الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
حديث "أرأيت إن قتلت فأين أنا؟.." إلى «من يأخذ مني هذا؟..»
تاريخ النشر: ٠٣ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 1510
مرات الإستماع: 3895

أرأيتَ إن قُتلتُ فأين أنا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي "باب المبادرة إلى الخيرات، وحث من توجه لخير على الإقبال عليه بالجد من غير تردد" أورد المصنف -رحمه الله-:

حديث جابر قال: قال رجل للنبي ﷺ يوم أُحد: "أرأيتَ إن قُتلتُ فأين أنا؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل"[1]متفق عليه.

قال رجل للنبي ﷺ يوم أحد، بعض أهل العلم يقولون: إنه عمرو بن الحمام، ولكن المعروف في السيرة أن عمرو بن الحمام إنما وقع  له ذلك في يوم بدر، وعلى كل حال هذا يسأل النبي ﷺ: "أرأيتَ إن قُتلتُ فأين أنا؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل"، يعني أن هذا الرجل ألقى هذه التمرات التي كن في يده، استطال الزمان الذي يقضيه في أكلها، استطال الوقت، استطال المدة يعني، التمرات هذا جمع قلة، الجموع  -كما هو معلوم: جمع كثرة وجمع قلة، لو قيل: فألقى تمرًا كان في يده يمكن أن يكون هذا التمر كثيرًا، يمكن أن يكون أصواعًا، لكن حينما يقول: تمرات فمعنى ذلك أنها قليلة معدودة، فأكل هذه التمرات كم يستغرق من الوقت؟، ثلاث دقائق، أقل بقليل، أكثر بقليل، المسألة لا تتجاوز هذا الزمن اليسير، ومع ذلك يستطيل هذه المدة، فشاهده من هذا الباب -المبادرة إلى الخيرات وحث من توجه لخير عل الإقبال عليه بالجد من غير تردد- أن هذا الرجل لا يريد أن يفرط بلحظة حتى تلك اللحظة التي يأكل فيها، وهو بحاجة إلى هذا الأكل؛ من أجل أن يتقوى على الجهاد، ومع ذلك يستطيل هذه القضية، إذا أردنا أن نتصور هذا كيف تستطال مثل هذه الأمور اليسيرة حتى يقدم الإنسان مقبلاً بوجهه على العدو حتى يُقتَل، انظر حينما يكون الإنسان يتشوق إلى شيء تطلبه نفسه طلبًا شديدًا فإنه يستكثر الزمان القليل والوقوف اليسير في سبيل إدراك هذا المطلوب من مطالب النفس، مطالب الدنيا من الشهوات، الإنسان يستطيل الوقت اليسير، يعني لو حُبس عن هذا الشيء الذي يتشوف إليه إما لقاء محبوب أو معافسة شيء من الشهوات أيًّا كانت، فإنه إن كانت نفسه تتوق إليه جدًّا فإنه يستطيل الزمن اليسير ويتطاول عليه هذا الوقت اليسير فتكون الدقيقة كأنها ساعات وليست ساعة، ويكون اليوم كأنه أشهر، وهذا شيء مشاهد، وقد رأيت من أحوال بعض من يسألون عن بعض القضايا ممن عهده بعيد بأهله وأهله قدموا عليه في البلد التي يعمل فيها، يسأل عن بعض القضايا، تجد أن هذا الإنسان يستطيل اللحظات، يستطيل الثواني، حتى إن بعضهم لم يتمالك حتى بدأ يتصرف بالتقبيل ونحو ذلك أمام الناس في المطار، يقول: من غير شعور، وبعض السلف كما هو معروف فسر قوله: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [سورة النساء:28] بعضهم قال: لا يصبر عن النساء.

فالمقصود مثل هذا أو الطعام أو الشراب أو لقاء من يحب أو نحو ذلك مما تشوف نفسه إليه يستطيل اللحظات، لا يتحمل أن يحبسه أحد، لو أن أحدًا طلب منه قال: لو سمحت أريد أن أقف معك عشر  دقائق، ربع ساعة، لربما يرد عليه وهو يمشي يقول له: في وقت آخر -إن شاء الله، فهذا الرجل لقوة يقينه وصدق إيمانه رأى أن الوقت الذي يستغرق في أكل هذه التمرات أنه كثير، فما بال العبد إذا قام إلى الصلاة إذا أذن المؤذن المفترض أن الواحد منا يكون في غاية الشوق لمناجاة الله ومع ذلك يخشى الإنسان أحيانًا أن يصدق عليه وصف المنافقين، وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى [سورة النساء:142] يؤذن المؤذن وتجد أن بعضنا يتباطأ غاية التباطؤ، ولربما يتقلب على فراشه حتى تقام الصلاة، ولربما فاتته الركعة الأولى أو فاتته الصلاة جميعًا وهو جالس لم يتحرك، فلو كان مثل هذا يتشوق إلى مناجاة الله لو كان يوقن لما تأخر وما تردد، وقل مثل ذلك في سائر الأعمال.

