الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «ثم صعد بي جبريل إلى السماء الدنيا..» إلى «أنا أنا»
تاريخ النشر: ٢١ / جمادى الآخرة / ١٤٣١
التحميل: 728
مرات الإستماع: 1321

مقدمة باب بيان أن السنة إذا قيل للمستأذن

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب بيان أن السنة إذا قيل للمستأذن: من أنت؟ أن يقول: فلان فيسمي نفسه بما يعرف به من اسم أو كنية، وكراهية قوله: أنا، ونحوها.

من السنة إذا قيل للمستأذن: من أنت؟ أن يقول: فلان، فيسمي نفسه بما يعرف به من اسم أو كنية؛ ليحصل المقصود، وذلك أن الإبهام سواء بقوله: أنا، أو كان ذلك بذكر اسم غير معروف كعبد الله، أو بذكر كنية لا يعرف بها، أو يشترك فيها كثيرون، أبو عبد الله، مَن أبو عبد الله؟ فيكون ذلك من الإبهام، فيحتاج الإنسان إلى أن يُعرّف نفسه باسم، أو كنية يعرف بها إذا ذكرت، وما عدا ذلك فإنه لا يحصل به المقصود.

صعد بي جبريل إلى السماء
وذكر حديث أنس في حديثه المشهور في الإسراء، قال: قال رسول الله ﷺ : ثم صعد بي جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، ثم صعد إلى السماء الثانية فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد والثالثة والرابعة وسائرهن ويقال في باب كل سماء: من هذا؟ فيقول: جبريل[1].

يعني: طلب أن يفتح له، والسماوات لها أبواب، وهي سقف كما قال الله خلافًا لما يدعيه ويزعمه أهل العلوم الفلكية المعاصرة، يقولون: إن السماء هذا الفضاء، ويقولون: إنها غازات، ونحو ذلك، والله يقول: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء: 32].

ولها أبواب، ويصعد منها، وينزل منها الملائكة، وما أراد الله -تبارك وتعالى.

فهنا وصل إلى السماء الدنيا، فاستفتح، طلب أن يفتح له، فقيل من هذا؟ قال: جبريل، فهذا يحتمل أن يكون ذلك على سبيل الدوام، يعني: الملائكة يصعدون، وينزلون كما هو معروف.

والنبي ﷺ يقول: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون[2].

فيحتمل أنه كلما وصل واصل إلى السماء استفتح، فقيل: من؟ فيقول: فلان، ويحتمل أن يكون السؤال ورد في تلك المرة لحكمة، من هذا؟ قال: جبريل، وهذا هو الشاهد، ما قال: أنا، قال: جبريل، الاسم الذي يعرف به.

قيل: ومن معك؟ يحتمل أن يكون ذلك بكونهم قد شعروا بأحد معه، ويحتمل أن تكون السماء شفافة، فيرون من يأتي مثلاً، أو غير ذلك من الاحتمالات، لا ندخل في هذه الأمور الغيبية، كيف عرفوا أن معه أحدًا؟

نحن لا نخوض في هذه القضايا، هل الملَك في الداخل؟ هل الملك عند الباب في خارجها مما يلي الأرض مثلاً؟ الله أعلم.

فسألوه، من معك؟ فبعضهم قالوا: يحتمل أن تكون السماء شفافة، أو أنهم شعروا بأحد، مع أنهم لم يعرفوا النبي ﷺ .

قال: محمد يعني: مقصود أولئك أنهم كيف عرفوا أن معه أحدًا، فقالوا: من معك؟ وعرّفه باسمه الذي يعرف به، محمد، إذا قيل: محمد فهو عليه الصلاة والسلام.

ثم صعد إلى السماء الثانية، والثالثة، والرابعة، وسائرهن، كل ذلك يُسأل نفس السؤال، كل سماء سقف، ولها أبواب، ويحتاج إلى أن يستفتح، ويقال في باب كل سماء: مَن هذا؟.

يعني: النووي -رحمه الله- اختصر الحديث، وإلا فالحديث طويل كما هو معلوم، فيقول جبريل ذلك في كل مرة، ما يُبهم، ما يقول: أنا.

خرجت ليلة من الليالي
وذكر: حديث أبي ذر قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله ﷺ يمشي وحده، فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو ذر. متفق عليه

يعني: كأنه ينأى عن النبي ﷺ قليلاً، أو لئلا يراه، أو يشعر به؛ لأنه قد يكون النبي ﷺ أراد أن ينفرد.

يقول: فالتفتَ، فرآني، فقال: من هذا؟ هو لم يميزه في الليل، رأى هيئة إنسان، فقلت: أبو ذر[3] الحديث متفق عليه، أبو ذر ما قال: أنا.

كذلك أيضًا:

أتيت النبي ﷺ وهو يغتسل
كذلك أيضًا:
حديث أم هانئ -رضي الله عنها- وهذه أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي  بنت عم النبي ﷺ تقول: أتيت النبي ﷺ وهو يغتسل وفاطمة تستره، يعني جاءته حينما فتح مكة -عليه الصلاة والسلام-، فجعل يغتسل، فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ.

