الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
الحديث على آيات الباب وحديث «الكيس من دان نفسه..»
تاريخ النشر: ٢٥ / رجب / ١٤٢٥
التحميل: 1648
مرات الإستماع: 2309

تابع الحديث عن مقدمة الباب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:  

فلا زال الكلام في باب "التفكر في عظيم مخلوقات الله تعالى وفناء الدنيا وأهوال الآخرة، وسائر أمورهما، وتقصير النفس، وتهذيبها وحملها على الاستقامة"، وكنا تحدثنا عن طرف يتصل بهذا الموضوع، وكما ذكرت فإن أطرافه كثيرة، والحديث عنه يطول، والمقصود أن الإنسان ينبغي أن يكون التفكر النافع سمة له؛ من أجل أن يحصّل المطالب العالية  في الدنيا وفي الآخرة، فيفكر فيما ينفعه، وفيما يحتاج إليه في آخرته، وفي دنياه، يتبصر في عمله، ويتبصر فيما ينتظره حينما يوافي في قبره، وحينما ينتقل إلى الآخرة، وما يصير إليه في دار الخلد إما إلى جنة وإما إلى نار، يفكر فيما يأخذه في هذه الدنيا، وما يعطيه، وما يتعامل به ويتعاطاه أنه إن أخذ شيئًا من الحرام فسيدفعه غدًا غالي الثمن في يوم لا درهم فيه ولا دينار، إنما هي الحسنات والسيئات، يفكر حينما يطلق لسانه في أعراض الناس أنه سيدفع ثمن ذلك، يفكر في هذه الأرض التي يأخذها بغير حقها أنه يطوَّق ذلك من سبع أرضين يوم القيامة، يفكر حينما يقتطع حق مسلم فإنه قد يكون ذلك سببًا لحرمانه من الجنة، ولو كان ذلك يسيرًا، يفكر في الظلم وأنواع المظالم، وأنها ظلمات يوم القيامة، ويفكر فيما يعمله من الأعمال الصالحات فإنه حينما يصوم يومًا في سبيل الله يباعد الله بينه وبين النار سبعين خريفًا -سبعين  سنة، وهكذا، ويفكر أيضاً في مخلوقات الله ؛ ليستدل على قدرته وعظمته وعلمه الشامل المحيط وما أشبه ذلك، ويتجنب أنواع التفكير الضار، سواء كان ذلك من قبيل التفكير في ذات الله ؛ لأن هذا لا يجوز لأن العقول لا تحيط بكنهه وعظمته ، فلا يجوز للإنسان أن يفكر في ذات الله، وإنما يفكر في أفعاله ومخلوقاته، ويستدل بهذه المصنوعات على عظمة الصانع، ولكنه لا يشغل قلبه بالتفكير في ذاته، كيف يده؟ كيف وجهه؟ كيف كذا؟ كيف كذا؟، فإن هذا أمر لا سبيل إلى الوصول إليه، فنحن نقف عند ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ ونؤمن بذلك على حقيقته، ولكننا لا نخوض فيما لا تبلغه عقولنا.

وكذلك يتجنب التفكير الضار الذي يدخله في أودية الوهم والخيال فيما لا طائل تحته، ولكنه يكون واقعيًّا بعيد الهمة عالي الهمة سواء في مطالب الآخرة أو مطالب الدنيا، النبي ﷺ يقول: إذا سأل أحدكم الجنة فليسأل الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن[1]، فيكون عالي الهمة في طلب الجنة، وكذلك عالي الهمة في الدنيا، لكن دون أن يغرق في الخيال، فالإغراق في الخيال لا يجلب له نفعًا، وإنما ذلك عمل البطالين، وكما يعبر ابن القيم -رحمه الله: عمل القلوب الباطولية، يعني القلوب التي تكون بطّالة لا تشتغل بالأمور الواقعية، مثل: الإنسان الذي يفكر يقول: لو وجدت كنزًا كيف سأصرفه؟، كيف سأتصرف به؟، تفكير في خيالات لا تنفعه ولا تجدي عنه شيئًا، لو صرتُ ملكًا ماذا سأصنع؟ وكيف سأفعل؟، وكيف...؟، وهكذا لو أنه فكر وقال: لو أنني حصلت على مثل ملك قارون ماذا سأفعل بهذه الأموال؟، وكيف أصرفها؟ وماذا أعطي أقاربي؟، أو يقول لقرابته: إذا حصلت على جائزة قدرها مثلاً مائة مليون ريال أنت سأعطيك سيارة كذا، وأنت سأعطيك سيارة كذا، وأنت سأعطيك أرضًا كذا وبيتًا كذا، يسبح في الخيالات، فهذا لا ينفع.

