الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(2) حديث عثمان بن عفان وعائشة رضي الله عنهم
تاريخ النشر: ١٨ / ذو القعدة / ١٤٣١
التحميل: 524
مرات الإستماع: 976

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

نحن في كتاب الفضائل من رياض الصالحين، ومما أورده المصنف -رحمه الله- من أبواب:

"باب فضل قراءة القرآن".

وقد مضى الكلام على بعض الأحاديث التي أوردها فيه، وكان مما ذكره في هذا الباب.

"عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله ﷺ: خيركم من تعلم القرآن وعلمه[1] رواه البخاري".

خيركم ظاهره الإطلاق، يعني: أن خير هذه الأمة من تعلم القرآن وعلمه، وقد أورد بعض أهل العلم على هذا إشكالاً وسؤالاً معروفًا، وهو أنه من تعلم القرآن وعلمه، هل يكون أفضل من علماء الصحابة ومن فقهائهم ممن قد لا يكون معلمًا للقرآن، كأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؟

وقد أجابوا عن هذا بأجوبة:

فبعضهم يقول: خيركم من تعلم القرآن وعلمه خوطب به جماعة من الصحابة ، وأن أفضل هؤلاء الذين خوطبوا به من حضروا في ذلك المقام من تعلم القرآن وعلمه، وليسوا بأفضل من كبار أصحاب النبي ﷺ.

وبعضهم يقول: إن من تعلم القرآن وعلمه حينما يكون الإنسان بهذه المثابة، كما كان حال القراء من أصحاب رسول الله ﷺ فإنهم كانوا لا يتجاوزن خمس آيات، أو عشر آيات، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فيكونون هؤلاء علماء، وأهل عمل، وطاعة، واستقامة، ينضاف إلى ذلك هذه الزيادة، وهي الاشتغال بتعليم القرآن، يعني: يكون فيه من النفع المتعدي، حيث يعلم الناس القرآن، وهذا القول له وجه من النظر، وليس المقصود بذلك -والله تعالى أعلم- أن يكون الإنسان ممن يشتغل بالتلقين، فيتعلم حروف القرآن، ويتلقن، ثم بعد ذلك يلقن، ثم يكون أفضل ممن يعمل بالقرآن، ويفقه معانيه، فيكون أفضل من العالم والفقيه وأهل الصلاح، ولو كان صلاحه ناقصًا، يعني: هذا الذي تعلم وعلم قد لا يكون من أهل الصلاح، فإن الملازمة بين تعلم القرآن، والعمل بما فيه، والفقه بمعانيه قد ترحل كثيرًا بعد زمن الصحابة ، فأصبحتَ تشاهد كثيرًا ما يشتغلون بحفظ القرآن ربما لا يظهر ذلك في سلوكهم وعملهم، فلا يكون هؤلاء أفضل من أهل العلم والفضل، والفقه في الدين، والصلاح، وما إلى ذلك، وإن لم يكن أولئك ممن يُعلِّم القرآن.

ثم أيضًا إن قوله: خيركم هذه صيغة تفضيل، وصيغة التفضيل لا تمنع التساوي، لكن تمنع أن يزيد أحد عليه، فلو أخذنا هذا على ظاهره، وقلنا: إذًا من هم خير الأمة؟ فيقال: من تعلم القرآن وعلمه، وهذا لا ينفي أن يصل إلى المرتبة العليا في الخيرية آخرون، كأهل العلم والفقه في الدين، وما أشبه ذلك، فذكر هذه المزية لهؤلاء لا تعني أنهم أفضل من غيرهم مطلقًا؛ لأن أفعل التفضيل لا تمنع التساوي، لكن تمنع أن يزيد أحد عليه، فيقال: فلان أعلم الناس، فلان أكرم أهل البلد، وما أشبه ذلك، لا يعني أنه لا يوجد من هو بمرتبته، لكن تمنع أن يزيد أحد عليه.

فقوله: خيركم (خير) هذه صيغة تفضيل، وإن لم تكن على وزن (أفعل) كما قال ابن مالك:

وغالبًا أغناهم خيرٌ وشر عن قولهم: أخير منه وأشر[2]

فتستعمل تقول: زيد خير من عمر، يعني أخير وأفضل، وهكذا.