أي الصدقة أعظم أجرًا
حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أي: الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: أنْ تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمُل الغنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغتِ الحلقومَ قلتَ: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان[2]متفق عليه.

وجاء رجل إلى النبي ﷺ في حديث آخر يشبه هذا إلا أنه يوجد في جواب النبي   ﷺ بعض المغايرة، أن السائل أبو ذر  فيحتمل أنه حديث واحد، ويحتمل أنهما واقعتان.

انظروا إلى هذا السؤال أي الصدقة أعظم أجرًا؟ يعني هؤلاء يستشعرون أنهم في تجارة مع الله، هذا في ميدان الجهاد يقول: أين أنا إذا قتلت؟ ثم يسارع هذه المسارعة، وهذا يسأل أي الصدقة أعظم؟ القضية أن هذه الصدقة ليست عبئًا على كاهل الإنسان يريد أن يتخلص منه، أحيانًا بعض الناس يكون عنده شيء إما صدقة أو زكاة فهو يريد أن يعطيها من أجل أن يرفع ذلك عن كاهله، كأنه شيء يثقله ويشغل باله فيريد أن يتخلص منه، هذه تجارة مع الله، تنظر في أي المكاسب، ما هو الأنفع والأجدى والأعظم أجرًا إذا كنت أمام خيارات ما هي الحاجة الأشد؟ إذا كان الإنسان أمام مساجد متعددة كم يصلي في هذا وكم يصلي في هذا؟، كم مساحة هذا وكم مساحة هذا؟، المسألة تجارة مع الله، فهنا يقول: أي: الصدقة أعظم أجرًا؟، لاحظ هنا ما ذكر له متعلق الصدقة من جهة المتصدق عليه أو الوجه الذي تبذل فيه الصدقة، يعني ما قال له: الماء مثلاً، لما سئل ﷺ أي الصدقة أفضل؟ قال: الماء، وما ذكر له هنا سبيلاً معينًا، وإنما بين له متعلق الصدقة بالنسبة للحال حال المتصدق، وهذه الحال تختلف فأحيانًا كما هنا: وأنت صحيح شحيح، وأحيانًا حينما يكون الإنسان: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [سورة المؤمنون:60]، فهذا تعظُم به الصدقة، بخلاف ذاك الذي يتصدق وكأنه يمتن على الله ، كأنه مُدِل بهذه الصدقة على ربه -تبارك وتعالى.

فالمقصود أن النبي ﷺ ذكر له هنا متعلقًا يتصل بالحال التي تقوم في قلب المتصدق أو الحال التي تتعلق به قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمُل الغنى، وأنت صحيحأي معافى؛ لأن الإنسان إذا مرض انهشمت نفسه، وانكسرت وقرّب الموت، فيمكن أن تجود يده بالصدقة؛ لأن نفسه تكون منكسرة، يرى الحياة بمنظار آخر، ينظر إلى الآخرين من نافذة المستشفى إلى الطرق إلى الناس وهم يمشون فيرى الناس غير ما كان يراهم قبل ذلك، الصورة تغيرت، المناظر تغيرت لما ذهبت عافيته، فهذه الصدقة ليست بتلك، نعم هو يؤجر عليها ولكن ليست بهذه المنزلة.

صحيح شحيح؛ لأن الإنسان إنما يكون شحيحًا إذا كان في حال العافية، والله يقول: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128]، أضافه إليها؛ لشدة تمكنه وتعلقه بها، وقد بينا أن المراد بالشح أشد البخل، يعني أعظم من البخيل، فهو الذي يمسك ما في يده ويتطلع إلى ما في أيدي الآخرين بل قد يضيق ذرعًا إذا رأى أحدًا من الناس يتصدق، يقول: يلعبون بالمال، هؤلاء ما تعبوا فيه، يضيعون الأموال.

فهنا: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى يعني: أن النفس يكون لها حضور قوي وتعلق بالمال فهذا حينما تجود النفس به يكون أعظم أجرًا، وقد ذكرت في درس الليلة الماضية أن الدافع إذا كان قويًّا إلى المعصية فإن ذلك يكون دون من كان دافعه إلى المعصية ضعيفًا، وإذا كان الدافع إلى الطاعة قويًّا يكون دون من كان دافعه إليها ضعيفًا، إذا كان الدافع إلى المعصية قويًّا فأحجم الإنسان عنها ففي هذه الحال يكون أعظم مرتبة ومنزلة وأجرًا، رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، ما هو مثل إنسان أشيمط زانٍ، فهذا الذي يكون بهذه المثابة أشيمط وزانٍ قد انطفأت شهوته يكون وزره أعظم من غيره، وهكذا يكون أجر ذاك الذي كان دافعه إلى المعصية أعظم فكف، شاب نشأ في طاعة الله هذا أعظم من شيخ كبير في السن فتاب إلى الله واستقامت أحواله.

