الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث «بادروا بالأعمال فتنًا..»
تاريخ النشر: ٠١ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 1614
مرات الإستماع: 3564

بادروا بالأعمال الصالحة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحديث الأول من الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في "باب المبادرة إلى الخيرات، وحث من توجه لخير على الإقبال عليه بالجد من غير تردد" هو حديث أبي هريرة ، أن رسول الله ﷺ قال: بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[1]رواه مسلم.

فقوله ﷺ: بادروا بالأعمال الصالحة أي: سارعوا إليها قبل أن تصرفكم عنها الصوارف، وهذا كقوله ﷺ: اغتنم خمسًا قبل خمس -وذكر الحياة قبل الموت-حياتك قبل موتك، وعافيتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك[2].

فالمقصود أن الإنسان لا يدري ما يعرض له، ففي أوقات العافية والفراغ والإمكان ينبغي أن يستغل ذلك قبل أن يعجز عنه، وهذا العجز قد يكون بسبب الأشغال وتكاثرها على الإنسان، وقد يكون بسبب المرض أو الشيخوخة أو يكون بسبب أمور تلهيه أو تطغيه، أو بسبب فتن عامة تشغل الناس عما هم بصدده من عبادة الله ، ولذلك صح عن النبي ﷺ أنه قال: عبادة في الهرْج كهجرة إليّ[3]، عبادة في الهرْج، والمقصود بالهرج هو القتل، وبعضهم يفسره باختلاط الآراء واختلاف الناس، وبين التفسيرين ملازمة، وذلك أن اختلاف الآراء واختلاط ذلك على الناس، وكثرة التفرق والانقسام يؤدي إلى الاقتتال غالبًا، فالمقصود أن وقت الهرج الذي هو القتل الكثير -الأحداث الكبار، الفتن العظام- ذلك يشغل الناس عن عبادة الله ، فتنشغل قلوبهم، والقلب إذا انصرف إلى شيء وتوجهت همته إليه فإنه لا يبقى فيه محل لعبادة الله والتقرب إليه، فيشغل الناس بالقيل والقال والجدال والتحليلات والأخبار وما أشبه ذلك، هذا مْن سلم من أن يلِغَ ويلج في مثل هذه الفتن بعمله، يعني البعيد لربما ينصرف جهده وهمته بالقيل والقال فيشغله ذلك عن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ينصرف عن عبادة الله والتقرب إليه.

ولذلك فإن أهل العلم ذكروا أن الفتن التي تقع بين الناس، أو أن الحروب التي تقع يكثر بعدها الاختلاف، فما تبقى قلوب الناس كما كانت عليه قبل ذلك، ويكثر في هذه القلوب التحول والتقلب من حال إلى حال، وانظروا إلى ما جرى بين أصحاب النبي ﷺ من الفتن وما حصل لمن بعدهم وصار الرجل يُقدم على أمر لربما لم يخطر بباله بحال من الأحوال أن يقدم عليه في يوم من الأيام، وصار الرجل لربما قتل خيار الناس كما حصل ذلك لابن ملجم من الخوارج حينما قتل عليًّا ويرى أنه قد أقدم على عمل هو أفضل الأعمال، وهكذا تختلط الأمور، وتختل الموازين، ويصبح على بصر الإنسان غشاوة، أو يُصرف عن الحق كالذي يلبس نظارة ملونة فيرى هذه الأشياء بلون النظارة التي يلبسها، ولو أنه غيرها إلى لون آخر لتحول ذلك إلى لون نظارته الجديدة، فهكذا يتقلب الناس ثم تحصل الجراءة أيضًا، عادة في مثل تلك الأحوال والأوقات تحصل الجراءة لدى الكثيرين، فيجتهد من يصلح ومن لا يصلح، ويتكلم من يحسن ومن لا يحسن، وكل يريد أن يشارك أو أن يدلي بدلوه، ويتكلم عن دين الله الرويبضة، ويتكلم عنه الصحفي، ويحصل بسبب ذلك من التخليط والتخبيط ما لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى، ونحن نرى البلاد التي تقع فيها الحروب -أجارنا الله وإياكم وجميع المسلمين من كل مكروه.