فالشاهد: أن هذا الحديث يدل على أن هذا العمل الذي هو تعلم القرآن وتعليمه: أنه من أفضل الأعمال وأجلها، وأن الإنسان يبلغ به المراتب العالية، يكفي أن نفهم هذا القدر.

ثم ذكر الحديث الآخر وهو حديث عائشة -رضي الله عنها- فقال:

"وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: الذي يقرأ القرآن، وهو ماهر به، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران[3] متفق عليه".

الذي يقرأ القرآن، وهو ماهر به ما المراد بالقراءة هنا؟ هل مجرد التلاوة من المصحف نظرًا بمهارة، فيحسن القراءة، ولا يخطئ، وجيد في الأداء؟

الذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن المقصود ماهر في الحفظ، وليس في التلاوة، ويدل على هذا الراوية التي في البخاري بزيادة: وهو حافظ له[4]، وهذه الراوية إذا جمعت يفسر بعضها بعضًا، فيكون السياق هكذا: الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له، وماهر به، مع السفرة الكرام به، فيكون المقصود: المهارة في الحفظ، والماهر في الحفظ من هو؟ بعض أهل العلم جعل الحفاظ على مراتب: الماهر، ثم المتماهر، ثم المتحفظ، ثلاث مراتب، فتجدون هذا في كلام أبي عمرو الداني، وهو من أئمة القراء، فالماهر عنده: هو الذي لا يخطئ وإذا وقع عنده خطأ تنبه، فأعاده على وجه الصواب، فهذا الماهر، يعني ما يحتاج أحدًا أن يرد عليه.

والنوع الثاني: هو المتماهر، وهذا دونه، وهو الذي يقرأ ويخطئ ويشعر أنه أخطأ، لكنه لا يهتدي للصواب، فهذه مرتبة ثانية.

ثم بعد ذلك يأتي المتحفظ، وهو الذي يخطئ، ولا يدري أنه يخطئ، فضلاً عن أن يهتدي للصواب، هذا عنده متحفظ، يعني لم يصل إلى مرتبة الماهر، ولا المتمهر.

فهنا الماهر هو الذي يجمع بين إتقان الحفظ، وجودة الأداء، يعني بعض الناس قد لا يخطئ، لكنه يقرأ جملة جملة، وكلمة كلمة، ببطء وصعوبة، لكن لو قلت له: اقرأ، وانطلق في القراءة، لا يستطيع، فهذا مع السفرة الكرام البررة، والمقصود بهم نوع من الملائكة، السفرة: جمع سافر، وهم الوسطاء بين الله -تبارك وتعالى- وخلقه في تبليغ الرسالات إلى الرسل، كما قال الله : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] فهؤلاء يقال لهم سفرة، كما يقال للمبعوث: سفير، فهؤلاء سفراء بين الله وخلقه، فهم الذين يبلغون رسالات الله إلى أنبيائه -عليه الصلاة والسلام-، فلما كان هذا يحفظ الوحي، وصار مع هؤلاء الذين قال الله عنهم: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ۝ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ۝ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:13-16] فهو معهم، فهذه الصحف كما أنها في أيديهم (القرآن) كذلك هذا أُلحق بهم، فيكون في مراتبهم، هذا الماهر، وهو يحفظه.

قال: الكرام البررة وصفوا بالكرام، كما قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ [الذاريات:24] الملائكة وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِين [الانفطار:10-11] فالله وصفهم بهذا.

وبررة: أي أنهم مطيعون لله ، محسنون على الدوام.

والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه التتعتع: هو التردد، والتلكؤ، والتلعثم، يعني: وهو حافظ له، وهو عليه شاق له أجران يعني: يصعب عليه الحفظ، ويتفلت عليه، فيكون له أجر على الحفظ والقراءة، وأجر على المشقة، لكن هذا له أجران، وذاك مع السفرة مع الكرام البررة، هل هذا الذي له أجران أفضل من ذاك الذي مع السفرة؟ الجواب: لا، فالمزية لا تقتضي الأفضلية، هذا مزيته: أن له أجران، لكن ذاك في مرتبة أعلى، فهو مع السفرة الكرام البررة.

فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه برقم (5027).
  2. شرح ألفية ابن مالك للحازمي (1/13).
  3. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ: 18] برقم (4937) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع به برقم (798).
  4. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18] برقم (4937).

مواد ذات صلة