الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
التعليق على مقدمة الباب
تاريخ النشر: ١٣ / رجب / ١٤٣١
التحميل: 1050
مرات الإستماع: 1445

مقدمة باب جواز البكاء على الميت بغير ندب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب جواز البكاء على الميت بغير ندب ولا نياحة.

يقول: "أما النياحة فحرام، وسيأتي فيها باب في كتاب النهي -إن شاء الله تعالى، وأما البكاء فجاءت أحاديث كثيرة بالنهي عنه، وأن الميت يعذب ببكاء أهله، وهي متأوَّلة، ومحمولة على من أوصى به، والنهي إنما هو عن البكاء الذي فيه الندب، أو النياحة، والدليل على جواز البكاء بغير ندب ولا نياحة أحاديث كثيرة، منها: ... إلى آخره".

"باب جواز البكاء على الميت"، البكاء يكون بدمع العين، ولربما يكون معه صوت يسمع، لكنه لا يخرج إلى حد النياحة، فهذا جائز، وسيأتي ما يدل عليه من الأحاديث، وقد سبق الإشارة إلى هذا في الليلة الماضية.

"بغير ندب ولا نياحة"، ندب الميت: واجبلاه، واركناه، وكما يقول بعضهن أو بعضهم -وغالب ما يكون من النياحة من قبل النساء: يا مرمل النساء، ويا ميتم الأطفال، يعني: لشجاعته، أنه يقتل الرجال، يا مرمل النساء، ويا ميتم الأطفال، أو تقول مثلًا: يا كاسي العرايا، ويا مطعم الجوعى، ونحو ذلك من العبارات التي يقولها أهل النياحة، على سبيل الندب للميت، يا فلان يعني: بأوصافه، واركناه، واجبلاه، واظهراه، يقولون ذلك للميت، فمثل هذا لا يجوز.

وكانوا يستأجرون المرأة النواحة، نسأل الله العافية، من أجل أن تنوح إذا مات لهم ميت، يعني: الناس تتضاعف مصيبتهم بهذا البكاء، ورفع الأصوات، وما إلى ذلك، وتعظم، وتشتد، فتنزعج القلوب لذلك غاية الانزعاج، ثم بعد ذلك يأتي هؤلاء بامرأة -نسأل الله العافية- تبكي بأعلى صوتها، وتنوح.

والنياحة لا تكون فقط بما تقوله النائحة، بل تكون أيضًا بالفعل المصاحب لذلك، من نتف الشعر، وشق الجيب، ولطم الخد، وما أشبه ذلك مما قد تفعله بنفسها، وقد يفعله بعض الضعفاء من الرجال، ولربما ألقى بنفسه مرارًا على الأرض، ولربما ضرب برأسه على الأرض، والناس يحملونه، ويحاولون منعه، وهو يلقي بنفسه على الأرض، ويصيح بأعلى صوته، هذا ضعف، وهو وإن كان قليلا في الرجال إلا أنه يوجد، وهو في النساء أكثر، والنبي ﷺ أخبر أن النائحة إن لم تتب أنها تحشر يوم القيامة وعليها سربال من قطران، -نسأل الله العافية، ودرع من جرب[1]، وكان مما أخذ في بيعة النساء ألا ينحن، ألا تنوح المرأة[2].

وعلى كل حال، هنا يقول: "أما النياحة فحرام"، وهذا بالاتفاق، لا إشكال فيه.

"وسيأتي فيها باب في كتاب النهي -إن شاء الله، وأما البكاء فجاءت أحاديث كثيرة بالنهي عنه، وأن الميت يعذب ببكاء أهله، وهي متأوَّلة" لماذا متأوَّلة؟، أما الأحاديث التي جاء فيها أنه يعذب ببكاء أهله فإنه قد يُشكل على ذلك ما جاء في قوله -تبارك وتعالى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم:38]، فالإنسان لا يتحمل ذنب غيره، فإذا مات الميت، وبكى عليه أحد، كيف يحاسب على بكاء غيره؟ من هنا العلماء بحثوا لها عن جواب، وعن تخريج، فحملوها على معان متعددة.

يقول: "وهي: متأوَّلة، ومحمولة على من أوصى به" هذا على قول النووي -رحمه الله، وقال به جماعة، قالوا: إذا أوصى بالنياحة، كما قال أحدهم:

إذا متُّ فانعيني بما أنا أهلُه وشُقِّي علىّ الجيب يا ابنةَ معبدِ

فهذا يوصي إذا مات أن تنعيه، وأن تبكيه بما هو أهل له في نظره، وأن تشق الثوب عليه، ويندبها بذلك، فيقول: يا ابنة معبد، فلا شك أن الإنسان إذا أوصى بأن يناح عليه أن هذا من عمله، أوصى بذلك، هو الذي أمرهم به، فيتحمل من أوزارهم، وهذا لا إشكال فيه، هذه الصورة لا إشكال فيها.

وبعضهم يقول في الأحاديث الواردة في أنه يعذب ببكاء أهله: ومعه أيضاً إذا علم أنه من عادتهم النياحة ولم ينههم عن ذلك، يعرف أنهم ينوحون فما نهاهم عن هذا، فكأنه مقر لهم على العادة، ويعلم أن هذا سيُفعل له، فيعذب ببكائهم، ويكون العذاب على هذا بسبب النياحة.