تجد الناس فعلاً يتقلبون صباح مساء، يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي كافرًا ويصبح مؤمنًا، يتقلبون تقلبًا شديدًا فتجد أن هذا الإنسان في ذلك اليوم إذا أمسى ينخرط في صف الكفار ويكون عونًا لهم ومعهم، وفي عسكرهم وقد غير حاله في اليوم الآخر، وهكذا يستهويه الدينار والدولار فيتقلب، فهو بحسب ما يُعطَى، فيحصل بسبب ذلك التلون والتقلب ربما مروق عن الإسلام وخروج عنه؛ ولهذا في قوله ﷺ: فتنًا كقطع الليل المظلم يحتمل أن يكون المراد أنها كساعات الليل المظلم كلما انقضت ساعة مظلمة جاءت بعدها ساعة مظلمة أخرى وهكذا، أو أن المراد بذلك: أنها فتن مظلمة لا يكاد يتبين الحق فيها للناس.

قال ﷺ: يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا يحتمل أن يكون المراد أن ذلك من كفر النعمة، لكنه بعيد، فذكر النبي ﷺ الإيمان وقابله بالكفر مما يدل على أنه الكفر الحقيقي المعروف الذي هو الخروج عن الإسلام، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا هذا كأنه تفسير لهذا التحول والتقلب السريع من كونه يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا أنه بمجرد ما يلوح له الطمع هو على أتم الاستعداد أن يُقدم على أعظم الأمور وأشنعها بحسب ما يعرض له، فينبغي للإنسان أن يستغل الأوقات أوقات العافية، وأوقات فراغ القلب، وفراغ الجوارح وعافية البدن فيشتغل بطاعة الله ، ويبادر ويسارع، وتكون أنفاسه في طاعة مولاه ، وأن يبتعد عن كل ما يمكن أن يوقعه في محادة الله -تبارك وتعالى، فقد يكفر الرجل وهو لا يشعر، وقد يضل وهو يحسب أنه على هدى.

كيفية السلامة من الفتن

وإنما السلامة في هذا هو أن يعرف الإنسان حقائق ما أنزله الله وبعث به رسوله ﷺ فيتمسك بها، وما كان عليه أصحاب النبي ﷺ، فإن لم يكن من أهل العلم فإنه يسأل من يثق بدينه وعلمه، ويسأل في ذلك الأكابر وهم مَن عُرفوا بالتحقق في باب العلم، من لهم فيه دراية ومعرفة ورسوخ مع ديانة راسخة وتقوى لله -تبارك وتعالى- فيسألهم، وإذا التبس عليه أمران فإنه في عافية الله - يبقى يستمسك في الأمور التي يعرفها ويعهدها، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويطيع الله ورسوله ﷺ ويدع ما التبس عليه واشتبه، فإن الله لن يسأله عن تلك الأمور والدقائق والمسائل الخفية التي لربما لا يقع على الصواب فيها، فتكون زلته عظيمة، ولا يغرر الإنسان بنفسه؛ لأنه ليس له إلا نفس واحدة فإذا أزهقت هذه النفس وذهبت فإنه قد يندم ولا ينفعه الندم، فالنصيحة النصيحة أن نتمسك بما نعرف وما نعلم وما نتيقن ونستوثق، وأما الأمور الدقائق والأمور الخفية وما أشبه ذلك فإنه لا يخوض فيها من لم يتأهل لذلك، فإن الله لن يحاسبه عليها، ولو أن الناس عملوا بمثل هذا لاستراحوا من بلاء كثير عظيم، وخرجوا من كثير من الإشكالات، ومن الورطات التي لربما لا يعرفون طريق الخروج منها.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه

  1. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن، برقم (118).
  2. رواه النسائي في السنن الكبرى، برقم (11832)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1077).
  3. رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب فضل العبادة في الهرج، برقم (2948).

مواد ذات صلة