وهنا هذا الإنسان الذي يتصدق وهو صحيح شحيح ليس كالإنسان الذي يتصدق وهو عند الموت، في وقت النزع، في مرض الموت فإن مثل هذا تكون الدنيا قد أدبرت خلفه، فلم يكن له متعلق بها، فهو يمكن أن يتصدق ويجود، بل قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تبارك وتعالى: وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [سورة المنافقون:10] إلى آخر الآية: "ما من أحد يكون عليه حق لله من صدقة من زكاة، من نفقة واجبة، أو حج ثم يموت إلا تمنى الرجعة، فقالوا: يا ابن عباس اتق الله، إنه لا يتمنى أحد الرجعة وله حظ عند الله، فقرأ عليهم هذه الآية"[3].

فالمقصود أن الإنسان في تلك الحال يتمنى لو أنه أنفق، لو أنه تصدق لكن لا يكون كهذا الذي في حال صحته وعافيته، قال: ولا تمهل حتى إذا بلغتِ الحلقومَ الحلقوم هو مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام، يقول: إذا بلغتِ الحلقومَ قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا أموال الناس عنده ولا يؤدي هذه الحقوق، بل قال بعض السلف: من كان عليه دين فجاء الأجل ولم يوفه وهو يقدر على الوفاء فكل ما يكتسبه من هذا المال فهو سحت، يعني: بعد حلول الأجل، لو أنه قال له: إلى سنة، إلى نهاية شهر كذا، فأبقاها عنده ستة أشهر، سنة، سنوات، كل ما يكتسبه من هذا المال فهو سحت، يتّجر بأموال الناس بغير حق.

من يأخذ مني هذا السيف

الحديث الذي بعده هو:

حديث أنس أن رسول الله ﷺ أخذ سيفًا يوم أحد فقال: من يأخذ مني هذا السيف؟، فبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا، هم ظنوا أن هذا السيف يؤخذ هكذا من غير مطالبة بلوازم تلزم آخذه وتبعات تترتب على أخذه، فقال: فمن يأخذه بحقه؟، فأحجم القوم، فقال أبو دجانة ، وأبو دجانة هو سِماك بن خرشة، واشتهر بكنيته وهو من الأنصار قال: أنا آخذه بحقه، فأخذه ففلق به هام المشركين"[4]رواه مسلم.

فلق به هامهم يعني شق به رءوسهم، وجاء في بعض رواياته: أنه سأل النبي ﷺ فما حقه؟ فذكر له النبي ﷺ هذا، أن يضرب به هام المشركين حتى ينثني، فأخذه وربط عصابته الحمراء فقالت الأنصار: ربط أبو دجانة عصابة الموت، يعني أن الرجل مقبل على الموت، مقبل على الشدة والأهوال، وركوب الأخطار من أجل أن يحقق هذا، جاء في بعض كتب السيرة أن سعد بن أبي وقاص كأنه وجد في نفسه أن النبي ﷺ ما أعطاه، وأعطاه أبا دجانة، فتبعه ينظر ماذا يصنع، فنظر إليه وإذا به يخرج هذه العصابة ويربط بها رأسه ويعصبه، ثم بعد ذلك استقبل المشركين وجعل يضربهم بهذا السيف على رءوسهم ويتمثل ببيتين من الشعر:

أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفحِ لدى النخيلِ

إلى آخر ما قال.

انظروا هذه الرغبة فيما عند الله والعمل الصالح وما إلى ذلك، وبالمناسبة فإن سِماكًا لما مرض صار وجهه يتهلل، فقال له أصحابه: ما بك؟ فذكر لهم خصلتين هو فرِحٍ بهما، المتوقع أنه سيقول: شهدت بدرًا، وأخذت السيف من النبي ﷺ بحقه يوم أحد وفلقت به هام المشركين، ما ذكر هذا ولا هذا، وإنما ذكر لهم أمرين اثنين آخرين: ذكر لهم أنه يبيت وليس في قلبه غش ولا دغل، وليس بضاغن على أحد من المسلمين، انظر كيف صارت هذه الخصلة بهذه المثابة عنده مع أنه حصّل هذه المراتب العالية التي لم تحصل لكثير من الصحابة ، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد، برقم (3820)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، برقم (1901).
  2. رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب أي الصدقة أفضل وصدقة الشحيح الصحيح، برقم (1353)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، برقم (1032).
  3. انظر: الدر المنثور، للسيوطي (8/ 179)، وتفسير ابن كثير (8/ 133).
  4. رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي دجانة سماك بن خرشة ، برقم (2470).

مواد ذات صلة