوض أموره إلى الله، لو أن العبد أدرك حقيقة هذا، حقيقة إسلام النفس لله، وتوجيه الوجه لله، وتفويض الأمور، جميع الأمور إلى الله -تبارك وتعالى، لو كنا كذلك لتغيرت أحوالنا تماما، ولما بقي في هذه الدنيا أحد يشعر بالقلق، والحزن، والخوف من المستقبل، والخوف من المخلوقين؛ ولكان الناس ينعمون في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، ولكن القلب -أيها الأحبة- مشتت؛ لضعف اليقين.

يقول: وألجأت ظهري إليك، يعتمد على الله، فهو نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40]، إذا قال المخلوق: فلان له ظهر، فأنت تُلجئ ظهرك إلى الله.

يقول: رغبة ورهبة إليك، يجمع بين الرغبة والرهبة، وهذه صفة أهل الإيمان، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، وأما الذين عبدوا الله ، وتوجهوا إليه رغبة، أو محبة من غير رهبة، فإن هذا أوقعهم في انحراف، ويصير العبد بهذا لربما فيه نوع إدلال على ربه ؛ لأن المحبة وحدها قد تورث هذا الإدلال على الله، والجراءة عليه جراءة المحب على محبوبه، أمّا إذا وجد الخوف مع المحبة فهذا هو الكمال، وإذا توجه العبد بالخوف وحده دون رغبة فإن هذا قد يورثه اليأس، والقنوط، ولكنه يجمع بين هذا وهذا، بين رغبة ورهبة، رغبة بما عند الله، ورهبة من عذابه، فالرغبة كالحادي: يحدوه للعمل، والإقبال على الله، فيحبه، والرهبة كالسوط: يحجزه عما لا يليق، عن مقارفة المعاصي، والفواحش، والذنوب، ومساخط المعبود -تبارك وتعالى، فهو بحاجة إلى حادٍ يحدوه في الطريق، فيعجل له السير، ويطيبه، وهو بحاجة إلى حاجز يحجزه، فالرغبة والخوف لابدّ منهما.

يقول: لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، الإنسان إذا خاف من مخلوق فإنه قد يلجأ إلى غيره، خاف من سلطان قد يلجأ إلى سلطان آخر، لجوءاً سياسيًّا، خفتَ من زيد تلجأ إلى عمرو؛ لحمايتك، وقد ينجو الإنسان بالهرب، لكن الله -تبارك وتعالى- إلى أين المهرب منه؟ أين يذهب؟ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن:33] أين يذهب الإنسان؟ يطير، يصل إلى السموات العلى؟ هو في سلطان الله ، أين يذهب في الأرض؟ أين يختفي من الله والله يرى دبيب النمل على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء، ويرى ما في قعر البحار؟، قد تختفي من مخلوق أحيانًا في بيت ولا يدري عنك، قد تفر إلى بلد آخر، إلى مدينة أخرى، إلى قرية أخرى، ولا يشعر بك الخلق، ولكن من الذي يستطيع أن يفر من الله ؟، من خاف من الله فإنه يلجأ إليه، ويفر إليه، إذا عمل العبد الذنوب، وأساء، وغلبته المخاوف فإن الطريق هو أن ينيب إلى ربه، وأن يقبل عليه، وأن يفر إليه، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50]، فإذا خافه فر إليه، بخلاف المخلوق، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك أين نذهب؟.

يقول: آمنت بكتابك الذي أنزلت، والكتاب هنا جنس، يشمل جميع الكتب، كتاب مضاف إلى معرفة، وهي كاف الخطاب، أي: بكتبك التي أنزلت، جميع الكتب نحن نؤمن بها، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285].

يقول: ونبيك الذي أرسلت، فهذا هو الذكر الذي يقوله الإنسان كل ليلة إذا أوى إلى فراشه، لو قاله واستحضر معناه؛ لتغيرت حاله تمامًا، ولما تسلط عليه الشيطان، فكثير من الناس يشكون ما يجدونه في نومهم، من الجاثوم، والرؤى المزعجة، وتلاعب الشيطان بهم، لو أنهم قالوا مثل هذا باستشعار -فقط باستشعار- لمعناه، ما قالوا شيئا آخر لكفى، لكن نحن لا نستشعر هذه المعاني، وإلا فذِكرٌ واحد كما قال النبي ﷺ: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه[3]، ما قال: كفتاه من الجن، ولا قال: من الهوام، ولا قال: من اللصوص، ولا قال: من الوحوش، بل كفتاه من كل شيء؛ لأن حذف المتعلق يفيد العموم، من كل شيء، إذا كنت في برية، وتخاف من الهوام اقرأها، أو كنت في مكان غير آمن اقرأها، ونم قرير العين، لو تخاف من الشياطين اقرأها، تكفي، فمثل هذه الأشياء يسيرة، ولكننا نغفل عنها، وقد نقول ذلك ولا نستشعر معانيه.