وعائشة -ا- لما بلغها حديث ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، لم توافقه على هذا، وحملت الحديث على محمل آخر، وذكرت أن ابن عمر أخطأ في ذلك، وأن النبي ﷺ قال ذلك في يهودية ماتت، فكانوا يبكون عليها[3]، فالذي حصل أنه أخبر بأنها تعذب، وأنهم يبكون عليها، يعني: أن هذا الأمر هو وصف النبي ﷺ ما قع، ليس بسبب البكاء، هو يخبر عن حالها أنها تعذب، وعن حالهم أنهم يبكون، فهما قضيتان منفصلتان عند عائشة -ا، أن العذاب ليس بسبب البكاء، لكن هو يخبر عن حال الحي والميت، فالميت يعذب بسبب كفره وضلاله، أي: هذه اليهودية، وأن هؤلاء في الواقع يبكون عليها، وهي في شغل عنهم وعن بكائهم بسبب كفرها، يعني أن القضية منفصلة، ليس العذاب بسبب البكاء، هذا عند عائشة -ا.

وعمر لما طعن دخل عليه صهيب يبكي، ويقول: واأخاه، فقال عمر: تقول هذا وقد قال النبي ﷺ: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه[4]!.

ولما ماتت بنت لعثمان بن عفان بمكة، شهدها ابن عمر وابن عباس، فقال ابن عمر  لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء، وقد قال النبي ﷺ: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه[5]، يقوله لأخيها، ألا تنهى النساء، يعني كأنه سمع أصوات النساء يبكين.

ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك بسبب حزنه وشفقته وتألمه لحالهم، يعني: الميت يشعر بهم، فلما يراهم يبكون يتألم، ويتعذب، يعني: لا يتعذب من قبل الملائكة، أو من قبل عذاب الله ، لا، ولكن يتعذب حينما يرى أهله في هذه الحال، فيتألم لهم، هذا قال به بعض أهل العلم، أنه يعذب بهذا المعنى، واستندوا إلى بعض الروايات لو صحت.

وعلى كل حال، كل هذه المخارج والمحامل والتأويلات لا تعارض قوله -تبارك وتعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ۝ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ۝ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۝ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:36-39]، فهو: لا يعذب بذنب غيره، ولا بمعصية غيره، ولا بجرم غيره، ولكن هذه المحامل محتملة، وإن كان بعضها أقرب من بعض، لكن كل هذه أو أغلب هذه المحامل لا تدل على أن البكاء محرم، والنبي ﷺ كما سيأتي دمعت عيناه على ابن بنته زينب، زوجة أبي العاص بن الربيع [6].

فعلى كل حال، النووي -رحمه الله- حمله على هذا، قال: "والدليل على جواز البكاء بغير ندب ولا نياحة أحاديث كثيرة"، وهذا صحيح.

فالخلاصة التي نخرج بها: النياحة حرام، وما ورد من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه لا يحمل على مجرد البكاء العادي، وإنما بمعنى النياحة، أو إذا كان قد أوصى أن يناح عليه، أو أنه يتألم لهم، أو نحو ذلك من المحامل التي ذكرت، والله تعالى أعلم.

لكن ذكر البكاء فقط في الحديث، يعني في قوله: إنه ليعذب، وإنهم يبكون عليه[7]، فذكر البكاء، ولم يذكر النياحة، ونهي الصحابة كان عن البكاء، يعني: عمر لما نهى صهيبًا، وابن عمر لما أمر عمرو بن عثمان أمره أن ينهى عن البكاء، كل هذا عن البكاء، فهذا ماذا يفهم منه؟ هل يفهم أن التعذيب على مجرد البكاء، وهذا البكاء حصل من النبي ﷺ؟ فهذا قد يقوِّي -والله تعالى أعلم- القول بأن المراد بذلك: إما أن النبي ﷺ أخبر عن حال ذلك الميت: أنه كان يعذب في الوقت الذي كانوا يبكون عليه، أو أنه يتألم لبكائهم، وقد يكون هذا أقرب لربما نظرًا لبعض الروايات إذا جمعت، كقوله ﷺ: إن الميت ليعذب[8]، ليس في ميت معين كقوله: إنه ليعذب وإنهم ليبكون عليه[9]، وإنما: إن الميت ليعذب[10]عام، فهل يعذب على مجرد البكاء، كما هو ظاهر الحديث، والنبي ﷺ حصل منه، وقال: إن العين لتدمع، والقلب ليحزن[11]، وهذا يقال له: بكاء، فدمع العين هذا يقال له: بكاء؛ لأن البكاء درجات، وعين بكت من خشية الله[12]، فهل يحمل البكاء على النياحة؟ يحتمل، لكن النياحة قدر زائد عليه، واللفظ الذي جاء هو في البكاء، فيحتمل أن يكون المراد: أنه يتألم لذلك، يعني: يجد في نفسه ألمًا، وفي قلبه عصرة بسبب ما يرى من حال أهله، وما هم فيه من الجزع عليه، والله تعالى أعلم، والله المستعان.

تأتي الأحاديث -إن شاء الله تعالى، وفيها ما يؤكد أن البكاء لا شيء فيه، يعني: مجرد البكاء، ولو علمه من عادتهم؛ لأن ما وقع من رسول الله ﷺ ليس بمنكر قطعًا، وقد بكى ﷺ، إذن حينما يقول: عَلم من عادتهم، أو أوصى بذلك، ينبغي أن يحمل على النياحة، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1.  أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، رقم: (934).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك، رقم: (1306)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة، رقم: (936).
  3. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، رقم: (1289)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم: (932).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، رقم: (1287)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم: (927).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، رقم: (1284)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم: (923).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، رقم: (1287)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت، رقم: (927).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم: (931).
  8.  أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، رقم: (1287)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم: (927).
  9. أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم: (931).
  10. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، رقم: (1287)، ومسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، رقم: (927).
  11. أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي ﷺ: إنا بك لمحزونون، رقم: (1303)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته ﷺ الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، رقم: (2315).
  12. أخرجه الترمذي، أبواب فضائل الجهاد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله، رقم: (1639)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: (6/ 375)، رقم: (2673).

مواد ذات صلة