وهذا يدل على أنه لا بأس أن يقول الإنسان: أنا لكن مع ما يوضحها، أنا أم هانئ.

أتيت النبي ﷺ فدققت الباب
ولهذا جاء في:
حديث جابر قال: أتيت النبي ﷺ فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا، فقال: أنا، أنا، كأنه كرهها[1] متفق عليه.

ليس المراد من ذلك أن النبي ﷺ كره لفظة أنا لما فيها من لربما الالتفات إلى النفس كما يظن بعضهم، ويقولون: إن الذين قالوا: أنا، يعنون إبليس وفرعون، إبليس قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: 12]، وفرعون قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]، أهلكتهم أنا، وإنها مذمومة لما فيها من التعاظم، ورؤية النفس، ليس هذا هو المراد إطلاقًا، لا بأس أن يقول الإنسان: أنا وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف: 72]، كما في سورة يوسف -عليه الصلاة والسلام.

فهنا أيضًا أم هانئ قالت: أنا أم هانئ، فلا إشكال في هذا، إنما المقصود الإبهام، أنا، أنا، ونأخذ من هذا: الأدب في الاستئذان، أن الإنسان لا يُبهم، سواء كان في الاستئذان، أم في غيره، وإن كان في الاستئذان آكد، يعني: أحيانًا في غير الاستئذان يرسل لك إنسان رسالة، ما تدري من هو، يطلب منك الحضور إلى مناسبة، أو يطلب منك طلبًا، أو نحو ذلك، ولا يبين من هو، أو يقول: أخوك أبو عبد الله، كم أخًا لي يكنى بهذه الكنية؟

كثير، خلق لا يحصيهم إلا الله، مَن أبو عبد الله؟!، رسائل التهاني في العيد، كثير يرسلون، ولا يكتب شيئًا ويظن الناس كلهم يحفظون رقمه، ما تدري يأتيك هذا المطر من الرسائل، كثير منها ليس فيه أسماء، وبعض هذه الرسائل يكتب فيها كنى غير معروفة، أخوكم المحب أبو عبد الله، من أبو عبد الله؟ ما نعرف.

 ففي مثل هذا يوضح الإنسان، يقول: أنا فلان بن فلان، وإذا كان الاسم يشتبه الاسم الأول والاسم الأخير مع آخرين، ضع الاسم الثلاثي، وإذا كان الاسم الثلاثي يشترك فيه مجموعة من العائلة، خاصة في التهاني مع أنه لا يؤكد هذا في التهاني؛ لأن الأمر سهل، حتى لو ما عرفت الأمر سهل.

لكن من أراد أن يعرف بنفسه إذا كان يشترك بهذا الاسم في الثلاثي مجموعة من القرابات، أو الأسامي المتشابهة ضع الرباعي، ضع شيئًا تعرف به.

فالحاصل أن هذا من كمال هذه الشريعة، انظروا عظمة هذا الدين في طريقة الاستئذان، والعبارة التي يقولها والعبارة التي لا تحبَّذ، هل تجدون في قوانين الدنيا أشياء لها أي تعلق بهذه الأمور فضلاً عن هذه التفاصيل؟ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38].

على أحد القولين في تفسير الآية، قيل: اللوح المحفوظ، وقيل: القرآن، والأقرب: أنه اللوح المحفوظ، لكن على القول الآخر.

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] في كل شيء، في كل شأن من شئون الحياة، فالذي ينبغي أن يقابل به هذا جميعًا هو القبول عن الله -تبارك وتعالى- والتسليم وعدم الاعتراض، لا نعترض بعقولنا وآرائنا، وأذواقنا، ومواجيدنا، هذا وحي، نتقبل، ونتلقى تلقيًا كاملاً.

اليوم اتصل بي شاب يناقش في مسألة الربا، وتعجبت من هذا، كيف أن هذه الشبهات تروج على أحد من أبناء المسلمين، شبهة، يقول: الآن هذا أنا أقرضه خمسة آلاف ريال، ثم بعد خمس سنوات تكون قيمة هذا المبلغ أقل مما كانت، لماذا ما آخذ أنا مقابلا؟ جلست أبين له، وأشرح له، وذكرت له نحو خمسة أجوبة، وقلت له: يكفيك أن الله قال للذين قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة: 275] رد عليهم برد قصير وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، يكفي.

فالمسألة مبنية على التسليم، على الإذعان، ما أتى لهم بحجج عقلية، ما أتى بطرق في الإقناع، وإنما قال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون [البقرة: 275].

فإذا علم العبد أن الله عليم حكيم قبل عن الله قبولاً مطلقًا بلا تردد، ولا معارضة، التسليم الكامل، فهذه الشريعة كما ترون في هذه القضايا الدقيقة بينتها، وعلّمت الناس كل ما يحتاجون إليه، فنحمد الله أن هدانا للإيمان بهذا الدين، ومنّ علينا بهذه النعمة.

نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الحق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الاستئذان، باب إذا قال: من ذا؟ فقال: أنا (8/55)، رقم: (6250)، ومسلم، كتاب الآداب، باب كراهة قول المستأذن: أنا إذا قيل: من هذا؟ (3/1697)، رقم: (2155).

 

مواد ذات صلة