قبل أيام زارني أحد الإخوان من أهل الحسبة، من هيئة الأمر بالمعروف، وأطلعني على بعض الأشياء، منها: وهو شيء أعلمه تمامًا، ما زاد عندي شيئًا، لكن: ليس الخبر كالمعاينة، كما قال النبي ﷺ[4]، أراني رجلًا أعرفه، مصوَّر ببعض البلاد الشرقية، شرق آسيا، ساحر، وهو شاب، رجل نحيف، لابس فقط سروالا، ما عليه شيء من فوق، واقف في ليل، وعليه أضواء، وقدامه ستة، أو سبعة، لابسون مثله ما عليهم شيء من فوق، وعليهم سراويل، ويقول لهم: خذوا أي شيء، سيفًا، خنجرًا، عصا غليظة، حديدة، وتعالوا اضربوني، وكلهم يجتمعون عليه، ويسرعون، وإذا وصلوا إليه يريدون ضربه توقفوا فجأة، رأيت هذا المشهد، ولا جديد بالنسبة إليّ، فجاء هذا صاحبنا، وقال له ذاك: ماذا تريد؟، تأخذ سيفًا؟ قال: لا، لا، ما أحتاج سيفًا، قال: العصا؟ قال: لا، ما أحتاج عصا، قال: ماذا تريد؟ قال: ولا شيء، قال: أنت ما تعرف، قال لهم: تعالوا جميعًا، وأحضرهم كلهم، وقال فقط: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، والله العظيم، إنه ينفخهم وهم يتطايرون، ويتقلبون، كأنهم هباء، مثل الهباء، رأيتم الهباءة، إذا نفختَ هباءة، إنهم يطيرون مثل الهباء، ينفخ فيهم واحدًا واحدًا، وهم سبعة، يطيرون، ويتقلبون، يتدهده الواحد منهم، هؤلاء السحرة، فقط أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، كأني أراه ينفخ فيهم، سبعة يتدحرجون بأعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فقط، فكيف بمثل هذه الأذكار؟ كيف بآية الكرسي؟ كيف بالآيتين من سورة البقرة؟ كيف بسورة البقرة بكاملها، التي: لا تستطيعها البطَلة[5]، يعني: السحرة.

وذكرت لكم قبلُ: الذين رأيتم في مجلس، ويقولون: الطاقة والطاقة، وهم اثنان يحملان الرجل وهو جالس بأصابعهما، أمامي،قلت لهم: تعالوا احملوني، فجلست أقرأ، وهم يحاولون، قلت لهم: احملوني بأيديكم كلها وليس بأصابعكم، وما استطاعوا.

ويحدثني أحد العلماء في أحد البلاد، أنه جلس عند أناس يزعمون أنهم يحضرون الأرواح، وتخرج الشياطين وتتصور بصور آبائهم، يقول: فحضرت، وقلت: تفضلوا، طلعوا لي الآن، يقول: يسوون، ويعملون، وما يمكنهم، وفي الأخير قالوا: أنت روح قوية، ما استطاعوا أن يفعلوا شيئًا، إلى غير هذا.

فأقول: هذه الأذكار عظيمة، كثير من الناس يشتكون، ويعانون، ولكنهم في غفلة عن مثل هذا، عندنا كنوز عظيمة، لكننا نغفل عنها، أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب النوم على الشق الأيمن، رقم: (6315)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، رقم: (2710).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن، رقم: (6314)، وأبو داود، أبواب النوم، باب ما يقال عند النوم، رقم: (5045)، والنسائي، كتاب الصيام، صوم النبي ﷺ بأبي هو وأمي، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك، رقم: (2367)، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه، رقم: (3877)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: (6/ 584)، رقم: (2754).
  3. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، رقم: (5009)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، رقم: (808).
  4. أخرجه أحمد، رقم: (2447)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (2/ 948)، رقم: (5374).
  5. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، رقم: (804).

مواد ذات صلة