وكذلك أيضاً الذي يغرق في المبالغة والخيال مثل الذي يقول: إنه سيشتري مثلاً مثل هذا الماء بنصف ريال ثم يبيعه بريال ثم يبيعه بريال ونصف، ويشتري ثانيًا وثالثًا ورابعًا وخامسًا وعاشرًا ثم يصير يملك الملايين من خلال هذا، نقول: هذا إغراق الخيال، فينبغي للإنسان أن يكون واقعيًّا في التفكير.

كذلك من التفكير الضار أن يفكر الإنسان في الجريمة والمعاصي، وكيف يتوصل إلى الشهوات المحرمة، فكل هذا من التفكير الذي يضر ولا ينفع، فالتفكير طاقة لا تتوقف يمكن للإنسان أن يغمض عينه ويسد أذنه ولكن التفكير لا يتوقف؛ ولهذا القلب يقال له: قلب؛ لكثرة تقلبه، ويقال له: فؤاد؛ لكثرة تفؤّده، أي توقده بالخواطر والأفكار والإرادات فهو لا يتوقف أبداً، فإما أن يفكر بالخير، وإما أن يفكر بالشر، فينبغي للإنسان أن يراعي هذا المعنى، وأن يفكر فيما يجدي له نفعًا ويقربه إلى الله -تبارك وتعالى.

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ...}

وهنا ذكر الآيات قال: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ [سبأ:46] بخَلّة واحدة، بشيء واحد، أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46] يقول لهم: قوموا تفكروا سواء كان ذلك في صحة ما جاء به النبي ﷺ وصحة رسالته أو في وحدانية الله -تبارك وتعالى، وكل بحسبه، تفكروا، من الناس من يكون التفكير الأنفع في حقه هو الانفراد "فرادى"؛ وذلك لئلا يشوش عليه أحد أو يصرف تفكيره من الوجه الصحيح إلى الوجه المنحرف، ومن الناس من يحتاج إلى أن يرجع لغيره ويتوجه تفكيره بتفكير آخر يجتمع معه ويعتضد معه، فيكون ذلك أدعى إلى الوصول إلى الصواب والحق، إذا وجد الصدق في طلب الحق، فالمقصود أنهم يتفكرون فرادى ويتفكرون مجتمعين للوصول إلى الحق.

قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ...}

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191] النبي ﷺ لما نزلت عليه آيات آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر[2].

فالمقصود أن تعاقب الليل والنهار وهذه الأفلاك العظيمة والسموات والأرض والجبال وما أشبه ذلك كما في آية البقرة، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، فالمقصود أن مثل هذه الأشياء لولا الإلف لبقي الإنسان ساجدًا لله ولا يملك إلا أن يخر ساجدًا لعظمة هذه المخلوقات التي تدل على عظمة الخالق، لو تصورنا -كما قيل- أن أحدًا منذ ولد وهو في قبو تحت الأرض لم ير الضياء ولم ير الشمس ولم ير الأرض ولا الجبال ولا البحار فإنه لو خرج إلى الأرض فماذا سيصنع بعد أن يفهم ويعقل؟، كيف سيصنع؟ سيجلس ينظر التربة ويلمس الأرض وينظر إلى الجبال فإذا خرجت الشمس يرقبها حتى تغرب، فإذا خرجت النجوم جلس يرقبها واحدًا بعد الآخر حتى يصبح، وهو يتعجب من هذا الخلق العجيب، ولذلك نحن لما ألفنا هذه الأمور ما عادت تؤثر فينا؛ ولذلك الذي يرى البحر لأول مرة يتعجب من خلقه، والناس الذين لم يروا الإبل يتمنون رؤيتها بل في بعض مواقع الفتاوى في الإنترنت تجد رسائل ورأيت شيئًا من هذا في بعض المواقع رسائل يرسلها بعض الغربيين لاسيما فئة الشباب نريد أن نرى صورة الجمل، ما رأوه من قبل، ولذلك لربما تجد أن بعض هؤلاء الذين لا يوجد في بيئتهم إذا رأوه في مكان اجتمعوا عليه وجعلوا ينظرون ويتعجبون من خلقه العجيب، ولكننا ألفنا مثل هذه الأشياء فما عادت تؤثر فينا؛ ولذلك لو كشف لنا عن أمور لم نألفها، لأول مرة نشاهدها، لو قيل للإنسان الآن: أمامك عملية الهضم كيف تتم على الطبيعة تصوير مثلاً قد يتأثر، أمامك عملية تكوين الجنين قد يتأثر، أمامك عملية تشريح لقضايا معينة الخلايا أو المخ أو نحو ذلك أو الشعيرات أو كذا يتأثر كثيرًا، وهكذا في الأمور يسمع عن التدخين كثيرًا، وحينما يُعطَى رئة حقيقية سوداء متفحمة أو قلبًا متضخمًا أو نحو هذا يتأثر كثيرًا حينما يشاهد هذه الأشياء، الإنسان الذي يأتي لأول وهلة أمام جثة إنسان تشرح في المعمل، دخل الطب لأول وهلة يغمى عليه، لربما ذاك اليوم ما يتغدى، لكن الطبيب الذي ليس له مهنة إلا بهذا المشْرح أبداً يخرج منها ويذهب ويأكل ويرجع يكمل، ولربما في مشرحته يأكل ويشرب وليس عنده أي مشكلة؛ لأنه ألف مثل هذه الأشياء، ولذلك ترى الجزار حينما يذبح العشرات في اليوم من هذه البهائم ونحو ذلك الأمر طبيعي بالنسبة إليه، لكن لو جئت بطفل أول مرة يرى هذا المشهد لربما ما يأكل اللحم طيلة حياته وتتراءى له صورة هذا الحيوان والدم الذي ينزل منه وما أشبه ذلك، لكن ذاك لا تحرك فيه ساكنًا، وهكذا الأماكن -أجارنا الله وإياكم والمسلمين جميعًا- التي كثرت فيها الحروب تجد جثث الناس والدماء والأشلاء وكذا أمر طبيعي كأنهم يحملون متاعًا من الأرض أو حطبًا أو نحو ذلك، بينما في بيئة لا يوجد فيها شيء من هذا لو رأى  لربما جرحًا يَثْعب دمًا أغمي عليه إذا شاهده، فالإلف هو الذي يجعل الإنسان ينشدّ إلى المشاهد العجيبة والغريبة أو ينصرف عنها.

قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ...}

 وكذلك في قوله: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۝ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:17-18] تكلمت عليها هذه أمس، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا [يوسف:109]، و[غافر:82]، و[محمد:10] والآيات في الباب كثيرة.

الكيّس من دان نفسه
ومن الأحاديث: الحديث السابق: الكيّس من دان نفسه.

يقصد: الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني[1]، والحديث فيه ضعف، لا يصح، لا يثبت إسناده عن رسول الله ﷺ، وقد تكلمت عن التفكر بكلام طويل أطول من هذا في الكلام على الأعمال القلبية.

هذا، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المعتبِرين المتفكرين، وأن يجعل قلوبنا حية، وأن يعيننا وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. رواه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2459)، وابن ماجه، أبواب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم (4260)، وأحمد في المسند، برقم (17123)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لضعف أبي بكر بن أبي مريم، وباقي رجال الإسناد ثقات"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة، برقم (5319)، وفي ضعيف الجامع، برقم (4305).

مواد ذات صلة